صفحات ثقافية

بحثـــاً عـــن الداخـــل

null
عباس بيضون
قال البعض عن نجيب محفوظ في معرض المديح انه بلزاك عربي لكن البعض استدركوا وقالوا انه متأخر عنا بمئة سنة. انها رواية القرن التاسع عشر، أحببنا طه حسين لكننا لم نفهم كيف يمكن أن نعتبر بحثاً في الشعر الجاهلي نقداً أدبياً. لا نسمي مبحثاً عن هوميروس او فرجيل نقداً. وحين نكتب شعراً نجد من يمتدحنا بالقول أنه يجد في هذا الشعر نَفَساً عالمياً لكن آخر سيقول انه انتحال لنص أجنبي. ليس انتحالاً على وجه الدقة فالمنتحل، كما نعلم، يتقصد أن يحاكي نصاً يعتبره مثاله الأدبي، أما نحن فنتشرب النصوص الأجنبية عفواً ومن دون قصد، ونحن نتفاعل مع النصوص الأجنبية ولا ننسخها. وأيّاً دار الأمر فإن التشرب العفوي لا يعفي من جريرة الاستلاب والاستلاب حال في اللاوعي أكثر منه في الوعي والسؤال هو هل الاستلاب رسم على كل ما الف او اخترع او أبدع من أدب او من فن ضمن الإشكالية الحالية التي تعني أن الشعر وللرواية والفن التشكيلي والمسرح والسينما جميعها حقول تترسم فيها الغرب وتقتفيه، مثالاتنا الأدبية لم تعد في أدبنا والسؤال هو عما نثبته في النصوص من أنفسنا وشخصياتنا وهويتنا. عما إذا كان لدينا ما نثبته. أي إذا كان في النصوص عصب ونبض منا. ذلك ان مثالاتنا في كل علم وفن ليست من بلادنا ولا في لغتنا. اننا نستوحي ما ليس عندنا. المعايير ليست في تراثنا فلكي تكون الرواية رواية والقصيدة قصيدة واللوحة لوحة والمسرحية مسرحية والفيلم فيلماً والبحث بحثاً فإننا نقيسها على نظائرها في الغرب. حتى تراثنا نفسه لا يصمد فيه شيء ان لم يكن له نظير غربي. اننا نقيس الجاحظ على موليير والمتنبي على نيتشه والمعري على دانتي لكي نجد لهؤلاء سبباً ومعنى. وكيف دار الأمر فإننا متأخرون عن مثالاتنا بمدى منظور أوغير منظور إلا انه لا يمكن القفز عنه او تخطيه، وإلا ضاعت النسبة واختلطت الأزمنة. كيف يمكن ان يكون هذا أدبنا وصنيعنا وشخصيتنا ونحن نرجع فيه إلى كل شيء سوى ما يخصنا وما يعود إلينا. بل كيف يمكن أن نبحث عن أنفسنا فيه بعد ان تتغرّب كل هذه الغربة.
البعض يراها فادحة، سمير قصير في تأملاته عن حال العرب اليوم. يرى أننا بالمقومات التي صار الغرب بها قدوة لا نفعل سوى ان نضيّق على أنفسنا ونزداد تدهوراً، لقد تنعمنا بما جعل الغرب مثالاً: المال والموقع الجغرافي وزدنا على ذلك اللغة والثقافة الواحدتين فلم يجعلنا ذلك قدوة ولا مثالاً. بالعكس جر ذلك علينا الكوارث فمن حيث نجح الآخرون أتتنا المصائب ومن حيث تقدموا تدهورنا. تحول الغنى إلى اقتصاد غير منتج والموقع الجغرافي إلى حروب استعمارية واللغة والثقافة الواحدتان إلى نزاعات أهلية. إذا كان الأمر كذلك فما هي حالنا مع الرواية والمسرح والسينما والتصوير. ألا يمكن ان ينقلب ذلك كله وبالاً علينا وهو ليس من عندنا ولم نجربه إلا من أمد قصير ولم نتمرس به ولا قبل لنا بتدبيره وتصريفه، أليس ممكنا أن يكون صنيعنا في الرواية والمسرح والسينما تهافتاً في هذه الأغراض لا قاع له ولا نهاية.
مع ذلك نقول ان شعرنا كالشعر وروايتنا كالرواية وسينمانا كالسينما ومسرحنا كالمسرح وتصويرنا كالتصوير واننا في هذه الأبواب لم نحرز مجداً لكننا أيضاً لم نتهافت ولم نهن أنفسنا ولم نبتذلها كثيراً. من الواضح اننا لا نراكم بالهيّن وان ثمة فلتات لا تستعاد ولا يُبنى عليها. أن ما يلمع لا يمكث طويلاً ويخبو بدون ان يترك محله شيئاً، اننا في هذا المضمار نتقدم نتأخر بلا حساب، واننا نهين أحياناً الفنون التي وردت إلينا ونمارسها بدون تدبر، لكننا مع ذلك لم نكن فيها عقيمين تماماً وأمكن ان ننجب أحياناً، وان نلد ما ليس عاجزاً ولا تافهاً، شعرنا كالشعر وروايتنا كالرواية ومسرحنا كالمسرح وتصويرنا كالتصوير، لا نتحف فيها لكننا لا نجعل منها قاذورة ولا سقطاً.
كيف يمكن ان نقيم المعــادلة الصعبة، ان نصل من الخارج إلى أنفسنا. أن ننفذ من المثال الغريب إلى حقيقتنا. ان نكون أنفسنا عن طريق الآخرين، أن نتوسل الآخر للوصول إلى ذواتنا. أن نتقدم في الخارج خطوات هي ذاتها التي نصل بهــا إلى واقـــعنا، أن نمــشي في الخارج والداخل معاً، أن نحترف الآخــر والذات ســوية، أن نتوسل اللغة الأخرى إلى لغتنا، والخيال الآخر إلى خيالنا، والتراث الآخر إلى تراثنا.
قد يوجد من يقول: دعك من هذا. الطريق واحدة ولو لم نشقها. والمستقبل واحد ولو لم نصنعه. ستكون الرواية ويكون الشعر وتكون السينما والمسرح والتصوير لعبة الأمم كلها، سيكون الفنّ أممياً وواحداً. أقول هذا أيضاً حلم عالمي. أما الآن فالآخرون يطلبون منا أن نكون أنفسنا. يريدوننا أن نمنح من خيالنا ولغتنا. ان يكون عندنا ما نعطيه. المركز إذا وجد يشعر بأنه يفتقر ويفتقر لفرط ما يأخذون منه، ويفتقر لأنه يتعمم ويشيع. لذا يسعى اليوم ليكون «خلاَّطة الأمم» وليكون سوق الدنيا يتبادل الجميع معه وفيه.
المعادلة صعبة بالطبع لكن نجيب محفوظ لا يقاس على بلزاك ولا يقيّم بحسب مدرسته الأدبية فيقال فيه انه من جيل الرواية الحديثة الأول وانه مسبوق بمدارس وأجيال. نجيب محفوظ في رواياته أيا كانت تقنياتها يحمل إلى العالم لوناً مصرياً، هو كذلك في رتابة الرواية وانسدادها وهو كذلك في تناقض الشخصيات واستسلامها وهو كذلك في البيئة والجو واللغة والكلام. وإذا شئنا الكلام عن السياب فما يحضر أولاً عراقيته، لغته المالحة المترجِّعة والمتربة، انينه المكتوم، جوع القصائد وجوع اللغة. السياب ليس في قربه من اليوت وستويل انه في نفاذه من هذا القرب إلى ترابه وعالمه ونفسه. من يكون الطيب صالح إذا لم يكن تململ السودان وتشققه.
هناك كلمة لا نجرؤ على ادراجها لفرط ما نالها من العبث والتمويه هي كلمة «الأصالة» لكن هيديغر الذي لم يكن ميتافيزيقياً اثبتها وقيل في ذلك وسواه انه ميتافيزيق الكينونة. لا أجد مرادفاً للأصالة سوى ألفاظ مسخها التكرار والدوران. لن استعمل «الصدق» لكني أجد ان لفظة الداخل أنسب. إذ يتراءى لي أن الداخل قد يوجد وقد لا يوجد وقد لا يكون سوى مظهر خلّب وإدعاء، سوى قالب فحسب، هكذا لا تكون الأصالة جوهرانية، ويمكن لخارج غني أن يكون طريقاً إليها.

السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى