صفحات مختارة

“التحريفية” الماركسية والأزمة المالية

حازم صاغية
الذين مرّوا في اليسار الماركسيّ يعرفون أسم إدوارد برنشتاين، بوصفه بطلاً مضادّاً حظي بشتائم كاوتسكي وروزا لوكسمبورج وبليخانوف وبارفوس، وطبعاً لينين، وسائر الكبار والصغار في تاريخ الأدبيّات الماركسيّة.
لكنّ من يقرأ برنشتاين اليوم، على ضوء أزمة الماركسيّة وفي الآن نفسه الأزمة الماليّة الضاربة، يتعلّم الكثير، ويتعلّم خصوصاً أن نقده للماركسيّة كان تأسيسيّاً استلهمه كثيرون من المنظّرين اللاحقين، إن في اليسار أو اليمين. وإذ يتبيّن أن الأزمة الماليّة، على رغم ضراوتها، ليست طريقاً يمهّد للثورة الاشتراكيّة، تكتسب أفكار ذاك المفكّر الألمانيّ الكبير لمعاناً مبكراً قلّ نظيره.
فـ”التحريفيّة” و”الردّة”، وهما تعبيران جيء بهما من القاموس الدينيّ، وجدتا شكلهما النظريّ الأوّل في عمل برنشتاين الصادر في 1899 “الشروط المسبقة للاشتراكيّة ومهمّات الاشتراكيّة الديمقراطيّة”. وكان عمله هذا بمثابة البلورة والتنظيم لعدّة أطروحات كان قد طرحها في صحافة الحزب منذ أواخر 1896 ونشرها تحت العنوان اللافت “مشاكل الاشتراكيّة”.
والحال أن أطروحات برنشتاين لم تكن عاصفة في سماء صافية. فقد سبقتها كتابات سجاليّة لكاوتسكي، أحد أبرز زعماء الاشتراكيّة الأوروبيّة، ضدّ جورج فون فولمار، القياديّ الاشتراكيّ الديمقراطيّ البافاريّ الذي زعم وجود تطابق بين الطبقة العاملة والسياسات الإصلاحيّة للبورجوازيّة. وهذه الوجهة الإصلاحيّة و”الانتهازيّة” كان دانها بحدّة الأب الروحيّ للماركسيّين أوغست بيبيل عام 1894، بوصفها تنازلاً عن الصراع الطبقيّ يستدعي المحاربة الضارية.
لكنّ “التحريفيّين” لم يتخوّفوا من أن يُعدّوا منحرفين، بل اعتبروا أنفسهم الدم الجديد لحزب تحكمه الأرثوذكسيّة الرسميّة العاجزة عن التعاطي مع مشاكل التطوّر التاريخيّ كما تطرحها الحركة العماليّة، فيما هم يسيرون في انسجام مع هذا التاريخ. فهم ادّعوا أنّ التطوّر الرأسماليّ في ألمانيا، لا بل في العالم، يأخذ منحى مغايراً لما توقّعه كارل ماركس في كتابه “رأس المال”. فهم رفضوا الأطروحة القائلة إنّ التركّز الرأسماليّ يقود إلى تعاظم البلترة (التحوّل إلى بروليتاريا)، واستثناء الطبقة العاملة من فوائد تطوّر قوى الإنتاج، محاصراً رأس المال الصغير والمتوسّط، ومن ثمّ دافعاً الصراع الطبقيّ إلى الاحتدام في وجهة ثوريّة. ففترة الازدهار كانت افتُتحت في حوالى 1895، حيث تزايدت إلى حدّ بعيد القوّة التفاوضيّة للنقابات في مقابل تعاظم الطلب على العمل، وهذا ما ثبّت “التحريفيّين” عند رأيهم من أنّ من الخطأ توقّع “أزمة” في الرأسماليّة، وأن الصراع الطبقيّ ينبغي استخدامه، في المقابل، كأداة واعية لخدمة التوجّهات الإصلاحيّة. وقد زعم الهراطقة أن الاشتراكيّة لن تنجم عن “أزمة”، بل عن طاقة الحركة العماليّة للتدخّل بقوّتها المنظّمة في مشاكل محدّدة، وعلى نحو يغيّر تدريجيّاً علاقات القوى بين الأحزاب السياسيّة والطبقات الاجتماعيّة. فـ”دمقرطة” النظام القائم ليست الشرط المسبق فحسب، بل هي أساس الاشتراكيّة من خلال عمليّة تطوّريّة متواصلة.
إن “التحريفيّة” و”التطوريّة” وجدتا صياغتهما الأرقى في مانيفستو برنشتاين. ففيه دافع عن أن “المادّيّة التاريخيّة” إنّما كانت فلسفة ميكانيكيّة تقتل الإرادة والوعي. وفي رأيه أن الديالكتيك الهيغليّ ليس سوى “عقب أخيل” الماركسيّة، مادام أنه جعل نظريّة الثورة تابعة لمخطّط منطقيّ مسبق أكثر ممّا لتطوّر تاريخيّ. فالاشتراكيّة الديمقراطيّة ينبغي، في آخر المطاف، أن تحرّر نفسها من غموض ماركسيةٍ هي جزئيّاً إصلاحيّة وجزئيّاً بلانكيّة، مغامرة وفوضويّة وإراديّة. واستنتج برنشتاين ما يُعدّ تحدّياً للمعنى المركزيّ في الماركسيّة: زعمها أنها علم صالح للتطوّر الاجتماعيّ. فقد رأى أنه ليس صحيحاً حصول تعاظم في تركّز الملكيّة. ذاك أنّ عدد المالكين في تزايد، إلاّ أنّهم، فوق هذا، يصيرون أيضاً أشدّ تراتُباً كما يخلقون في ما بينهم نسيجاً معقّداً ومتعدّد الأوجه من مصالح ثابتة ومستمرّة. أمّا الطبقة العاملة نفسها فهي كذلك تتعرّض للتراتُب، وهو ما يفضي إلى معارضة تنبؤ ماركس بأن المجتمع سيُستقطَب في معسكرين متعاديين. ذاك أن طبقة وسطى ذات تركيب معقّد تتوسّع فيما تتناثر الثروة وتتبعثر وتنتشر. وكذلك فإن أفق “انهيار الرأسماليّة” ليس ثمّة ما يؤكّده، لا في الحاضر ولا في ديناميّات المستقبل المرجّح للتطوّر الاقتصاديّ. ومع أنّ الأزمات الموقّتة هي مما لا يمكن استبعاده، فإن المجتمع الرأسماليّ كسب أدوات جديدة أساساً في مجالات التسليف والسيطرة على السوق مما يستبعد أفق الكارثة. وقد استنتج برنشتاين أنّ “آفاق الاشتراكيّة لا تعتمد على النكوص بل على زيادة الثروة الاجتماعيّة”. وهكذا لابدّ من إعادة تعريف مهمّات الاشتراكيّة، وعلى الاشتراكيّة الديمقراطيّة أن تنبذ الفكرة القائلة إنّ استمرار تطوّر الرأسماليّة وتجاوزها لأزماتها يفقدان الاشتراكيّة حظوظها. فحسب برنشتاين ليس مثل هذا التصوّر غير نتيجة مباشرة للأحاديّة الماديّة الضيّقة. بل العكس تماماً هو الصحيح: فلأنّ العوامل الذاتيّة والقوى الثقافيّة والروحيّة تكتسب أهميّة غير مسبوقة في التاريخ، ينبغي النظر إلى الاشتراكيّة كمثال يُعدّ بلوغه أحد الإمكانات، لا الحتميّات، إلى جانب إمكانات أخرى في المجتمع.
وإذن، على الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ أن يملك شجاعة القبول بشروط المواجهة مع الرأسماليّة على أرض التنمية الاقتصاديّة وتطوير برنامج للإصلاحات يكون مؤسّساً على الالتصاق الكامل بالديمقراطيّة السياسيّة، مع التخلّي عن فكرة الديكتاتوريّة الطبقيّة. فالمطلوب إقامة لحمة تدمج سيطرة العمّال على النقابات، في ما خصّ الآليّة الإنتاجيّة للرأسماليّة، والمشاركة الشعبيّة في السلطة المحليّة وتوسّع الحركة التعاونيّة. وفي المقابل يتطلّب هذا النمط من الاستراتيجيّة السوسيو-اقتصاديّة استراتيجيّة سياسيّة مختلفة لا تقوم على انعزال البروليتاريا ولا على تصوّر الصراع الطبقيّ كطريق إلى ديكتاتوريّة البروليتاريا، بل على سياسة مفادها الاتّجاهات الإصلاحيّة للبورجوازيّة الليبراليّة والشرائح الشعبيّة والبورجوازيّة الصغيرة (الفلاّحين والموظّفين) على قاعدة المصلحة المشتركة في توسيع ديمقراطيّة سياسيّة واجتماعية تناوئ الدولة البيروقراطيّة- العسكريّة وكبار ملاّكي الأرض “اليونكرز” وقوى الاحتكار الماليّ الكبرى. وفي الخلاصة، فإنّ الاشتراكيّة الديمقراطيّة ستغدو القوّة المفتاحيّة في عمليّة ديمقراطيّة وإصلاحيّة تستفيد تكتيكيّاً من كلّ تحالف مع الشرائح المضطهَدة الأخرى. وهذا جميعاً ما يشكّل، بالنسبة إلى برنشتاين، الطريق إلى الاشتراكيّة، مستنتجاً: “إنّ نفوذ الاشتراكيّة الديمقراطيّة سيكون أكبر مما هو متحقّق الآن إذا ما وجدت الشجاعة كي تحرّر نفسها من صياغة لغويّة تعدّاها الزمن، وأن تقدّم نفسها على ما هي حالها اليوم: حزباً اشتراكيّاً ديمقراطيّاً إصلاحيّاً”. وفي حماسته لقبول الواقع الاجتماعيّ كما هو، دعا برنشتاين البروليتاريا الألمانيّة والاشتراكيّة الديمقراطيّة إلى مقاربة المسؤوليّات الوطنيّة والدفاع الوطنيّ بروحيّة جديدة، وإلى رفض العداء للكولونياليّة كموقف جامد، منحاز وتخطيطيّ وجامد تعوزه الحياة وحركتها.
والراهن أن الأطروحات هذه أثارت، كما سبقت الإشارة، موجة من النقد. فبرنشتاين كان أحد أبرز الاشتراكيّين الأمميّين، والمفضّل عند فريدريك إنغلز، والصديق القريب لكاوتسكي، ورئيس التحرير البارز لصحيفة الحزب “الاشتراكيّ الديمقراطيّ”. أمّا بالنسبة إلى كاوتسكي تحديداً، فكانت مناظرة برنشتاين محرجة جدّاً بسبب صداقتهما الحميمة والوثيقة، ولهذا تردّد قليلاً قبل النزول إلى الساحة. لكنّه حين فعل، جاءت مقالاته تركيباً لنقد “التحريفيّة” أصدره في كتاب “برنشتاين والبرنامج الاشتراكيّ الديمقراطيّ -نقد مضادّ”(1899).
وبفعل طابعه المنهجيّ، وبسبب موقع كاوتسكي بوصفه المنظّر البارز للاشتراكيّة الديمقراطيّة والأمميّة، فإنّ جوابه هذا اتّخذ طابعاً رسميّاً. وفي سياق المساجلة بينهما وُضعت الماركسيّة على المحكّ لأوّل مرّة منذ وفاة مؤسّسيها، ماركس وإنغلز، واستدعت المساجلة ما قاله شومبيتر الذي علّق بأن الطرفين “يستحقّان احترامنا بسبب المستوى الأخلاقيّ والفكريّ لبطليها”. لكنْ ما هي إلاّ سنوات قليلة حتّى انتقل كاوتسكي إلى موقف يشبه موقف برنشتاين وصار، هو الآخر، “تحريفيّاً” و”مرتدّاً”!
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى