بلا سياسة
الياس خوري
يشير الوضع السياسي في لبنان، الى موت السياسة. واللافت ان الناس لا تبالي بالأزمة الحكومية الراهنة، على الرغم من استعصائها. الناس تريد شيئا واحدا، هو عدم عودة مناخات الاقتتال الى الشارع. واللبنانيون باتوا يعرفون، من خلال خبرتهم الطويلة مع الحرب الأهلية، ان قرار الانفجار الداخلي ليس في يد زعمائهم، انه قرار اقليمي ودولي. ولأن الرياح الاقليمية والدولية تقول ان لا حرب في المدى المنظور، فالناس لا تبالي بهذا الاحتفال الصاخب بدفن السياسة، وتحويلها لعبة اطفال، وحشرها في باب النكايات الشخصية، او في لعبة تقاسم السلطة بين الطوائف والمذاهب اللبنانية الكريمة، التي لا تعدو ان تكون مُزاحا، وسط المشكلات التي تواجهها المنطقة.
عام 1984، وعقب بداية انهيار السلطة المركزية وتداعي النظام الكتائبي الذي تسلم الحكم بقوة دبابات الاجتياح الاسرائيلي، عُقد مؤتمر لوزان لتسوية الأزمة اللبنانية.
كان مشهد لوزان مثيرا للشفقة والضحك. تصرّف زعماء الطوائف وامراء الحرب في وصفهم زعماء دول. كل زعيم اتى بمرافقة وفد من المستشارين، وروعيت الاعتبارات البروتوكولية في شكل دقيق. يومها تورمت الرؤوس، اذ صدّق هؤلاء البؤساء انهم يمثلون شيئا حقيقيا، ونسوا او تناسوا انهم دمى.
مشهد لوزان يُذكّر بخيال الظلّ الصيني، حيث كانت تُقسم القاعة الى جزءين، جزء للجمهور العريض، الذي لا يرى سوى الظلال في الغرفة المعتمة، وجزء خلفي للخاصة، الذين كانوا يشاهدون محركي الدمى.
نسي سادة لبنان ان اللعبة لم تعد تنطلي على العامة، حتى وان جلس الناس في الغرفة المعتمة، فالجميع يعرف ان هناك من يقف خلف الشاشة ويحرك كل شيء.
غير ان معرفة الجمهور بأن هناك من يحرك الدمى اللبنانية، لم يغير شيئا في حماسته للعبة الحرب التي كانت تدور. وهذه الحماسة لا تعود فقط الى اسباب تاريخية تعيد تأسيس نواة الكيان اللبناني في التصرفية عام 1860، الى حرب اهليــة وحشية، دامت عشرين عاما. بل تعود ايضا الى العصبية الطائفية، التي يمكن تحليلها سوسيولوجيا وفهم كيف تشكلت، لكن لا يمكن فهمها عقليا، لأنها غير معقولة.
لا استطيع ان افهم معنى التعصب الطائفي، بل اشعر كلما استمعت الى كلام طائفي او مذهبي، انني في مستشفى للامراض العقلية. ومع ذلك فالانتماءات الطائفية، هي التي جعلت وتجعل من المتفرجين، يتحمسون، بل ويشاركون في المسرحية ويموتون فيها. والطائفيون يعلمون ان لا قوام للبنية الطائفية من دون وجود راعٍ خارجي. اي ان شرط تشكل الطائفة كقوة سياسية مشروط بوجود هذا الراعي. ويا ويل الطائفة التي لا تملك مثل هذا السيد، لأنها تندثر لحظة اقترابها من السياسة. وهذا ما يجري اليوم في العراق، حيث تتعرض الأقليتان الآشورية والكلدانية الى خطر الاندثار. وهما اقليتان تعلمتا منذ حماقة الاشوريين في ثلاثينات القرن الماضي عدم التدخل في السياسة كطائفة. ومع ذلك، فإن غياب الحماية الدولية او الاقليمية، وسط مناخ مذهبي مسعور، يقود الى الكارثة.
ولأن الطوائف اللبنانية تعلم ان وجودها مرهون بطبيعتها كدمى، فإنها تعلي الولاء للخارج على ولائها لابناء وطنها، ولاستقلال بلادها. هذا ما شهده اللبنانيون في الرقص المخجل الذي كان يجري في بعض المناطق اللبنانية خلال الاجتياح الاسرائيلي الوحشي عام 1982. وهذا ما شهدناه ايضاً عامي 2005 و2006، وان بصيغ مخففة.
ولاء الطائفة لسيدها الخارجي، والا لا تكون. هذا هو منطق التسويات الداخلية الذي حكم لبنان منذ تأسيس المتصرفية، مرورا بدولة لبنان الكبير، وحرب 1958 الأهلية، وحرب 1975 بكل الحروب التي انجبتها، واتفاق الطائف واتفاق الدوحة والى آخره… اي ان التوازن وتوزيع الحصص الداخليين يتم بحسب التوازن الخارجي.
الاستقرار الذي عرفه لبنان منذ اتفاق الطائف كان استقرارا وهميا، لأنه قام على تسوية امريكية ـ سورية ـ سعودية. سورية شاركت في حرب ‘عاصفة الصحراء’ على العراق، كي تأخذ لبنان، وكان لها ما ارادت، ولكن ضمن تسوية معقدة قضت بمشاركة سعودية فاعلة في ادارة الملف اللبناني، وبتهميش الطائفة المارونية، التي فقدت اي دعم خارجي، بعد حماقة التحالف الكتائبي ـ الاسرائيلي، الذي لم يكن سوى خيانة موصوفة.
المعطيات تغيرت، لكن جوهر المسألة لا يزال اياه. فمسرح الدمى اللبناني لا يزال يعمل، حتى وان تغير اللاعبون. ولأن التوازن الاقليمي والدولي لم يستقر بعد، فمن الصعب على زعماء الطوائف اللبنانية التفكير بحد ادنى من العقلانية، من اجل ان يعبروا ببلادهم المنكوبة هذه المرحلة بسلام.
قد نسأل، ما دامت اللعبة مكشوفة، والناس سئمت من الدمى كلها، لماذا لا يقوم اللبنانيون بتدمير هذا المسرح على رؤوس اصحابه؟
والجواب ليس سهلا مثل السؤال، ليس لأن اليسار مصاب بالتعفن فقط، بل لأن النخب اللبنانية، تآكلت هي ايضا، بسبب رهاناتها على اجتراح الحلول، حتى وان كانت حلولا كاذبة، لأنها وضعت نصب اعينها مهمة ايقاف نزيف الحرب بأي ثمن.
صحيح ان ايقاف الحرب هدف نبيل، لأن انقاذ حيوات الناس من الموت والدمار، اكثر اهمية من اي شيء آخر، غير ان ايقاف الحرب عبر القبول بالمنطق الطائفي امر مستحيل. فالطوائف رغم ما تدعيه من بنى ثقافية واجتماعية، ليست سوى ادوات. والأدوات تؤدي ولا تقرر.
لبنان اليوم بلا سياسة، وسط ازمة سياسية طاحنة. هذه هي مفارقة الأعجوبة اللبنانية الطائفية التي اوصلتنا الى الخواء.
القدس العربي