صفحات ثقافية

بيت بمنازل كثيرة حول الشعر

مازن معروف
سأبدأ مرة أخرى بموت بسام حجار. رحل واحد من أهمّ من كتبوا شعرا منذ الثمانينات. شاعر خاص. رحيله جرعة هائلة من الحزن تسبح في عروقنا. جرعة أفقدتنا توازننا لبعض الوقت. لكن الموت أحد فروع  الحياة، والحياة أحد فروع الشعر. الكثيرون لم يسمعوا قبلا ببسام حجار، والبعض قال إن موت بسام حجار يعني أن إسمه تَجَلَّدَ فقط. بسام لم يكن ظاهرا بالمعنى الفيزيولوجي. كان أشبه بكائن خفي، شبح لا وجود إلا لاسمه عبر مترجماته وشعره. موت بسام حجار أيقظ في ذاكرتنا بعضا من أسئلة قديمة لم تكن بذلك المبلغ من الجدية. فلماذا عندما يموت شاعر، تكثر هالاته البيضاء وترانا منشغلين في الكتابة عنه وكأنه عصفور سقط في محرك طائرة بوينغ؟ قال لي ناشر كبير منذ بضعة أيام إن مثل هذه الأمور لم تعد تحدث في أوروبا. أعود، لماذا تَكَرُّر الأسماء الشعرية والأدبية ذاتها في الظهور على ورق الجرائد، عند موت كل شاعر أو أديب، حتى لتحسب أن هؤلاء لا يحتفون بالميت فحسب، بل ويحتفلون بالموت أيضاً؟ لا أقصد أن أكون شريرا. الموت حقيقة كامنة في الفن، وإن اختلف الفلاسفة حول شرعيتها كحقيقة. وكل حقيقة هي حدث صافٍ. أفلا ينبغي عندئذ لمن يكتب عن بسام حجار (وأنا واحد من هؤلاء) أن يكون واحدا ممن هم على معرفة به، مما يعطي النص المكتوب صدقية تتوازن على الأقل وصدقية الموت؟ فأنا مثلا لم ألتق ببسام حجار البتة، وعليه، فهل نحن دجالون أمام الموت، واذا كنا فعلا كذلك، أفهو لأن الموت هاجس ننشغل به منذ وعينا المبكر؟ أما الأمر الثاني فهو حول الشعر نفسه. فأن يموت شاعر كبسام حجار ولا تصيب شظاياه الا بعض المشتغلين بالأدب والشعراء خصوصا، ذلك يعني أن الشعراء جميعهم ميتون قبل أن يموتوا. فهم اذا ماتوا لن يحزن لأمرهم الا رفاق “الصنعة”. وكأنهم ديناصورات عملاقة، قوية جدا لكنها عاجزة عن التكاثر وهي محكومة بالفناء لا محالة. وعليه، لماذا يحدث أن تجد في بيروت عشرات الشعراء من دون أن تجد حركة شعرية ما، على الأقل واحدة؟ كل شاعر منعزل في كتابة الشعر على هواه، وتعدد الأسلوب الكتابي محضر خير، لكن أين الموقف الشعري العام مما يحدث في العالم من تطورات سياسية وثقافية واجتماعية، ودخول مفردات جديدة كالراب (على سبيل المثال وليس الحصر)، ميتم الفن عموما؟ هل اجتمع شعراء بيروت مرة من أجل إنقاذ الشعر، ومن أجل تحفيز العامة نحو التفاعل معه، سلبا أم إيجابا، لا يهم؟ إحدى أكبر المشكلات تكمن في غياب المهرجانات الشعرية عن هذه العاصمة بالذات. وكأنها ممنوع عليها ذلك. إننا كشعراء شباب، لم تتح لنا فرصة التلاقح الشعري مع شعراء أوروبا او آسيا أو أميركا، ونحن على خلاف جيل الريادة الشعرية الثالثة، يحمل كل منا بوصلة طائشة، ويريد أن يهدم ويبني، ويهدم ويبني الى ما لا نهاية. نحن ببساطة في حاجة الى اطلاق مانيفستو شعري، في حاجة الى أن نجتمع ونناقش، أن نضع أفكارنا على الطاولة الكبيرة لتصبح قبيلة من النمل النشيط، الذي يستطيع العمل حتى لو لم يكن هناك نجمة تضيء من بين الغيوم. موت بسام حجار وضع في وجوهنا بريقا أصفر يبشر بموتنا إذ لم نكن أكثر جدية في شأن الشعر الذي نزعم تعاطيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى