تفجيرات بغداد والأزمة السورية العراقية
بدرالدين حسن قربي
يسجل للنظام السوري خصومته التاريخية والعلنية لنظام بعث العراق ممثلاً بشخص رئيسه صدام حسين حتى سقوطه بالطريقة المعروفة. كما يسجل للعلاقات الرسمية تاريخياً بين البلدين تأزمّها الدائم خلال الخمسة والأربعين عاماً الماضية، عدا فترات كانت بمثابة سحابات صيف أوالتقاط الأنفاس للطرفين البعثيين الحاكمين. حتى أن النظام السوري لأسباب عروبية كان يراها وقف في صف الجانب الإيراني أثناء حربه مع العراق، وكانت له مواقفه ومآثره المشهودة في هذه الحرب. وفي السياق ذاته، فإن قواته شاركت في التحالف الدولي الذي خاض حرباً ضد النظام العراقي لإخراجه من الكويت عقب غزوه واحتلاله لها.
وعليه فإنه يسجّل للنظام السوري مأثرة إيوائه للمعارضة العراقية ومنقبة دعمه لها ضد نظام صدام، حتى تمكنت بالمساعدة الأمريكية والبريطانية العلنية والتدخل العسكري المباشر من العودة إلى العراق على ظهور الدبابات والمدرعات الأمريكية أو مدرعات ودبابات المحتلين فيما قيل عنها حينها خصوصاً من سورية. ولئن كان هنالك كلام عن دول بعينها سمحت لهذه القوات والآليات ومعها المعارضون بالعبور إلى العراق لإسقاط النظام بالقوة العسكرية المباشرة المدمرة والباطشة، فإن مما لايقوله هؤلاء مقاومةً وممانعةً، بل ويتناسون بتأثير الجرعات العالية منها، أن هذه المعارضة العتيدة بأفرادها وجماعاتها وكتلها وأحزابها وأطرافها كلها، إقامةً وتدريباً وحركةً وتخطيطاًً وتدبيراً كانت أيضاً عند بلدين جارين للعراق هما سورية وإيران ويضمهما حلف ممانع ومقاوم واحد. ومن ثم فلم يكن عبثاً تذكير السوريين للرئيس المالكي بمناقب نظامٍ كان لاجئاً فيه، والرد على طلبه بتسليم مطلوبين عراقيين: أن لو كانت سورية تسلم اللاجئين لما كان هو في العراق اليوم.
يسجّل للنظام السوري بعدها أيضاً، أنه من أوائل من اعتبر ماقامت به القوات الأمريكية في العراق احتلالاً وليس غير ذلك، وشجع الفصائل العراقية وغيرها ممن كانت لهم نفس الرؤية، وبدأ في دعمها على طريقته فيما يراه مناسباً تمريراً وإيواءً ومساعدة بذريعة طرد الاحتلال، وله في ذلك أيضاً مبرراته وأسبابه، وأصبحت هذه المسألة فيما بعد ورقة بيده. عزّز من ذلك تدفق مئات الألوف من اللاجئين هرباً من الموت والاقتتال المريع، والذين شكلوا عبئاً كبيراً على سورية رغم أن الكثير منهم أيضاً جاء ومعه المال الوفير الذي أفاد السوق الاقتصادية السورية. وإنما الأهم، أنهم باتوا مصدر عون وفائدة في حلّهم وترحالهم، وخزيناً بشرياً هائلاً ومعيناً لاينضب في تجهيز المقاومين وإيوائهم ودعمهم وتحضيرهم وتدريبهم وإعدادهم وتمريرهم. ومن ثم بحسن نية أو سوئها، باتوا ورقة في يد النظام السوري لتضاف إلى الورقة اللبنانية ولتستخدم تلقائياً في تحالفاته ومناكفاته الإقليمية الممانعة والمقاومة.
جاءت متفجرات وتفجيرات الأربعاء 19 آب/أغسطس الماضي في بغداد، بأضرارها البليغة في العدد الكبير لقتلاها، والبالغة في العدد الأكبر إصاباتٍ وجرحى فضلاً عن الأضرار المادية في المباني والمنشآت، وإنما كان أبلغ مفاعيلها في إخراج الحكومة العراقية عن طورها، وإفقادها قدرتها على التحمل أو(الطناش) عما يُعمَل ويُنفَّّذ في العراق من عمليات قتل فظيعة ومريعة تحت شعارات ورايات مختلفة، فضلاً عن أنها فجّرت أزمة حقيقية كانت مكتومة وأخرجتها إلى العلن يمكن لانفجاراتها وآثارها أن تتوالى. فمن يتابع ماجاء على لسان الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ووزرائهم من تصريحات يتضح له أن المسألة أكبر من رمانة التفجيرات الأخيرة التي أطفحت كيل العراقيين، بل وراءها قلوب ملآنة من الأسباب غير المباشرة والعميقة والمرشحة للتصاعد فيما يبدو.
النظام السوري كعادته، نفى أن يكون له أية علاقة بما كان من أحداث تفجيرات الأربعاء الأسـود. ومن ثم فالقضية على هذا النحو لاتخصه ولاتعنيه فيما يُظهر، وأما إن كانت تخص الناس العراقيين المقيمين في سـوريا ممن أشارت إليهم السلطات العراقية، فلقد طالب الحكومة بتقديم حججها وبراهينها ومستنداتها وأدلتها على تورطهم أوعلاقتهم. وريثما تصل هذه الأدلة والحجج والبراهين فلكل حادث حديث، فإما سوف تكون تهماً كاذبة أوتعلّق بآخرين.
هنالك من أشار أن يداً إيرانية في هذه المسألة للمباعدة بين العراق وسورية وأن المنفذين هم جماعة المالكي وميليشيات أنصاره، وأن محاولة إلصاق التهمة مواربةً بمن يؤويهم النظام السوري، لم تكن إلا بروباغندا إعلامية في تمريرها باعتبار جسمه لبيّساً ويحتمل هكذا اتهامات، ولكن الرد الرسمي العراقي الذي لم يكن كعادته كلاماً واتهامات في مثل سابقات هذه التفجيرات، بل علا فيه سقف المطالبة علواً كبيراًً، وركب المالكي أعلى خيله في طلب لجنة تحقيق ومحكمة دولية لكشف المجرمين، وهو مما جعل هذا الاحتمال مشكوكاً فيه بل مغامرة إن كان المنفذون من جهته أنصاراً أو ميليشيات، لأن المحققين والتحقيق دولي، وليسوا عناصر شرطة في أحد مخافر بغداد. على كل حال مهما كانت المطالبة العراقية عالية وكبيرة، فيفترض فيها ألا تهزّ أحداً من البرآء أو ممن يشار إليهم وهم عن جريمة الأربعاء برآء وغافلون، لأنها ستؤكد براءتهم من دمائها، ويحصلون في هالمناسبة على صكّ (لاحكم عليه) دولي.
ولكن مايلفت النظر أيضاً، هو الرد الغاضب والعالي النبرة جداً للنظام السوري الذي يُفترض أنه لاعلاقة له بالجريمة المشار إليها، فاعتبر ماقيل عنه أنه غير أخلاقي، وتم تبادل سحب السفراء فضلاً عن تصريحات واتهامات من الطرفين استدعت حركة الخارجية التركية السريعة للتهدئة بين الطرفين، لأنه أمر مراد.
ومايلفت النظر أيضاً، كلام السفارة الأمريكية في بغداد أن تحقيقات أميركية أولية في الحادث أثبتت عدم وجود صلة لسوريا أو لحزب البعث بالتفجيرات الأخيرة، وأن الهجمات تحمل بصمات تنظيم القاعدة، وتأكيدها أن ذلك شأن عراقي داخلي، ولاترغب التدخل في موضوع تبدو لهم مرجعيته العراقية أسباباً من صراعات داخلية وحزبية، لأنه أمر مراد.
وكذلك تسلّم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الطلب بتشكيل لجنة تحقيق دولية الذي سلمه بدوره لأعضاء مجلس الأمن الدولي، والذين هم بدورهم فيما يبدو أنهم غير مستعجلين في بحثها، لأنه أمر يراد.
ألطف وأطرف مشاهد الأزمة والتقاذف بين الطرفين تصريح باستعداد العراق لاستضافة المعارضة السورية، وكأن هالمصرّح الظريف الفكاهي لايعلم أن السوريين جميعاً عن تصريحه مشغولون، نظاماً ومعارضة، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، كلهم بين لاففٍ وملفوفٍ وملتف، وبين عالقٍ ومعلِّقٍ ومعلَّقٍ ومتعلِّق، ولم يسمع بما سبقه فيه أخوه مدير عام الإذاعة والتلفزيون السوري الأسبق فايز الصايغ قبل سنين ثلاث، بأن المجتمع السوري لايوجد فيه ما يسمى بالمعارضة. فالمجتمع السوري ملتف تماما حول قيادته وحول الحزب وحول الجبهة الوطنية التقدمية وحول الرئيس بشار الأسد، ومن هو في الخارج هم في أغلبهم ممن غادر سورية هرباً من خدمة العلم وأصبحت لديه مشكلات في العودة، فاختار أن يكون معارضاً. ومن ثمّ ليختلف المعارضون أي المصرّحين والتصريحين أفكه وأظرف.
جاءت التفجيرات، والمزاج العام للناس أن النظام السوري تجاوز عقده عزلةً وحصاراً، وأن الأوربيين وأمريكا يخطبون وده ومساعدته لاعباً مع حلفائه ممانعاً مقاوماً، لايمكن تجاوزه في صراعات المنطقة، وجاء الطلب العراقي بالتحقيق والمحكمة إلى مجلس الأمن رغم أن الولايات المتحدة تقول إنها بصمات القاعدة، و جاء حراك الأرطبون التركي وسيطاً للحلحلة والتهدئة، ليتأكد أن الأمور في منتهاها محكومة بمستجدات الساحة وانضباط اللاعبين فيها، ويبقى طلب المحكمة الدولية محفوظاً وجاهزاً لوقت معلوم، وسيفها مرفوعاً لأجل محتوم. وهنالك يخسـر المبطلون.
خاص – صفحات سورية –