صفحات العالم

رهانات المالكي الخاسرة مع سوريا

محمد السعيد ادريس
لم تأت تراجعات حكومة نوري المالكي عن تصعيد الأزمة مع سوريا وتدويلها حسب ما جاء على لسان علي الدباغ المتحدث باسم الحكومة العراقية من فراغ، ولكنها جاءت اضطرارية بعد أن أدركت الحكومة أنها خسرت رهاناتها التي كانت تأملها من وراء هذا التصعيد الذي بدا غريباً ومثيراً بل ومحيراً، نظراً لأنه جاء بعد أقل من يومين من توقيع المالكي مع نظيره السوري في دمشق على تأسيس مجلس للتعاون الاستراتيجي بين العراق وسوريا.
الدباغ الذي كان قد أسرف كثيراً في تعمد التصعيد ضد سوريا وخيّرها بين علاقة طيبة مع العراق أو أن تحتفظ بأشخاص يعادون الشعب العراقي ويقصد قيادات حزب البعث العراقي المقيمين في دمشق والمتهمين بدعم ما يسميه الدباغ وحكومته ب”الإرهاب” في العراق، تراجع عن هذا التصعيد وبدأ يتحدث عن رغبة عراقية في احتواء الموقف مع سوريا عن طريق الحوار، وأن العراق “يريد أن يعطي دوراً للحوار لحل الأزمات مع سوريا”. هذا التحول لم يأت من فراغ وله أسبابه ومبرراته، لكنه يأتي أيضاً بعد إدراك نوري المالكي وحكومته أن معظم رهاناتهم من التصعيد مع سوريا لم تأت بنتائج كانت مأمولة ومرجوة.
رهان المالكي الأول من التصعيد ضد سوريا كان هدفه تحقيق تقدم في معادلة توازن القوى داخل العراق بعد نجاح المجلس الأعلى الإسلامي في تشكيل تحالف سياسي جديد يحمل اسم “الائتلاف الوطني العراقي” ويضم 11 كياناً سياسياً هم غالبية الائتلاف الشيعي الموحد باستثناء حزب الدعوة جناح المالكي. هذا التشكيل ضم المجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري ومنظمة بدر وكتلة التضامن، فضلاً عن تيار الإصلاح الوطني بزعامة أحمد الجلبي، ومجلس إنقاذ الأنبار بزعامة حميد الهايس (سني)، ورئيس جماعة علماء العراق فرع الجنوب خالد الملا (سني)، وتجمع عراق المستقبل بإدارة إبراهيم بحر العلوم، إلى جانب حزب الدعوة تنظيم العراق بزعامة عبدالكريم العنزي وشخصيات سياسية أخرى.
الجعفري الذي وضع شروطاً قاسية للانضمام إلى هذا الائتلاف الانتخابي، منها تمكينه من الحصول على الأغلبية وتشكيل الحكومة القادمة واستبعاد التيار الصدري ومجموعة ابراهيم الجعفري منافسه السابق في حزب الدعوة أراد بافتعال أزمة مع سوريا والظهور بموقف متشدد أن يحقق الزعامة الوطنية التي يريدها وأن ينجح في تأسيس تحالف منافس للتحالف المذكور. لم يكن في مقدور المالكي أن يفجر مثل تلك الأزمة مع إيران وتصور أن سوريا يمكن أن تكون هدفاً سهلاً يمكن النيل منه، لكنه فوجئ بقوة الموقف السوري وتخلي كل حلفاء العراق الإقليميين والدوليين عن دعمه في الصدام مع سوريا، لكنه فوجئ أيضاً بأن التحالفات الداخلية استفادت أكثر منه في إدارتها للأزمة مع سوريا بعد أن ازدادت تماسكاً وصعّدت انتقاداتها ضد المالكي وفندت اتهاماته لسوريا.
ففي الوقت الذي تفجرت فيه الأزمة ضد سوريا وتحميلها مسؤولية انفجارات يوم الأربعاء الدامي في بغداد أظهرت معظم القوى السياسية حراكاً سياسياً ملحوظاً استعداداً للانتخابات العامة القادمة في يناير/ كانون الثاني المقبل، حيث أعلن نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي تشكيل قائمة مستقلة جديدة كان من شأنها إحداث تآكل في فرص المالكي لتشكيل تحالف منافس وقوي للتحالف الوطني، كما سعى قياديون في الائتلاف الوطني العراقي والتحالف الكردستاني إلى تشكيل جبهة برلمانية بعد إعلان نتائج الانتخابات في محاولة لتطويق رئيس الحكومة نوري المالكي.
الرهان الثاني للمالكي كان الحرص على إعادة تجميع القوى السياسية خلفه كبديل لتشكيل تحالفات انتخابية على نحو ما حدث من جانب القوى التي أسست التحالف الوطني. فبدلاً من حصول اصطفاف وطني خلف المالكي ودعمه في موقف التصعيد ضد سوريا حدث اصطفاف ولكن في الاتجاه المعاكس أي اصطفاف ضد تصعيد المالكي مع سوريا، وجاء هذا الاصطفاف من جانب مجلس الرئاسة الذي يضم الرئيس جلال الطالباني ونائبيه عادل عبدالمهدي (الشيعي) وطارق الهاشمي (السني). فقد انتقد بيان صدر عن هيئة الرئاسة العراقية رئيس الوزراء المالكي، وقال البيان إن المجلس بعث برسالة إلى المالكي لتذكيره بأنه لا بد من الرجوع إلى المجلس في ما يتعلق بجميع القرارات السياسية.
ففي حديث مع بعض السياسيين والاعلاميين أشار عبدالمهدي إلى أن التحقيقات التي أجرتها السلطات العراقية تشير إلى تورط القاعدة في تفجيرات الاربعاء الدامي، ما يعني براءة سوريا من اتهامات المالكي وحكومته، كما استغرب عبدالمهدي ان يعقد المالكي اتفاقيات استراتيجية مع سوريا، وبعد يومين يعلن ما يشبه الحرب عليها ويقوم بتدويل القضية من دون علم رئاسة الجمهورية بجميع هذه الأمور.
أما الرهان الثالث للمالكي فكان حرصه الحصول على دعم أمريكي قوي له في منافساته الداخلية في وقت تستعد فيه هذه القوى للانتخابات العامة المقبلة، كما تستعد القوات الأمريكية للرحيل. كان المالكي يأمل بأن يصبح رجل أمريكا القوي في العراق من خلال تجرؤه للتصدي بقوة لسوريا التي يرى أنها حليفة لإيران في محاولة لمغازلة الرئيس الأمريكي الذي يواجه تحديات صعبة في إدارة الأزمة مع إيران.
رهان المالكي على أمريكا فشل هو الآخر بعد أن اختارت أمريكا عدم التدخل في هذه الأزمة، حرصاً على أن تظهر كطرف محايد في التنافس السياسي الداخلي في العراق، وان تكون حليفة لكل الزعماء، وأيضاً على نجاح رهان أمريكا في علاقة متنافسين مع سوريا التي استقبلت قادة سياسيين وعسكريين أمريكيين على مدى الشهرين اللذين سبقا تفجيرات بغداد الدامية.
مع فشل هذه الرهانات لم يأت الموقف العربي مواتياً لرئيس الحكومة العراقية حيث كان موقف جامعة الدول العربية واضحاً.
وهو وضع نهاية سريعة لتصعيد الأزمة، وتوافق هذا المواقف العربي مع الموقفين الإيراني والتركي، ما جعل آفاق التصعيد ضد سوريا مغلقة، وأجبر حكومة المالكي على قبول التراجع الاضطراري، ما يجعل الأزمة قابلة للتمديد سواء مع سوريا أو داخل العراق.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى