هل هناك فارق بين التسلطية والديكتاتورية؟ وهل الديمقراطية مفهوم مطلق ؟
برتران بادي
في عنوان أعادنا قرنا من الزمان إلى مصلحنا صاحب طبائع الاستبداد عبد الرحمن الكواكبي حينما انتقد الديمقراطيات التي لا يمكن أن تحمي نفسها من الميل نحو التسلط إن كانت الرقابة المجتمعية قد دخلت في حالة من الوهن، يطالعنا المفكر الفرنسي برتران بادي وهو من أصول إيرانية حيث لقبه البديع، بحوار ممتع يعنونه : “ما من ديمقراطية محمية من فورة تسلطية، حتى في أوروبا”، وذلك في صحيفة اللوموند يوم 22 أيلول الماضي.
فعن الفرق بين النظام التسلطي والنظام الديكتاتوري، يعتبر “البديع” بأننا تعودنا على تعريف النظام التسلطي وكأنه يتميز بتعددية محدودة : المنافسة على السلطة مقيدة بعدد معين من المرشحين، حرية التعبير مقيدة، الحماية القضائية غير كاملة وحتى أنها متحيزة. نحن إذاً أمام منطق الدرجات : نقول عن نظام أنه سلطوي أو أقل سلطوية ولكن لا نستطيع أن نحدد هذه الدرجة بدقة. وفي كل الأحوال، لا يمكن استعمال هذا المفهوم ليعبر عن مناقضته للأنظمة الديمقراطية. غالبية الدول تتموضع في المسافة الضبابية بين الدرجتين. هل روسيا تتمتع بنظام ديمقراطي أو سلطوي؟ خصوصاً عندما نرى كيف تقيد الحريات وأن الخيارات السياسية ليست حرة بالمطلق ؟ وهل الحكم في فنزويلا تسلطي في حين أن شافيز قد وصل إلى السلطة بانتخابات حرة؟ وحتى أنه قد قبل بفشله في استفتاء حيث كانت “لا” غالبية؟ واسرائيل تظهر وكأنها ديمقراطية كاملة إذا أخذنا بالحسبان حرية المنافسة على السلطة، ولكن العرب الإسرائيليون هم مواطنون من الدرجة الثانية مما يلطخ هذه الديمقراطية بوصمة عار نوعية. وبالمجمل، فإن مفهوم التسلطية يدعونا للتفكير بمعايير محددة ولكن لا يقودنا للتميز بطريقة قاطعة بين فئات واضحة من الدول.
أما االديكتاتورية فهو مفهوم أكثر تحديداً. إنه يعني الممارسة الكاملة للسلطة من قبل فرد دون رقابة ودون تحديد لمؤهلاته ولا لمدة حكمه. الديكتاتور يمكن أن يصل إلى الحكم بواسطة القوة أو يمكن أن يتم انتخابه ولكنه يتمسك بالحكم ضد القانون وعبر القمع. ولكن هنا أيضاً، بمواجهة الواقع، المفهوم ليس واضحاً بالكامل كما يخيل لنا : انتشار الانتخابات الصورية يجعل من الصعب التمييز بين الديكتاتور وبين الرئيس التسلطي الذي يعاد انتخابه في شروط قانونية مشكوك فيها ونقص في الشفافية (…).
كل دولة لها بعد تسلطي إن استندنا إلى التعريف العلمي لمفهوم السلطة. ويمكن أن يصاب الحكم بالتسلط على أنواع مختلفة، فهو ممارسة فردية للسلطة أو انحرافات رئاسية أو شخصنة للحكم .. إلخ. وبالمقابل، فالديمقراطية ليست فقط ذاك النموذج المثالي للحكم، ولكنها أيضاً طريقة للحكم، وبالتالي، فيمكن لها أن تكون شكلاً من أشكال السيطرة. والاستخدام النمطي للديمقراطية يدخل حتماً في المنطق التسلطي بشكل شرعي أو باستخدام لمسارات متعددة خارجة عن كل شرعية : اللجوء إلى وسائل الإعلام، التسويق السياسي، تقنية السيطرة، الشبكات، الزبائنية..إلخ. إذاً، فما من ديمقراطية بمنأى عن فورة تسلطية يمكن لها أن تكون أكثر حيوية من النقاش العام الذي يميل في أوروبا مثلاً إلى الضعف، وأن تضعف بالتالي المنافسة بين السياسات.
وإن وصلت التسلطية إلى الحكم وفق مسار ديمقراطي، فهل يمكن لنا أن نستمر باعتبار أن الحكم لا ديمقراطي؟ مرة أخرى، المواجهة المفهومية بين الديمقراطية والتسلطية تصبح مبسطة وجزئياً مغلوطة. فالديمقراطية هي تقنية حكم والتسلطية هي موقف جازم، مما يمكن من تجانسهما في الممارسة. ولو جرى انتخاب رئيس للجمهورية في عملية ديمقراطية كاملة، فيمكن للانحرافات التسلطية أن تكون متكررة وأن تقود إلى أشكال من الممارسة للسلطة لا علاقة لها البتة بالديمقراطية. وعندما تكون المؤسسات قوية، تكون هذه الانحرافات مسيطر عليها ومراقبة. أما عندما تكون هذه المؤسسات ضعيفة، مترددة، فالانحرافات تخرج عن السيطرة. فالمتغيرات التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار هي من جهة نوعية المؤسسات وكيفية احترامها، ومن جهة أخرى، وحده عمق النقاش العام الذي يمكنه أن يحافظ على حياة ديمقراطية.
ولكن هل يمكن للأنظمة التسلطية الاستمرار كما هي مبدئياً الديمقراطيات؟ بعضها، كالامبراطوريات، استمرت لقرون. فليست التسلطية كنظام مهددة بالاندثار، ماهو غير قابل للاستمرار بصورة طويلة هي آليات شخصنتها. فنظام كثير الشخصنة مرتبط باستمرارية حاكمه السياسية والفيزيولوجية. والفشل على المستوى الوطني أو الدولي يقود إلى أن يضبح النظام مستهلكاً، وهذا يحصل أيضاً في الديمقراطيات، ولكنها بالطبع أكثر وضوحاً وشدة في الأنظمة التسلطية.
برتران بادي يتحدث عن خطر انتقال التسلطية إلى الممارسة الأوروبية، وهو حاصل جزئياً في بعض الدول، فما بالنا إذا حاولنا استعادة هذه الأطروحة والنظر من خلالها إلى الأنظمة العربية؟ من المفيد جداً أن لا نكتفي فقط بالتحليل المبسط الذي يعتمد في أحسن وأعمق أحواله على الثقافات المؤدلجة، بل أن نستند إلى العلوم السياسية الصحيحة. وذلك يعطي لمن يريد أن يناضل أو يفكر أو ينشط، أدوات صحيحة علمياً وفي الممارسة. وسنتابع هذا التحليل في أجزاء مقبلة، حيث سيستعرض برتران بادي علاقة التسلطية بالاستقرار السياسي والدور الغربي المستند إلى خطاب ديمقراطي وانحداره أمام تطور دور أنظمة تسلطية أو شمولية غير أوروبية.
برتران بادي ـ جريدة اللوموند 22 ايلول 2009
http://www.lemonde.fr/international/article/2009/09/22/aucune-democratie-n-est-a-l-abri-d-une-poussee-autoritaire-meme-en-europe_1243468_3210.html