فن الجلد والطرد في العالم العربي
صقر ابو فخر
«التفكير المشيخي» ليس غير خلاصة ما يحبه المشايخ وما يكرهون. فهم ضد الموسيقى والأغاني، ضد الفرح واللهو، ضد الديموقراطية والحداثة والعلمانية، ضد الاختلاط في المدارس، مع انهم شديدو الاختلاط بالنساء في زواج المسيار والزواج العرفي والزواج المؤقت… وضد الربا، مع أنهم يؤسسون الشركات المالية الفاحشة الربا…
لم ينضب بعدُ معينُ المساخر في المجتمعات العربية المبتلاة بداء التطرف الديني هنا والتعصب المذهبي هناك، والكراهية والرثاثة والاستبداد والتخلف والعنصرية في كل مكان. وقد قرأنا مؤخراً ان القاضي فهد عبدالله السويلمي، قاضي محكمة مدينة الشملي في المملكة العربية السعودية، أصدر حكماً يقضي بسجن عجوز سورية تبلغ السادسة والسبعين، أربعة أشهر وجلدها أربعين جلدة وطردها من المملكة ومنعها من العودة ثانية منعاً باتاً (صحيفة «سبق» الالكترونية، 26/8/2009). أما التهمة فهي الخلوة غير الشرعية مع شابين حُكما أيضاً بالسجن أربعة أشهر والجلد أربعين جلدة. وقالت المتهمة إن أحد الشابين هو ابنها بالرضاع، وإنه أوصل إليها الخبز في تلك الليلة (جريدة «الراي» الكويتية، 27/8/2009). ومع ذلك لم ينفع هذا «الدفع» الشرعي في دفع البلاء عن هذه المرأة المسكينة التي شارفت على الاندفاع نحو القبر.
تقدم لنا هذه الواقعة مثالاً مروِّعاً للإهانات المتمادية التي تتسربل بها بعض المجتمعات العربية الرازحة، بصبر عجيب، تحت السلطة القاهرة للمشايخ والمتمشيخين، وتحت الأحكام المريضة والعجيبة لبعض رجال الدين. وفي الأمس أدانت إحدى محاكم الخرطوم الصحافية السودانية لبنى أحمد الحسين بتهمة ارتداء زي غير محتشم (البنطلون وفوقه قميص)، وحكمت عليها بالجلد عشر جلدات في مكان عام. ولشجاعتها قبلت لبنى الحسين تنفيذ الحكم، ودعت أصدقاءها الى حضور مشهد جدل قفاها وظهرها. لكن محكمة شمال الخرطوم، اتقاءً للفضيحة، استبدلت بالغرامة عقوبة الجلد. ومع ذلك رفضت لبنى الحسين دفعها ودخلت السجن، لكن السلطات أطلقتها بعد يوم واحد فقط («النهار»، 9/9/2009). وغير بعيد عن ذلك ما حدث للصحافية الفلسطينية أسماء الغول حينما كانت برفقة صديقتها مي البيومي وشقيقها عبد العزيز البيومي وابن عمتها نعيم جودة وصديقهم أدهم خليل يستجمون على شاطئ بحر السودانية في غزة؛ فقد دهمهم رجال الشرطة غير النظاميين وصادروا جواز سفرها وساقوها الى أحد مراكزهم ووجهوا لها تهمة «الضحك بصوت عال في أثناء السباحة»، وكانت تسبح، بالطبع، وهي مرتدية البنطلون والبلوزة وفي مكان عام (جريدة «الأخبار»، 27/7/2009).
إنه لأمر يثير القهقهة بالفعل، وليس الضحك بصوت عال فحسب. فقد حذر خطباء الجمعة في غزة في 29/5/2009 الأهالي من مغبة إرسال أولادهم الى المخيمات الصيفية التي تقيمها مدارس الأونروا، لأنها مخيمات مختلطة، ودعوهم الى إرسال أبنائهم الى المخيمات الدينية التي يجري خلالها تحفيظ القرآن وتعليم الدين الإسلامي («القدس العربي»، 30/5/2009). أما يوسف فرحات، المدير العام لإدارة الوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف المقالة في غزة، فدعا الى منع دمى عرض الأزياء لأنها «مظاهر فاضحة تسعى حملة (نعم للفضيلة) الى القضاء عليها». وأفتى عبد الله أبو جربوع، وكيل وزارة الأوقاف التابعة للحكومة الحمساوية المقالة بـ«قطع رؤوس هذه التماثيل (أي دمى عروض الأزياء التي يقال لها «المانيكان») كي لا تتلبسها الأرواح (محمد علي الأتاسي، «النهار»، 5/8/2009).
[ [ [
استفزت هذه الوقائع قانونياً فلسطينياً مرموقاً اتصف دائماً بالنزاهة والشجاعة الفكرية والوقوف موقف الناقد الجريء لسياسات السلطة الفلسطينية ولمسلكيات حركة حماس معاً، فكتب محتجاً: «في قطاع غزة وصل منسوب السفاهة الى حدود قياسية؛ فقد أصدر ما يسمى بـ«مجلس الوزراء» القرار رقم 1/2009 بتاريخ 19/6/2009 (…) الذي ينص في المادة الثالثة منه على منح الضابطة القضائية حق تفقد الأماكن العامة والخاصة (انتبه الى «الخاصة») ولا سيما الأسواق وشاطئ البحر والجامعات والمحلات المغلقة لمنع الاختلاط السافر المخالف للآداب العامة، ومنع الجهر بالألفاظ المنافية للآداب، وعرض الصور المجسمة ـ المانيكان». وتساءل أنيس فوزي قاسم: «هل أصبحت المقاومة تتم بأباريق الوضوء؟» («القدس»، 13/8/2009). ونتساءل معه أيضاً: هل إن الشغل الشاغل اليوم لحركة حماس في قطاع غزة هو «صون عفة النساء»، والفصل بين البنات والصبيان في المدارس، ومنع المعلمين من التدريس في مدارس البنات، وهذا الأمر الأخير أدى الى ان تصبح الصفوف بلا معلمين، تماماً مثل ما حدث في أفغانستان؛ فقد منعت حركة «طالبان» النساء من العمل، ففرغت المدارس من المعلمات، والمستشفيات من الممرضات، و«المعامل» من العاملات، ما أفسح في المجال للذكور العاطلين عن العمل ليجدوا وظائف لهم. انها طريقة «عبقرية» لحل مشكلة البطالة في المجتمعات الاسلامية. لنتأمل فيها، فما المانع؟
لنتأمل أيضاً في خرافة المعتدلين والمتطرفين بين الأصوليين والسلفيين. ففي حوار مع مفتي أفغانستان حجة الله نجيح، وهو معاد لحركة طالبان، ويعتبر معتدلاً في فتاويه، ويأخذ على الحركة تطرفها وفتاويها غير المقبولة مثل اشتراط اللحية لتوظيف الناس، ومنع الموسيقى والأغاني والتصوير، وسجن المدخنين… الخ، قال إنه يتفق مع طالبان في أن الموسيقى تشغل الإنسان عن عبادة ربه وعن التفكر في خلق الله، لكنه يخالفها في ان طول اللحية يجب ان تكون بطول القبضة لا القبضتين كما تقول طالبان (جريدة «الشرق الأوسط»، 26/8/2009). هذا هو المعتدل إذاً! فالخلاف مقصور على طول اللحية، وهل تكون بالقبضة أم بالقبضتين. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم. أما المحامي المصري نبيه الوحش فما انفك مطالباً وقف برنامج «الجريئة» الذي تقدمه المخرجة إيناس الدغيدي على قناة «نايل سينما»، ومحاكمتها بتهمة «الإتيان بأفعال فاحشة»، وجلدها مئة جلدة حتى ترتدع عما تفعل (جريدة «تشرين» السورية، 10/9/2009. وهذا الكلام ليس من «بنات» أفكار الوحش، بل هو نسخ حرفي لقول محمد سيد طنطاوي إن مشاهدة فيفي عبده وهندية ودينا وهياتم وروبي وهيفاء في التلفزيون يُعد من مفسدات الصيام (جريدة «السياسة» الكويتية، 10/11/2002).
إن استسهال الجلد والطرد وإراقة الدماء يعني القتل بضمير مرتاح. والقتل بضمير مرتاح هو مسلك الجماعات الدينية الفاشية والجماعات العنصرية التي يقتل أفرادها المخالفين لهم بلا وجل أو وازع أو تساؤل، ثم تتكفل الفتاوى بتهدئة الضمير القلق لكل من يتساءل عن جدوى هذا القتل؛ فالمقتول إما مرتد أو كافر بحسب فقهاء الظلام، أو خائن وعميل بحسب فقهاء السياسة، والقاتل مجاهد في سبيل الله هنا، ومناضل في سبيل حزبه هناك. إنه الجنون اللذيذ.
روى العقيد رمضان عوض مدير شرطة الخليل الحادثة التالية: «دخلتُ الى حظيرة أغنام أبحث عن مخدرات وسلاح فإذا بي أمام مشهد تقشعر له الأبدان. تسمرت في مكاني. شيء غير معقول. غير طبيعي. شاب وفتاة محتجزان في حظيرة أغنام في بلدة بيت عوّا منذ أكثر من عشرين عاماً. كانا عاريين تماماً، تملؤهما الديدان، وبلا طعام أو شراب أو حتى هواء. الشاب يقفز كالحيوان، والفتاة تتحرك ببطء (…). الشاب كان شعره كثيفاً جداً، وكذلك شعر ذقنه. والفتاة مليئة بالبثور، والنمل يخرج من جسدها، الأب يدعى ابراهيم مسالمة وهو إمام مسجد يتذرع بأن ولديه مختلان عقلياً، وهو متزوج للمرة الثانية. أما والدة الشاب والفتاة فمتوفاة» (جريدة «الشرق الأوسط»، 28/8/2008).
إذا استمرت الحال في العالم العربي وفي غزة على هذا المنوال، فسيتكاثر هؤلاء المختلون عقلياً من أمثال إمام مسجد بيت عوّا، ومن عيار أبو النور المقدسي وأبو عبد الله المهاجر، وسيزداد العنف المنفلت من عقاله، وستراق الدماء في كل مكان، وهنا بالتحديد تكمن هزيمة المتغلب. فثمة انتصارات هي أشنع من هزائم، وثمة هزائم أرفع من انتصارات.
[ [ [
تحيلنا هذه الوقائع الى نتيجة أولية هي ان المجتمع العربي ما زال عالقاً، منذ عصر السلاجقة، أي منذ ألف عام تقريباً، بين لجام ومهماز: لجام «الفكر المشيخي» الراكد والخرافي معاً، ومهماز النهضة والتقدم والعلم. وكلما حاول هذا المجتمع، بدينامياته ونخبه المفكرة، أن يحطم اللجام وقع في شرك أدهى هو الاستبداد. هذه هي حاله منذ أن انتصر الغزالي وابن تيمية على المعتزلة وابن رشد. وقد نجح «الفكر المشيخي»، في سيرورة الانحطاط هذه، في أن ينتزع له مكانة مؤثرة في الحياة اليومية للناس الذين يستقون معارفهم من ثلاثة مصادر فقط هي: خطب الجمعة والتلفزيون وشائعات الأحياء. ولعلنا لا نغامر كثيراً في الاستنتاج ان «التفكير المشيخي» ليس إلا خلاصة ما يحبه المشايخ وما يكرهون وما يحرِّمون وما يقرؤون… وهكذا. فهم ضد الموسيقى والأغاني، وضد الفرح واللهو، وضد الديموقراطية وضد الحداثة وضد العلمانية، وضد الاختلاط في المدارس وفي أماكن العمل مع انهم شديدو الاختلاط بالنساء في زواج المسيار والزواج العرفي والزواج الموقت (المتعة) وزواج آخر الأسبوع و«زواج فريند»… الخ. وضد الربا مع انهم يؤسسون بكثرة شركات الأموال «اللاربوية» ثم يفلسونها ليهربوا بأموال المؤمنين. وضد النصارى واليهود والغرب مع أنهم يهاجرون جماعات جماعات الى الغرب ويستولون على أموال المواطنين الغربيين في صورة إعانات لهم كعاطلين عن العمل. وضد السود والسيخ وكذلك البوذيين والهندوس، أي أنهم عنصريون فعلاً. ثم إنهم يحبون الطعام الثقيل ولا سيما المشويات والمرويات والمغلظات والمعجنات والحلويات، فتراهم يكرعون التمر هندي والعرقسوس والجلاب كرعاً حتى الامتلاء والتجشؤ الكريه. ومثلما يحبون الطعام الثقيل يرغبون في النسوة الثقيلات أيضاً اللواتي إن قعدت الواحدة منهن فلا تقوم. وهم يكرهون العطور الغربية ويتهالكون على العطور الزنخة مثل ما يُعطر بها الميتون. أما ما يقرؤون فدونكم القائمة التالية: الفتن والملاحم، خروج الدجال، أهوال القيامة، عذاب القبر، إخراج العفاريت بالكباريت، ياجوج وماجوج، الحور العين وقلوب العارفين، زواج الجان من بني الإنسان، السحر والتنجيم، تفسير الأحلام على طريقة إبن سيرين لا على طريقة فرويد، وأفضل الكتب لديهم هي «شمس المعارف الكبرى» لأحمد البوني، و«تذكرة داود» لداود الأنطاكي، و«بروتوكولات حكماء صهيون». وجميع هذه المعارف لا تحتاج جامعات ومعاهد عليا، بل عدة بسيطة للعمل مثل إطالة اللحية وتقصير الثوب، واستعمال قضيب المسواك، وصنع الزبيبة في أعلى الجبهة باستعمال الفخار المحمى، وحفظ بعض الآيات والأحاديث التي تحث على لعن اليهود والنصارى وتحض على قتل المخالفين، والإكثار من استعمال عبارات من طراز «جزاكم الله خيراً» و«حسبي الله ونعم الوكيل».
لقد كفرنا.
السفير