الاصولية بين الشعبية والنخبوية
طيب تيزيني
ثمة مسائل في الثقافة العربية المعاصرة ما زالت خارج دائرة البحث العلمي, خصوصا منها ما تولدّ عن احداث كبرى ألمتّ بالعالم في سياق التحولات, التي أفضت الى ظهور العولمة كنظام عالمي جديد, او تلك التي تتحدر من مراحل عربية سابقة على هذا النظام, وتحديدا منذ مرحلة اخفاق المشروع العربي في القرن التاسع عشر, ونضيف الى ذلك نمطا آخر من المسائل قد يصح التعبير عنه بمصطلح »مسائل مركبّة«, وهو ذلك الذي يتكوّن في مرحلة تاريخية, ليستمر كذلك في مرحلة او مراحل اخرى انما بكيفية تشترك في تكوينها تعددية في البنى والمصدريات والمرجعيات تؤسس مجتمعة لحالة جديدة.
لقد تمت في عقود سابقة ربما منذ النصف الثاني من القرن العشرين محاولات لتناول مسائل مثل اللغة المحكية واللغة المكتوبة, ومثل ظهور التوجهات والتضمينات الايديولوجية على تلك المحاولات, وكذلك مثل اللغة وانعكاس البعد الديني الاعتقادي عليها وفيها, واحتمال الاقرار بتعددية قرائية للنص الديني, كأن يقال بقراءة شعبية واخرى نخبوية وقد جاءت الآن – في عصر العولمة – مسائل ومشكلات ومعضلات واشكالات من طراز جديد كلا او جزءا, من نمط الهوية والاثنية والثقافة والحضارة بالاعتبار الاناسي (الانثروبولوجي), فاحدثت اضطرابا في الاولويات والدلالات والرؤى المستقبلية وغيرها.
وبالتوافق بين العوامل الاجتماعية والاقتصادية وبين المضامين الايديولوجية والثقافية المعنية برزت خطوط توافق وتعارض جديدة بين كثير من المفاهيم والمصطلحات المطروحة في المخزون الثقافي العربي العمومي, في صيغتيه الشعبية والنخبوية.
واذا تعلق الامر بمصطلح »الاصولية« وبالتدقيق في دلالته الظاهرة في الثقافة العربية الشعبية والنخبوية, فاننا نلاحظ ان المصطلح المذكور يفصح عن انزياح معرفي وتحيّز ايديولوجي لصالح الجمهور الشعبي الفقير والمفقر وذلك على نحو فاسد ومضطرب ويفضي الى فوضى في النظام المعرفي, فكأن الامرين متماهيان فيما بينهما ومتطابقان في مقاصدهما. وتخسر الثقافة الشعبية والمعرفة معا وحين ينتج الوهم بان خسارة الخطاب النخبوي (الزائف) انما هو خسارة للمعرفة.
وهنا يمكن ان يقال, على لسان الخطاب الشعبوي: ان الخطاب النخبوي لا يمكن تبنيه, لانه سيفضي حالئذ الى نزوع مركزي استعلائي من نمط النزوع المركز الاوروبي, وبالتالي – هكذا يقال – مثقف امام خيارين كلاهما »مرّ« الاخذ بالاستعلاء الايديولوجي, لكن مع محاولة الحفاظ على البعد المعرفي, رفض ذلك الاستعلاء, وان افضى الى التفريط بالبعد المعرفي المذكور, فهذا يحافظ على احترام الآخر, القابع في حقل »الكادحين«.
انها نزعة طفولية جعلت زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي), مثلا, يفرط ب¯ »سمعته الشعبية« لصالح »الحقيقة وصفائها«, مع انه من الممكن استنباط موقف مؤسس على التوازن بين المعرفي والايديولوجي, اما الاصولية المنطلقة من ان الاسلاف امتلكوا كل شيء ولم يتركوا شيئا للأخلاف, فتظل والحال كذلك – لغزا سائبا بين غياب وعي سوسيو تاريخي نقدي يكتشف فواعل الاصولية في الواقع المأساوي من طرف, وبين رؤية معرفية مدققة لكن ممتهنة باسم اسقاط احتكار النخبوية للمعرفة والعلم عامة.
العرب اليوم