عن القنبلة التي في اليد: الفارق بين الميديا والإعلام
بكر صدقي
ترى ما المشاعر التي غرق فيها ذلك الجندي التركي الذي ضبطه رئيسه متلبساً بالنوم أثناء نوبة حراسته، فعاقبه بأن وضع في يده قنبلة جاهزة للانفجار؟
لقد صمد الفتى خمساً وأربعين دقيقة والقنبلة في يده، قبل أن تنزلق من بين أصابعه المتعرقة وتنفجر فتقتله مع ثلاثة من رفاقه.
نعرف مما تناقلته الصحف التركية أن الفتى لاحق قائده العسكري طيلة ذلك الوقت وهو يتوسل إليه أن ينقذه. وقال الفتى إنه لم يبق لتسريحه سوى شهرين ونصف الشهر. لا بد أنه شعر بما يشعر به المحكوم عليهم بالإعدام، حين يقترب موعد التنفيذ. بيد أنه تعلّق بأمل أن يتراجع الضابط المناوب عن عقابه الجهنمي، فحاول استعطافه بتذكيره بأنه على وشك الانتهاء من “خدمة العلم” والعودة إلى قريته.
يمكننا الافتراض إذاً أنه فكّر، في غضون الخمس وأربعين دقيقة الأخيرة من عمره، بقريته وأمه وأبيه وإخوته وأخواته ورفاق الطفولة والصبا، وربما بفتاة وقع في غرامها، ابنة العم أو الجارة أو غيرهما. لعله فكّر في أشجار قريته وكلابها وماشيتها ودوابها. لعله فكّر في الحصاد والبيدر ورأس النبع ونجوم الليل. لعله فكّر في الباص الذي سيقلّه إلى الضيعة، وفي استقبال الأم الحار الغريزي.
لعله لم يفكر في أي شيء من ذلك كلّه. لعله شعر بالعار لنومه أثناء نوبة حراسته. فالوطن في خطر دائم كما علّموه. الخطر هذا لا يكمن دائماً على حدود البلد الخارجية، بل وراء كل صخرة أو شجرة، وراء وجوه الناس وتحت ثيابهم وفي أغوار عيونهم. الوطن الذي يعرفه المجنّد المغدور، قام على الدم التركي الخالص، ومحاط بالاعداء والمؤامرات من كل الجهات. ليس على المجند فقط، بل على كل مواطن تركي أن يبقى متيقظاً لمؤامرات الأعداء وامتداداتهم في داخل الوطن، يريدون تقسيم تركيا والنكوص بها إلى عصور الظلام.
“ما أسعد من يقول إنه تركي!”. ليست هذه السعادة بلا ثمن، والجندي حامل القنبلة الجاهزة للانفجار، عليه أن يكون سعيداً على رغم ذلك لأنه يستطيع أن يهتف عالياً لحظة انفجار القنبلة به وبثلاثة من رفاقه: “ما أسعدني لأنني تركي!”.
تذكّرنا هذه العبارة المحفورة على الصخور والجبال في أرجاء الأناضول وعلى جدران المدارس والمباني، بأغنية “وطنية” سورية يقول مطلعها “أنا سوري يا نيالي!”. هذه عبارة من مفارقات الخطاب المهيمن، تتعارض مع العقيدة البعثية القائمة على الهوية العربية. بل يمكن القول إن نظام البعث لم يعترف يوماً بالكيان السوري هويةً للسوريين. أكثر من ذلك: حقّر هذه الهوية في عبارة “القطر السوري” مقابل الهوية العربية والوطن العربي. بيد أنه، من غير إعلان، شكّل هويةً سورية، وطنية سورية، عصبية سورية، تماهت مع النظام الحاكم وشكلت عامل استقطاب إزاء “الخارج”. الخارج هذا، هلامي يتحدد في كل مرحلة بأعداء وخصوم محددين، لا يلبثون أن يتحولوا إلى “أصدقاء” أي “اللا-خارج”، في حين يتحول “أصدقاء” الأمس إلى “خارج” جديد. ليس في هذه التحولات من معيار ثابت يحيل على مصالح وطنية عليا أو مصالح الدولة، بل دائماً ظروف طارئة غير متوقعة. لعل الثابت الوحيد هو مصلحة النظام في البقاء والقوة. فإذا جعلت مفهوم “الوطن” في أذهان المحكومين، مرادفاً لمصالح النخبة الحاكمة، بات تحديد “الوطن” و”الخارج” على التوالي ممكنين بفضل “إعلام” ليس من شؤونه نقل الخبر والوقائع ولا تحليلها، بل وظيفته الوحيدة إعلام “المواطنين” بكيف يجب أن يفكروا في ما تعلق بتحديد “الوطن” و”الخارج” المعادي له.
وظيفة “الإعلام”، والحال هذه، هي الإعلام فقط، وتقوم مقابلها وظيفة التلقي، تلخصها العبارة العسكرية الوجيزة “عُلِمْ!”.
تقول القيادة للرعية: اليوم عدوّكم الدولة الفلانية أو الحزب الفلاني أو الزعيم السياسي الفلاني، ويقول قارئ الجريدة الحكومية أو الخاصة، ومشاهد التلفزيون الحكومي والخاص، ومتابع إذاعات الـ”اف. ام” بصوت واحد: “عُلِمْ!”، وتضج الملاعب الرياضية بهتاف “عُلِمْ!”، ويزأر الجنود والمجنّدون وطلاب المدارس والجامعات في تحية العلم كل صباح: “عُلِم! عُلِم! عُلِمْ!”…
لمناسبة عيد النصر الذي يتم الاحتفال به في الثلاثين من شهر آب من كل عام، غطّت إعلانات طرقية ضخمة شوارع المدن والبلدات التركية، كان شعارها لهذه السنة “جيش قوي، تركيا قوية!”، والمعنى المضمر- المكشوف هو أن قوة تركيا من قوة جيشها. بيد أن في تركيا هامشاً يتسع باطراد من حرية التعبير وقوة متنامية للإعلام، دفعت بكثير من كتّاب الصحافة إلى تحليل هذا الشعار ونقده. فقال البعض منهم إن العكس هو الصحيح، فقوة الجيش نتيجة لقوة تركيا، وهذه اقتصادية وسياسية وثقافية ومكانة إقليمية ودولية قبل قوتها العسكرية. وحلّل بعضٌ آخر الشعار على أن توكيد قوة الجيش دليل على ضعفه في المعادلة الداخلية للنظام، ضعفاً تفاقم في الأشهر الأخيرة لصالح السلطة السياسية الممسكة بزمام المبادرة، بعد تاريخ طويل من وصاية العسكر على الحياة السياسية والعامة.
في هذا التوقيت، والمجتمع التركي يناقش سبل الحل السلمي لمشكلته الكردية، وقف رئيس هيئة الأركان إلكر باشبوغ أمام وسائل الإعلام ليحدد “خطوطه الحمر” في ما خص وحدة الدولة ونظامها العلماني ووحدة الشعب والأمة. وفي صباح اليوم التالي صدرت جريدة “الطرف” اليومية المعروفة بمناهضتها للوصاية العسكرية بمانشيت عريضة: “أيها الجنرال اهتم بشؤونك!”
لم تمض أيام معدودة حتى كشفت الجريدة نفسها ملابسات مقتل الجنود الأربعة، الذي وصفته قيادة الأركان بالحادث العرضي، وكان أن أرغمت قيادة الأركان على تصحيح روايتها الأولى والإعلان عن اعتقال الضابط المسؤول عن مقتل الجنود الأربعة وبدء التحقيق المسلكي معه.
كشف هذا “الحادث” عن مدى هشاشة الجيش الذي حاول استعراض عضلاته بشعار “جيش قوي، تركيا قوية”. ليست المشكلة هي وجود ضابط مريض نفسياً حدث أنه عاقب جندياً بطريقة الإعدام عن سابق إصرار وتصميم، على طريقة بطل الفيلم الأميركي
the punisher
، ولعله تعلم من الفيلم وتأثر به.
المشكلة في جيش يربّي أفراده على ذهنية تمجد العنف والعصبية والوطنية وعقلية المؤامرة والخطر المحدق والتراتبية العسكرية التي تبيح للأعلى رتبة أن يفعل ما يشاء مع جنوده.
ترى كم من “الحوادث” المماثلة وقعت في صفوف الجيش التركي ولم تكشف الميديا عن ملابساتها الحقيقية؟
أي قنبلة جاهزة للانفجار، نمسك بها في أيدينا ونسمّيها الوطن؟
أي قنبلة في اليد هي لبنان، أي قنبلة هي سوريا والعراق ومصر واليمن؟ ¶
أي قنبلة هي نحن؟