التقدّم المدهش في العلاقة التركية – السورية وضيق الأفق اللبناني…
جهاد الزين
في حفل الافطار الذي أقامه أمس الاول رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على شرف الرئيس السوري بشار الاسد في اسطنبول وبتنظيم من فرع “حزب العدالة والتنمية” (AKP) في المدينة، نُقل عن أردوغان قوله لمحيطه من المستمعين ان القرار السوري التركي بالغاء تأشيرات الدخول بين رعايا البلدين هو “شامْ غِنْ” على وزن “شنغن” الاتفاقية المعروفة لتوحيد تأشيرات الدخول الى معظم دول الاتحاد الأوروبي والمتوسعة الآن خارج الاتحاد.
كان رجب طيب أردوغان “يغرّد” اذن سعيدا على أوتار العلاقة التركية – السورية وسط ضحكات تبدو أكثر من مجرد ديبلوماسية يبادله اياها ضيفه السوري. فهذه العلاقة دخلت امس الأول مع اتفاق إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين اللذين يبلغ تعداد سكانهما، تركيا 76 مليونا ونيف وسوريا حوالى 20 مليونا، مستوى استثنائيا من الانفتاح السياسي – الاقتصادي – الامني خصوصا مع ولادة اتفاق آخر كبير قضى بانشاء “المجلس الرفيع المستوى للتعاون الاستراتيجي” جعل وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يضع هذه الاتفاقات تحت عنوانين: دعم الاستقرار في المنطقة والتكامل الاقتصادي متمنيا أن يشمل التوافق على الغاء تأشيرات الدخول الجمهورية العراقية في المستقبل.
ها هي تركيا “النمر” الاقتصادي والديموقراطية (والقوية عسكرياً) إذن تدخل مسافة عميقة إضافية الى المنطقة و”تقطف” ثمرة جديدة من ثمار أحد أبعاد سياستها هو البعد الاتزاني (أكثر من التوازني) في علاقاتها مع محاور المنطقة المتصارعة عندما مدت اليد متفهمة في منتصف العقد الاول من هذا القرن (أواخر 2004 – 2005) الى النظام السوري الذي كان يمر في فترة دولية واقليمية صعبة جدا، مما ساهم لاحقا في تعزيز قابلية القيادة السورية لنقل هذه العلاقة الى مستوى أكثر استراتيجية بعد ان كانت تميزت في السنوات الاولى من عهد بشار الاسد بتحول العلاقة السورية – التركية الى علاقة حسن جوار اثر انتهاء الخلاف على الورقة الكردية مع اتفاق أضنة عام 1998 الذي حمل معه نهاية حرب باردة طويلة بين البلدين.
***
خلافا لما يعتقده، حتى العديد من البعثيين والقوميين العرب، من أصدقاء النظام السوري، فان سوريا ليست مجرد دولة مصطنعة الحدود كغيرها من الكثير من الدول العربية. هي ايضا “دولة قومية” أو شبه قومية، لا لأن حزب البعث يحكمها بخطاب قومي عروبي وانما لأنها في تكوينها منذ الاستقلال الأول عام 1936 (المعاهدة مع فرنسا) والاستقلال النهائي عام 1946 (الجلاء العسكري الفرنسي) هي دولة نجحت حركتها الوطنية – طبقتها السياسية في توحيدها عام 1936 بعد أن جزأها الانتداب الفرنسي عام 1920 الى أربع دويلات هي: دولة دمشق – دولة حلب – دولة العلويين ودولة الدروز.
لهذا، فان الكيان السوري بحدوده الراهنة هو مزيج معقد من عنصرين متداخلين:
1 – الدولة المصطنعة الحدود الخارجية أي حدودها مع الدول الأخرى التي رسمها الاتفاق الفرنسي – البريطاني (سايكس بيكو معدلا) كما رسمتها نتيجة الصراع العسكري في المرحلة الاولى بين الجمهورية التركية وفرنسا.
2 – الدولة القومية أو شبه القومية التي استطاع نضال حركتها الوطنية ازالة الحدود الداخلية بين اربع دويلات تحولت الى دولة واحدة.
هذه السوريا لا هي إذن لبنان أو الاردن أو حتى العراق الدولة المرسومة الحدود برضى أهاليها وبدون رضى بعضهم الآخر ولا هي بالمقابل تركيا الدولة – الأمة المكتملة التبلور تاريخيا التي استقرت حدودها الخارجية بحصيلة القتال المتعدد الجبهات بعد الحرب العالمية الاولى (باستثناء حدودها مع ايران الموروثة اليوم كما هي عن الاتفاق القاجاري – العثماني في القرن الثامن عشر).
هذه السوريا هي التي تدخل في علاقة أكثر ثقة نوعية بتركيا، الدولة العريقة تاريخيا، المتقدمة اقتصاديا (الاقتصاد الـ17 في العالم) التي تحصد حاليا نتائج تحولها بنيويا الى قوة استقرار عميقة في منطقة مضطربة جنوبها وشرقها.
“التاريخي” حاضر بقوة على عدد من حدود تركيا. تأسيس عملي لمرحلة جديدة من العلاقات مع دولة أرمينيا المستقلة، في ملف من أبرز عناوين الصراعات القومية في القرن العشرين، اتفاقية على كل الصعوبات النفسية والسياسية والقومية فيها تفتح بدون أدنى شك لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الاولى على علاقة تركية – أرمنية مستقبلية، سبق ان وصفتها بأن فيها “الاقل من القرن الـ19 والأكثر من القرن الواحد والعشرين”، فاذا تطورت الطرق والحدود لتبادل طبيعي وتنموي بين تركيا وأرمينيا سيساعد ذلك تركيا على التخفيف من حدة التكوين القومي وايديولوجيا الدولة المركزية نحو عسكرة اقل كما سيساعد ارمينيا على قبول التخلي عن احلام “ارمينيا الكبرى” التي تملأ كتب التاريخ المتوهّم لدى الارمن، كما لدى شعوب اخرى والعاجزة عن صناعة مستقبل داخل جبال القوقاز الجنوبية.
على “الجبهة” الغربية ثمة تقدم “عصري” في العلاقات مع اليونان التي كانت حتى فترة قريبة في الاستراتيجية العسكرية التركية جبهة “العدو القومي الاول”… تأخذ الصلات بين البلدين شكلاً تطبيعياً فعلياً داخل الحلف الاطلسي ومع الاتحاد الاوروبي الذي لا يزال يقف عاجزاً عن استثمار التقدم التركي نحو حل لقضية قبرص رغم وجود قوى قبرصية يونانية باتت مهيأة اكثر لهذا الحل رغم سقوط الحل الدولي” على الجهة القبرصية اليونانية لا على الجهة التركية، في الاستفتاء الشهير قبل سنوات.
اريد ان اكرر ما اكرره دائماً مع كل انجاز تركي ديبلوماسي انه على الرغم من الدور الطليعي الذي يلعبه “حزب العدالة والتنمية” في تحويل تركيا تدريجياً من دولة محاطة بالأعداء الى دولة “محاصرة بالاصدقاء” (يحب السويسريون ان يصفوا دولتهم بهذا المصطلح) غير ان البنية الحديثة الديموقراطية التي اوصلت تركيا الى نمر اقتصادي وقوة استقرار في المنطقة ليست من صنع حزب واحد او جهة واحدة في تركيا مهما كانت اهميته اليوم. فهذه الحداثة هي حصيلة تراكم عقود من عمل نخب تركية علمانية سياسية واجتماعية وعسكرية جعلت هذا البلد قابلاً لوصول حزب “اسلامي” بمواصفات “حزب العدالة والتنمية” الى السلطة رغم كل المخاض الصعب والقلق والخطر الذي تمر ولا تزال تمر فيه تركيا.
***
في كلمة الرئيس الاسد في الافطار الاسطنبولي اكثر من جملة ذات اهمية ديبلوماسية. فللمرة الاولى يعلن الرئيس السوري تمسكه بالوساطة – بل استخدم احياناً تعبير الرعاية – التركية في مرحلة المفاوضات المباشرة. لقد تخطى اذن الكلام عن المفاوضات غير المباشرة وان كان اعتبر – في كلمته – انه “لا شريك اسرائيلي” حتى الآن، وان المفاوضات المباشرة يجب ان تأتي حصيلة نجاح غير المباشرة.
ها هو اذن يعلن تركيا شريكاً في كل “مشاريع” المفاوضات مع اسرائيل.
الجملة المثيرة التي استخدمها الرئيس الاسد، وكان يمكن له ان يتجنبها لو اراد، حتى لو ان استخدامها بروتوكولي الآن، الا انه “جوهري” في طبيعة التأثر والتأثير بين البلدين على المدى الابعد، هي عندما قال بالحرف:
“استمعت اليوم من الرئيس اردوغان بالتفصيل عن الخطة الديموقراطية. المسار الديموقراطي… الذي تحدث عنه. وفعلاً هذا المسار ان تم تحقيقه في تركيا فسوف ينعكس على دول المنطقة ومنها سوريا”.
… للقارئ ان يدرس هذه الجملة جيداً، لكن للتذكير ان الرئيس الاسد هنا يرد ايجاباً على جملة وردت في خطاب اردوغان هي التالية:
“اننا نشعر ببالغ السعادة لان سورية تشاركنا في هذا الانفتاح الديموقراطي وفي حال وصول هذا الانفتاح الديموقراطي الى النجاح فإننا سنكون سعيدين جداً…”.
***
اين لبنان، اعني لبنان الرؤية، لا السياسة السياسية التي باتت حتى اقل في يومياتها كأسيرة كاملة للصراع الاقليمي – الدولي؟
علاقة تركية – سورية متينة ستخدم استقرار لبنان لا شك على المدى الابعد. لكن الذي اسأل عنه هنا هو الوضع القاصر التاريخي للبورجوازية اللبنانية، السياسية الاقتصادية، في مواكبة بل في صناعة افق تحديثي تنموي داخل سوريا نفسها أمّ العشرين مليوناً، ذات الريف الشاسع الفقير الذي لا يزال منذ خمسين عاماً خزّاناً للتوترات الايديولوجية والاجتماعية والذي تمارس حياله هذه البورجوازية ازدواجية اكيدة: فهي من جهة تستفيد من رخص عمالته “غير الشرعية” لاعادة بناء العديد من المناطق وفي مقدمها بيروت، ومن جهة ثانية تعتبر هذه العمالة عبئاً سياسياً تضعه في ارث علاقتها المتوترة الآن مع النظام في سوريا.
لا اقفز هنا عن مسؤولية النظام السوري في تاريخ هذه العلاقة. لكني اتحدث عن مفارقة تعيشها البورجوازية اللبنانية هي عجزها التاريخي عن رؤية سوريا الداخلية الواسعة حتى في الزمن “الطليعي” لهذه البورجوازية في الخمسينات والستينات والسبعينات… عندما كانت تلعب دوراً عمرانياً خدماتياً ووسيطاً في الخليج، تغيّر الآن.
البورجوازية التركية، على الارجح، ستحمل معها مشاريع مناطقية ضخمة بل اقليمية في مسار العلاقة السورية – التركية على المستوى الاقتصادي ولن تكتفي بحدود العاصمة دمشق الخدماتي او المقاولاتي. مثلاً، بل تحديداً، كيف يمكن تصور مستقبل مدينة حلب كقطب صاعد مجدداً للازدهار الاقتصادي في مثلث يضم شمال سوريا – جنوب تركيا – ارمينيا؟ فبعض المدن في الجنوب التركي اقرب بنصف المسافة الى حلب ويريفان مما هي هذه المدن الى انقرة فكيف الى اسطنبول الابعد؟
… يكفي ان يقف المراقب (والمريض بالتاريخ مثلي) في القامشلي في اقصى الشمال الشرقي السوري ليشاهد حقول القطن المقطوعة بالاسلاك العسكرية بين سوريا وتركيا… ليعتبر ان اتفاق امس الاول السوري التركي… هو بداية نهاية للوقت الضائع اقتصادياً، بل تنموياً واحدى البوابات الكبرى لدخول سوريا القرن الحادي والعشرين.
فأين بيروت من هذا التحوّل؟
وليلاحظ القارئ انني لم استخدم كلمة “حلف” في وصف العلاقة السورية – التركية… رغم كل اهميتها الاستثنائية.
النهار