نشأة الأصولية الإسلامية (صراع الأنا والآخر)
أحمد لاشين
“لا شئ يشبه الفكر الأسطوري،أكثر من الأيدلوجية السياسية” (كلود ليفي شتراوس)
يظل الفرد هو الضحية الوحيدة الناتجة من صراعات متعددة تراهن على تملكها له بل وتسعى إلى ذلك جاهدة، فكيف بمكن للفردية أن تحقق ذاتها في إطار غياب دور الفرد في عالمنا المعاصر، فمأزق مجتمعاتنا أنها ما زالت في مرحلة صياغة لهوية جديدة في مرحلة ذوبان لمفهوم الهوية ذاته، في ظل التفاعلات العالمية التي تحارب الفردية والهوية الخاص تحت مسمى العولمة والكونية، مما حتم ردة أصولية للثوابت الأولى المجسدة في الدين، وذلك لغياب المشاريع القومية الكبرى إن صح التعبير، لتطرح الأصولية الدينية صورة أخرى للعالم الإنساني تقاوم بها العولمة، مع تعدد أشكال المقاومة بداية بالحركات والجماعات الإسلامية مثل الإخوان أو القاعدة، وصولاً لكيان الدولة في إيران على اختلاف المناهج والمذاهب، ولكنها كلها نتاج ظرف تاريخي واحد.
فالعولمة من حيث بنيتها الفكرية الأولى تعتمد على إزالة الحواجز الزمانية والمكانية، وتوحيد الهم الإنساني تحت المفهوم الكوني،مع تجاوز لكل العوائق القومية والعرقية والدينية والمذهبية بكل تجلياتها للوصول إلى أعلى مرحلة دمج ممكنة بين المجتمعات، في محاولة لتعديل المسار الإنساني الذي عانى قروناً طويلة تحت طائلة الصراعات الإختلافية. مما يُعطي للعولمة قيمة الضرورة وليس مجرد حالة من الترف الفكري.
ومن أهم المشكلات التي تصطدم بها العولمة الهوية بأشكالها المتعددة (القومي ـ الديني)، فمن الناحية التاريخية فإن الهوية القومية من المشاريع السياسية والإقتصادية التي تكاملت مع المجتمعات الرأسمالية الحديثة في المجتمعات الغربية، وبداية المشروع الناصري والصراع مع الكيان الإسرائيلي في المجتمع العربي. فحاولت الحكومات إيجاد مساحات تعزز بها حالة الفصل بين (الأنا) و(الآخر)، وتوجيه الخطاب (المتجسد في إعلام وتعليم)، لإنتاج فكرة واحدة تهدف إلى الربط بين الفرد داخل إطار الهوية القومية.
ولكن مع ما وقع فيه الخطاب القومي من مشاكل سياسية (كحرب 1967 )، وما استتبع ذلك من إنزلاقات إقتصادية، أدى في النهاية إلى إنهيار المشروع القومي ذاته. ومع ظهور الإتجاهات الإسلامية السياسية في المرحلة التالية، وإنتشار ما يُسمى بالهوية الإسلامية، وأتى ذلك متزامناً مع مشكلة النفط والدور الإقتصادي الهام الذي قام به وتحوله إلى المصدر الأساسي والوحيد للطاقة، وتأثير كل ذلك على المجتمع الدولي بشكل عام والعربي خاصة. إنتقل الصراع إلى مرحلته التالية متجسداً في العلاقة بين النفطي (الإقتصادي)، والإسلامي (السياسي). وظهور ما تم تسميته بالإرهاب الديني وما شكّله من خطر حقيقي على المجتمعات الدولية،خاصة ما أنتجته الهوية الدينية من صراع بين القومي والديني.
كل تلك العناصر منفردة أو مجتمعة أدت بالمجتمع الدولي إلى إحتياج حقيقي للتوصل إلى نسق يضمن له السيطرة الكاملة على كل موارد الطاقة في المجتمعات العربية والشرق أوسطية، ويمكنه كذلك من إعادة التحكم في الأنظمة الإرهابية.خاصة وأن معظمها نتاج الحرب الباردة ومحاولة كل من الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي من خلق مناطق ملغمة يضمن لها فرض السيطرة على مناطق نفوذ الآخر. فكانت تلك المناطق بمثابة منتج ضخم لكل أشكال الإرهاب بعد ذلك، خاصة بعد توقف الحرب الباردة، وفشل الإتحاد السوفيتي في الصمود أمام المتغيرات الإقتصادية الضخمة التي أنتجها منافسه الأمريكي فكان انهياره التام ككيان متصل ومستقل (يُجسد الآخر).
* الأنا والأخر (نظرية الإنعكاس):
للعولمة مفاهيم متكونة وليست كاملة، فهي مرتبطة بالعديد من التغيرات الفكرية والاجتماعية والسياسية، فلا يمكن الوعي الكامل بها إلا برصد تلك المتغيرات على الساحة الدولية في إطار من الجدل. فمن المستحيل تخيل محاولات السيطرة والهيمنة التي تفرضها العولمة دون تخيل السلطة البديلة أو المقاومة. وبالتالي فإن العولمة تنتج مفاهيمها الخاصة تبعاً لما تتخيله من صور المقاومة المتعددة، أي التأكيد على افتراض مبدئي يؤكد على الصراع الجدلي بين (العالمي ـ القومي)، و(القومي ـ العالمي)، والمحصلة النهائية للصراع هي المحصلة الصالحة للتطبيق على الساحة العالمية أو العربية.
فالعولمة تعمل بشكل دائم على إضعاف المجتمعات منفردة وبالتالي التقليل من سلطة الحكومات مستقلة، خاصة وأن تلك الحكومات هي نفسها مشاركة في صنع العولمة (بإرادة كاملة أو تماشياً مع الواقع الدولي) وذلك بقبول الإنفتاح الفضائي والمعلوماتي على بقية العالم.وكذلك تمكين الشركات متعددة الجنسيات من الإقتصاديات المحلية. وبالتدريج تحولت الحكومات عامة والعربية منها بشكل خاص إلى سياقات منفصلة عن الواقع الاجتماعي، مما إستلزم مواجهة بين المجتمعات وحكوماتها خاصة مع زيادة الوعي الإجتماعي العربي والشرق أوسطي عامة بقيمة القومية، فأشكال المقاومة تلك تُعد إنعكاساً أو رد فعل على مفاهيم العولمة الدولية ولكن تتم المواجهة ضد الحكومات مباشرة. وأهم صور مقاومة الهوية القومية للعولمة مجسدة على مستويين رئيسيين وهما:
1ـ الحداثة والصراع على الفرد:
في المرحلة السابقة عن وجود الحكومات الهيكلية المركزية في المجتمعات العربية، كان هناك شكل إجتماعي آخر يعتمد على اللغة أو الدين أو العرق،للتأكيد على تعدد أشكال الهوية، ولكن مع ظهور الحكومات وتشكيلها تحولت تلك الأشكال إلى مفهوم الهُوية القومية في محاولة لتذويب تلك الفروق الداخلية داخل إطار واضح الحدود الجغرافية،خاصة مع تحميل الحكومات برموز الخلاص والحرية. ولفترة طويلة ظلت القضايا القومية أو الوطنية هي صاحبة السطوة على الإتجاهات الإجتماعية. ولكن مع تغير الظرف التاريخي العربي وإنهيار الفواصل الإفتراضية بين العرب والكيان الإسرائيلي (بوصفه الآخر) خاصة في مجال التطبيقات السياسية العليا. وفشل الحكومات العربية في الموازنة بين تتبع مسيرة العولمة وبين خلق قضايا قومية. تغيرت الإتجاهات الإجتماعية وظهرت الإختلافات العرقية (كقضية الأكراد)، والدينية (كالخلاف بين متبعي الدين الإسلامي والمسيحي)، أو المذهبي (السني ـ الشيعي)، وظهرت محاولات إحياء المحليات الصغيرة ذات اللغات أو اللهجات المحلية المغايرة (كقضية النوبا في مصر، أو دارفور في السودان). ممى أدى إلى تشتت الهويات من الكليات إلى التفاصيل المجتمعية المبعثرة والمتصارعة داخل الحدود الجغرافية الواحدة.
إلا أن هناك خطابا عاما ظل ذا رواج لفترة طويلة، وهو الخطاب الحداثي وعلاقته بالهوية القومية، فالهوية تشكلت في فضاء الحداثة ذلك الفضاء الذي لا يُعرّف الإنسان بوصفه نهاية ذات بداية إلاهية، (فكوزمولوجيا) الحداثة تعتمد على إنتاج آخر له ملامح وحدود واضحة، فهوية الحداثة تعتمد على الآخر ووجوده الدائم، وبالتالي التأكيد على قيمة الفردية بعيداً عن أي كونية قد تضعفه، حتى يحقق ذاته أمام الآخر.
وعامة فإن شعوب الشرق الأوسط والعربية بشكل خاص، لم تتعرف على الحداثةـ تحت هذا المفهوم ـ إلا من خلال الإستعمار، أو الإحتكاك المباشر كما حدث في مرحلة الإحتلال النفطي حالياً كما في العراق أو التواجد الأمريكي المكثف في الخليج عامة، وبالتالي تُعد الشعوب العربية مستهلكة لتلك المفاهيم الحداثية فما يشغله الفرد داخل المجتمع يُحدد هويته الخاصة. ولكن مع ما تم من إنهيار للعديد من الملامح الطبقية الإجتماعية، عملت الإتجاهات الحداثية على خلق إنفصالاً مبدئياً بين المفاقيم القومية والجذور الثقافية الواحدة للمجتمع العربي، وبين أهداف الفرد وعلاقته بالجماعة، فالفرد منتمي للجماعة التي تحقق له ذاته ويحققها. أي أنه لدى إستخدام الإتجاه القومي للمفاهيم الحداثية لم يُدرك أنه يُحطم مفهوم الهوية ذاته من أسسه الأولى، لأنه ـ ومن جانب معرفي ـ فإن مفهوم الهوية يعتمد على ذوبان الفرد في المجموع مما ينسحب على سطح الممارسة يشكل رد فعل جماعي واحد أمام القضايا الكبرى الموحدة. أما الليبرالية عامة فتؤكد على “عقل شمولي” ـ كمصطلح كانطي ـ تعمل على طرح كل الإختلافات جانباً والعمل للصالح العام، وإن كانت لا تعمل على إلغاء الهوية التاريخية وتكتفي فقط بمحو التناقضات ما بين الهويات المتعددة لصالح الفرد الواحد الذي يحقق ذاته ضمن مفاهيم المواطنة المطلقة دون هوية محددة. إلا أنها وبهذه الآلية تلغي كذلك الهوية القومية، فالإختلافات والخلافات هي التي تؤسس الوجود القومي، وأصحاب كل هوية كما يؤكدون على ما يميزهم يُدشنون كذلك في نفس اللحظة كل مساحات الخلاف مع الأخر.
وفي المحصلة النهائية كانت العلاقة بين الإتجاة القومي والحداثة في المجتمعات العربية محصلة أخلت بكلا النمطين، خاصة مع غياب الدعم الأيدلوجي الحقيقي لكلا الإتجاهين في الواقع العربي. بل إن الهوية القومية بمعانيها المحددة لم يعد لها شكلاً واضح الملامح، فلا توجد ذات إجتماعية واحدة داخل الحدود الجغرافية بل تعددت الذوات وأُعيد إنتاجها تحت تضارب المفاهيم الطبقية. فحالة الصراع الطبقي ـ طبقاً للفكر الماركسي ـ صارت غائمة الملامح وتحولت المجتمعات العربية إلى ساحات للتملك والإستهلاك،لا للإنتاج والتطوير.
وبالطبع مع غياب القضايا الكبرى صارت ساحة الصراع بين العولمة والهوية القومية ممهدة لصالح العولمة بشكل كامل، خاصة وأن العولمة في أبعادها المختلفة قد عملت كذلك على تبديل مفهوم الهوية الحداثية (الليبرالية)، مما أدى إلى تغير مفهوم الهوية ذاته، فالعولمة لا تحقق وجود الفرد بشكل منفصل، بل تؤكد على ذوبانه لصالح التوحد والكونية،وبالتالي ذابت مفاهيم الهوية القومية المعتمدة على المفاهيم الحداثية، مهما حاول أصحابها ـ كرد فعل ـ الإغراق في الذاتية أمام العالمية، فالواقع المجتمعي ذاته قد تحللت داخله المفاهيم القومية.
فالعولمة الإقتصادية مثلاً تعمل على إضعاف سيطرة الحكومات منفصلة على إقتصادها الداخلي أمام الإقتصاد العالمي، مما أدى مثلاً إلى الإنهيار التام للنظام الشيوعي والأنظمة المثيلة له في المجتمعات العربية، فإن لم يتمكن الفرد من تحقيق ذاته في ظل الهوية الخاصة يعمل على تحقيقها في ظل العالمية، أي رفض قبوله داخل المنظومات الخاصة، وقبوله للذوبان داخل سياق أكثر شمولية، وبالتالي تدمير أهم عنصر من عناصر الإنتماء وهوالإقتصاد والعمل على نزع قدرته الذاتية على الفعل الذاتي المنفرد، أي خلق حالة من الإنفصال بين المحيط (الثقافي ـ الإجتماعي) للفرد والواقع العالمي.
مما يؤدي بنا إلى الشكل الثاني للمقاومة الذي قد تنتجه المجتمعات وهو الإتجاه المتجاوز للقومية أو الإتجاه الأصولي الإسلامي، فهذا هو الملمح الأخير المتبقي أمام العولمة في الشرق الأوسط لفرض الهيمنة الشاملة.
2 ـ الإسلام السياسي (أسطورة الوهم ووهم الأساطير):
في السياق التاريخي للمنطقة العربية والشرق أوسطية عامة، كان للإتجاه الديني دوره الهام في مقاومة الإستعمار على المنطقة كاملة، كما حدث من دور الإتجاه الديني في مصر والجزائر والسودان وحتى إيران. إلا أن الإتجاه الديني في تلك المرحلة لم يتمكن من إقصاء الإتجاهات القومية بوصف أن قضية الإستعمار في بنيتها الأصلية ذات طابع قومي واضح. وبدأت الخلافات في الظهور بعد زوال الإستعمار وغياب المشاريع الكبرى للمنطقة بشكل عام، وبالتالي ضعف الإتجاه القومي، وإحتوى خطاب القومية في الشرق الأوسط تعارضاته الناشئة عن تفاعله مع الدين سلباً وإيجاباً، ولكن ظل الإتجاه الديني ـ المعتمد على التاريخ الديني المحتوي للمنطقة ـ هو صاحب رد الفعل البارز على كل المتغيرات السياسية المحيطة، خاصة مع ظهور حالة الإسلام السياسي وإعتمادها على الطبقات الإجتماعية المتوسطة أو البسيطة، لما تمثله من قاعدة عريضة سهلة الإنقياد وذات تأثير أوسع.
تمكن هذا الإتجاه من تلبية المتطلبات الإجتماعية والمادية وحتى السياسية لتلك الطبقات، كما حدث ذلك للإخوان في مصر، وحماس والقضية الفلسطينية، وحزب الله في جنوب لبنان وإسرائيل، حتى الإتجاهات الإسلامية في أفغانستان ومحاولتها الإرتداد إلى الذات (قبل محاولات محوها من قبل النظام الأمريكي)، وكذلك الإتجاه السياسي في إيران ومشروعها (القومي ـ الديني) أمام الهيمنة الأمريكية.
كل تلك التحولات الإسلامية على الرغم من الإختلافات المذهبية والمرجعية، إلا أنها ضمن إطار تاريخي واحد وهو الإطار الإسلامي، تجسدت فيه آخر أشكال الهوية وهي الهوية الدينية، فالإسلام السياسي حقق مالم تتمكن من تحقيقه الإتجاهات الدولية من تفتيت للذات القومية، بل إنه عمل إلى صنع حالة عداء حقيقي للفردية القومية، في محاولة منه لدمج كل العناصر تحت طائلة الوحدة الدينية. وقد يعود إنتشار الإتجاه الديني في البلدان العربية إلى الأسباب الآتية:
(أ) سيكلوجية الإيمان:
للإتجاه الديني نفس السمات البنيوية للدين بشكل عام، من وجوبية إعتماده على معتنقين فالفكرة بلا تابع تصبح عدماً، وللإسلام طابعه الخاص في جلب المعتنقين له، من تركيزه على فساد الواقع،ووجوبية تغيره لنيل الجزاء الأخروي النهائي، تحت طائلة مشروع الجهاد كفكرة مؤسسة للوعي الإسلامي (الدين ـ الإيمان). ويتسم المجتمع العربي والشرق أوسطي عامة، بالجنوح إلى عالم الدين منذ العصور القديمة، أي أن تكوينه الفكري لا يمكن التخلي فيه عن الشعور الديني (الواعي ـ غير الواعي).
وفي ظل الواقع الحالي من غياب للوعي القومي وتغييب للهوية لحساب العولمة أو الدين، يحيا الواقع العربي “العصر الحرج”، وهو عصر إنتهى فيه كل إتحاد فكري كل عمل جماعي كل تنسيق ممكن ولم يعد المجتمع يمثل سوى كتلة من الأفراد المنعزلين والذين يتصارعون ضد بعضهم الأخر بكل تجليات ذلك العصر على المستوى السياسي والإقتصادي والإجتماعي. حتى تحولت الممارسة اليومية إلى مسيرة من الإستهلاك لكل الإحباطات السياسية والإقتصادية حتى أصبح الإحباط قابل للإستهلاك. وفي ظل تلك التراكمات الإجتماعية تحول الإيمان فيها إلى المنفذ الوحيد للتوحد الإجتماعي متجاوزين هنا كل المعايير القومية والثقافية الخاصة. الإيمان المتجسد في التيارات السياسية الإسلامية بكل أشكالها والتي تمثل للمجتمع دائماً الخلاص من كل الإحباطات المتتالية، أي أن الدين تحول إلى كائن يسهل إستهلاكه إذا قُدم بالطريقة المناسبة. وتتصاعد على السطح الإجتماعي (كرد فعل عام)، تجليات البطل الديني القادر على الوقوف في مراجهة التيارات الدولية المتصاعدة، التي تعمل على محو الذات الفردية عامة. أي أن الحاجة للإيمان هو إحتياج إجتماعي وليس مجرد حالة.
(ب) إحياء أساطير العصر الذهبي: تعمل التيارات الإسلامية دائماً على إعادة بعث للتجارب الناجحة في التاريخ الإسلامي،وبالطبع متجسدة في الفترة الأولى التي أُتخمت على مدار التراث الإسلامي بتراكمات لامتناهية من التكوينات الأسطورية أفقدت تلك الفترة أبعادها التاريخية الحقيقية. مما جعلها فترة قابلة لإعادة الإنتاج والإستهلاك الدائم من قِبّل كل الممارسات السياسية الدينية على مدار تاريخ المنطقة بأجمعها.فالعلاقة دائمة بين كل ماهو أسطوري وسياسي، بواسطة إسباغ القداسة على جماعة سياسية ديينة، بإستغلال الملامح الأسطورية للعصر الذهبي في التاريخ الإسلامي،بحيث تجد تلك الجماعة رواجاً يتسق مع البنية الفكرية للمجتمعات العربية بشكل عام. وبوصف أن الإتجاه الإسلامي في ممارساته السياسية عامة يعمل كرد فعل عام على محاولات الهيمنة الدولية المتجسدة في العولمة، فلابد أن يكون الخطاب الموجه يعتمد على تغييب المجتمعات عن الوعي الحر أو المستقل، بحيث تتحول التيارات الإسلامية غلى حراس الحقيقة والدين والمجتمع، فيظل العالم الغربي هو العالم الكافر والعولمة هي الإحتلال الجديد المنتظر.وبالتدريج تُصبح تلك التيارات هي التجسديد الوحيد للوعي الإجتماعي العربي. تُصبح مرحلة العصر الذهبي هي مرحلة النقاء المطلق، مجرد صورة لماض تحول إلى أسطورة،ورؤى لحاضر ومستقبل موصوفة وفقاً لما كان أو يُفترض أنه كان.متعرض لكل سمات تأثير الذاكرة الجمعية اللاوعية من الإنحراف أو إصطفاء أو تحويل.
وتتوحد ذاكرة التاريخ مع ذاكرة المجتمع لتحويل الماضي إلى مُعاش دائم،ويتم ذلك على مستوى الملامح الشكلية الإيمانية المنتشرة في مجتماعتنا العربية حالياً، وذوبان القضايا الفردية الضئيلةـ التافة أحياناً ـ مع القضايا الدينية الكلية وإنتشار الدعاة الجدد وإلباس القدامى ثوب التجديد والحراك الإجتماعي السياسي والعسكري أحياناً (كحماس وحزب الله)، والإندماج مع الهموم البسيطة للإنسان العربي العادي.
ويظل التيار الديني الأكثر رواجاً والأكثر تمادياً في مواجهة المد العولمي، فأصبح الصدام مباشر بين الإتجاهات الدولية والإسلام السياسي، صدامات تتسم بالعنف أحياناً والإقصاء أحياناً.فمع تغييب الوعي الإجتماعي والهًوية القومية وعدم قدرة الحكومات على إبداع مشاريع كبرى لم يبقى سوى التيار الأخير وهو الإسلام السياسي بوصفه صاحب الإنتشار والإنتصارات المتعددة في المجالات الإجتماعية والسياسية وحتى العسكرية.وعامة فإن كافة أشكال المواجهات الإجتماعية سواء السياسية أو الدينية لم تستطع إلا مجرد تأجيل الهيمنة الكاملة، فللعولمة تأثيرتها الواضحة على المنطقة العربية.
وفي المنتهى تتضح نتيجة غاية في الخطورة على مدار التحليل المختصر السابق أن الصراع بين القومي والديني والعالمي صراع قائم على رغبة كل التيارات في إعلان لصك ملكية الفرد.ذلك الفرد، الكيان الذي أصبح إفتراضياً في النهاية، كائن وهمي، غائم الملامح لا يملك حق حرية حتى الإختيار. فالإتجاه القومي كان يعمل دائماً على تغييب الفرد لصالح الجماعة القومية الحدودية التي لابد وأن تضمه إليها وإلا صار بلا هوية واضحة أي بلا وجود. والتيار الديني يؤكد على أن الفرد لابد له من الذوبان في إطار الوعي الديني ـ المسيس بالطبع ـ ولكن الأهم أن فرد بلا إنتماء ديني سياسي محكوم عليه بالتبعيد والتكفير.والعولمة ذات تأثير أوضح مما سبق فلدى غياب الفرد أو تغييبه عن السياق العالمي فهو خارج الكون بأكمله.
ايلاف