من يقول علناً : أنا صعلوك؟
غازي سلامة
وقفت عند أبواب صنعاء و قلت في نفسي:
هذه مدينة مثقلة بالتاريخ و الأساطير . و بعد عشرين عاماً هبطت من أعالي جبال عسير إلى وادي رجال ألمع
كان الوقت مساء و قد رأيت التاريخ جاثماً نائماً منذ آلاف السنين. هنا قلت في نفسي (لهذه الأسباب نحن متعلقون بالتاريخ) حتى أصبحنا كائنات تراثية يعيش فينا التراث في كل لحظة من حياتنا كما يقول الدكتور حنفي
و.. مع هذا يبدو المشهد في الواقع العربي متخماً بالأسئلة و التساؤلات و ممتلئاً بالمفاجآت و بصخب اجتماعي (قد يأتي ذات يوم) فلقد عرفنا في التاريخ كيف تنفجر الاحتقانات .
و هكذا نجدنا نعيش في تاريخ جاثم على صدورنا منذ أكثر من ألف عام.. و .. إلى ذلك هناك من يتحدث عن مفاجآت في أرض المفاجآت؟
– 2-
هناك من يخاف علينا و على هويتنا من غزو ثقافي يهدد ملبسنا و و غذاءنا و طرائق عيشنا و تفكيرنا و أحلامنا أيضاً
أي غزو هذا و أية ضحية؟
الراحل السوري الكبير الياس مرقص ضحك من هذا الغزو و على أوهامه قال ذات يوم :
إذا كانوا سيغزوننا بديكارت فذلك شيء آخر .
و.. لكن ماذا يقول فقهاء الجمود على التقليد و ماذا يقول شاغلو عقولنا بحراسة الماضي؟
-3-
قبل أيام وجدتني منشغلاً بالصعلوك و الهرطوق و تساءلت :
لماذا أصبح الصعلوك و الهرطوق من (سقط المتاع) في حياتنا ؟
الصعاليك جماعة من العرب في عصر ما قبل الإسلام (لم يعترفوا بسلطة قائمة) و كانوا خارجين عن القانون ، و لذلك تم طردهم من خيمة القبيلة و كان منهم شعراء مجيدون .
فتحية بعد أكثر من آلاف عام إلى عروة بن الورد و إلى الشنفرى الأزدي و الخطيم بن نويره و تأبط شراً !
الصعاليك يا سيدي أصحاب مشاعر بوطأة الظلم و الفقر فذهبوا إلى نصرة الفقراء البائسين
فمن هو صعلوك فليقل علناً :
-4-
و.. لكن في زمننا هذا ثمة هراطقة ؟
يقول المفكر السوري البارز جورج طرابيشي في (هرطقات) إن الهرطوقي ليس الذي يحترق بالنار بل هو من يشعل المحرقة.
و .. إلى ذلك سؤال:
كثيراً ما تساءلت لماذا يغلي في دمي حب الهراطقة؟
يقول هاشم صالح المفكر السوري المقيم في باريس :
ينبغي أن تكون جورج طرابيشي كي تطرح سؤالاً بليغاً كهذا ؟
و لكن يا صديقي لا يوجد مفكر واحد في العالم (له معنى) إلا و هو مهرطق بشكل أو بآخر (فإذا لم تكن مهرطقاً) فهذا يعني أنك كاتب امتثالي تكرر ما يقال لا أكثر و لا أقل .
و لقد حاولت أن أكون مهرطقاً فوجدتني في حقل ألغام إذ ثمة أسئلة مستحيلة (حتى الآن ) تثير مخاوف الرقباء و المؤسسات و قد تدفع إلى التظاهرات و.. إلى عنف أيضاً .
-5-
التاريخ مازال جاثماً فوق صدورنا كما هو الحال تماماً في جبيال ألمع التي زرتها مساء ذات يوم . و كذلك هو الحال في صنعاء المثقلة بالتاريخ و الأساطير و.. كذلك نحن المقيمين فوق هذا الممتد من المحيط إلى الخليج .
نعم .. التاريخ مازال نائماً و جاثماً فوق صدورنا .
و ما حدث للمفكر المصري سيد القمني يمكن أن يحدث لأي (أنا) تريد أن تتمرد على الموروث و تفكر بصوت مرتفع .
فماذا حدث؟
سيد القمني مهدد بالسكين التي حاولت (جز) عنق نجيب محفوظ و بالمصير الذي انتهى إليه فرج فوده و حسين مروة و مهدي عامل و آخرين على الطريق العام أو في الشارع الخلفي .
و .. في أوروبا اضطر غاليليو للاعتراف بأنه كذاب و دجال أمام السادة الموقرين و المحققين ضد كل قضية (هرطقة) و فسق في جمهورية الكنيسة الرومانية الكاثوليكية المقدسة .
قال غاليليو:
أنا أعترف و أؤكد وجوب أن أترك نهائياً الضلالة القائلة بأن الشمس هي مركز العالم و لا تتحرك .
و..لكن ماذا حدث بعد نحو360 عاماً
في عام 1992 الكنيسة الكاثوليكية تعترف بخطئها و تعلن رسمياً أن غاليليو كان على حق و أن نظريته بخصوص النظام الشمسي كانت صحيحة .
و.. هكذا كان غاليليو الهرطوق الأول !
و .. في هذه الأيام يخرج علينا المفكر و الفيلسوف أيضاً الدكتور أحمد برقاوي بثلاثة دفعة واحدة (أي ثلاث كتب) الأول (أنا) و الثاني (الأنا) و الثالث (كوميديا الوجود الإنساني) و فيها محاولة لإعادة الاعتبار لـ (الأنا) التي ضاعت عبر تاريخنا في الـ (نحن) .. فهو متمرد في هذه الأيام من أجل (أنا) حرة و بارزة حرة .
أراد الدكتور برقاوي أن يقول لنا أن التفتح الحر للفرد هو شرط التفتح الحر للمجتمع و.. الكلمات الأخيرة ليست لي (أنا) إنما لكارل ماركس الذي بدأ يظهر في حياتنا مرة أخرى .
ما لم يقله البرقاوي يعرفه جيداً و هو (أنا) ظلت مقموعة عبر تاريخنا وصولاً إلى ثقافتنا الشعبية
ألم تسمع بالمثل الشائع :
أعوذ بالله من كلمة أنا ؟