الصمت علامة خوف من آتٍ أعظم
حسام عيتاني
دخلت مشكلات تتعلق بتدهور الخدمات العامة في لبنان طور الاستنقاع. فلا هي قابلة للحل ولا المعنيين بها بقادرين على تسويتها بالأدوات المتوافرة لهم فيما لا يبدي جمهور «الأهل» اهتماماً بالخروج من الحالة هذه.
تتفق تقديرات المسؤولين السياسيين والخبراء المستقلين على ان قطاعات حيوية مثل الكهرباء، مقبلة على المزيد من الصعوبات في الانتاج والتوزيع. ولا تشفع الاهمية القصوى للكهرباء في الانتاج الاقتصادي وفي انتظام الحياة الطبيعية على مستواها الاجتماعي والعائلي، في العثور على حلول (اذا وُجد من يعتبر نفسه معنياً بالمشكلة هذه، في المقام الاول). الأمر ذاته ينطبق على النقل وارتفاع اسعار المحروقات وموجات من التضخم تؤكد، مرة بعد مرة، هشاشة آليات الرقابة ووقوف الاقتصاد اللبناني برمته على أرجل من خزف مهددة بالتفتت ما ان تتعرض لأقلّ خطر جدي.
جوانب من الصورة أعلاه ترسمها علاقات لبنان الوطيدة بالاقتصاد العالمي والتبعية لمراكزه. لكن ثمة جوانب اخرى محلية الصنع، لا تفسير لها خارج الاسلوب الذي يتدبر اللبنانيون ادارة بلدهم به. يقول القائمون على الكهرباء، على سبيل المثال، انها باتت مشكلة أكبر من ان تحيط بها العلاجات المقترحة. الحجم الهائل من الخسائر السنوية في مؤسسات الكهرباء والذي ينعكس عجزاً في الموازنة العامة للدولة، يعلن من دون لبس ان الخيار الوحيد المتاح هو تحمل المكلف اللبناني اعباء اضافية طالما ان خصخصة القطاع غير واردة في المستقبل المنظور لعوامل تتعلق بعدم قدرته على جذب المستثمرين، من جهة، ولأخطار سقوطه في ايدي احتكار طائفي – سياسي، من جهة ثانية. وبما ان للنوع هذا من المشكلات ديناميته الخاصة، تطورت مشكلة الكهرباء لتصبح متعددة الوجوه، منها المالي المتمثل في صعوبة تغطية الكلفة المرتفعة للتشغيل والادامة، ومنها التقني الذي يظهر في تنامي حاجة لبنان الى الطاقة في الوقت الذي تتقادم فيه مصانع الانتاج وشبكات التوزيع، ما يفرض انشاء مرافق جديدة تزيد بدورها الاعباء على الخزينة العامة. ثمة بُعد آخر تشكله العلاقات العربية – اللبنانية والعربية – العربية مثل استجرار الطاقة من سورية والربط السداسي العربي وإمدادات الغاز المصري، وهنا يجوز الحديث عن متاهات لا أول لها ولا آخر.
يجري هذا كله في الحيز «الموضوعي» (اذا جاز التعبير) للمسألة قبل ان ينتقل الى النواحي السياسية الداخلية. وهذه تتألف من طيف من عمليات الفساد والابتزاز المتبادل والتشهير الاعلامي والهدر المتمادي وما يدخل في ابواب الحياة السياسية اللبنانية ونوافذها الكثيرة. الكهرباء عينة واحدة من تشكيلة الاستعصاءات التي تواجه الدولة بالمفهوم البسيط القائم على اجتماع ينشئ مؤسسات تتولى تقديم خدمات وتحديد قوانين وذلك قبل الوصول الى التعريفات الحديثة للدولة ودور الفرد والعلاقات بينهما. لكن الاستعصاءات هذه، التي لم ينفع في كسر دوراتها وجود حكومات عاملة في الاعوام العشرين تقريباً التي انقضت على نهاية الحرب الاهلية والتي كانت ذريعة ومشجباً تعلق عليه كل ضروب الاخفاق في أداء المؤسسات لمهماتها، لتمد (الاستعصاءات) جذورها الى حقل يتجاوز عمقه نواقص مالية وإدارية تواجه بلداً صغيراً محدود الامكانات والقدرات.
ويغلب الظن ان تضافر المشكلات التي تصيب اللبنانيين في عيشهم، هو جزء من مشهد عام ترتفع فيه الدولة اللبنانية قصراً من اوراق اللعب يجعل محاولة سحب أي ورقة منه معادلاً لهدم القصر على من فيه. فيصعب الحديث عن انهاء التقنين الكهربائي في لبنان من دون ان يرتبط ذلك بفتح ملفات الفساد والصفقات التي تشاركت فيها اطراف وحلفاؤها الاقليميون المختلفون على مدى عقود. وأي كلام عن محاسبة حدّها القانون، يعني الانخراط في معركة سياسية – طائفية قد تنفجر صدامات في الشارع. ولا يخلو من صدق القول الشائع عن ان تغيير حاجب في إدارات الدولة اللبنانية يعادل في صعوبته تغيير النظام برمته. فالحاجب، كما هو معروف ومقبول، حصل على عمله بفضل انتمائه الى شبكة العلاقات السياسية – الزبائنية التي تستفيد من عمل الادارة العامة وتوفر الحماية له في الوقت عينه.
يواجه اللبنانيون او الشرائح الأوسع منهم الواقع هذا بالتجاهل لادراكهم الفطري ان الامور إما ان تكون على الوجه المذكور او لا تكون. بكلمات أخرى، يؤدي غياب القوى السياسية والنقابية والاجتماعية البديلة، الى رفع حدة الاحتكاك بين الكتل الطائفية حول كل المسائل التي تعني الفضاء المشترك للبنانيين الذين يجدون ان من الاسهل لهم تعريف انفسهم كمنتسبي طوائف وملل طلباً للحماية وسعياً لتحصيل الخدمات التي تبدو بديهية في اماكن اخرى، من ان ينسبوا انفسهم الى دولة وكيان لا وجود له وجوداً كافياً ومحسوساً في الواقع.
واذا كانت المشاركة (غير العادلة) في توزيع حصص الدولة ومغانمها، هي العنوان الذي عاشت في ظله الجمهورية الاولى التي ازدهرت قبل 1975، سنة انهيار السلم الاهلي السابق، فإن المشاركة الحالية بين ابناء الطوائف اللبنانية تعني التحمل المشترك لأزمات حكم ولتضاؤل في ادوار المؤسسات والخدمات. يدل على ذلك تواضع مطالب اللبنانيين من الحماية التي يفترض ان تقدمها لهم قواتهم المسلحة، خشية انفراط عقدها اذا تعرضت الى امتحان الطوائف ومطالبها، وصولاً الى سكوتهم عن تراجع حصصهم من الكهرباء والتقديمات الاجتماعية المختلفة، خشية ان يؤدي الاحتجاج الى احتجابها النهائي عنهم. ويحوك هذا على نول الأزمة العامة التي تغلف النظام السياسي وتدفع الى ما وراء الأفق امكانات اصلاحه او الخروج منه.
الحياة