فنان الخط العربي منير الشعراني: 300 مليون عربي يصدرون مجلة واحدة للخط!
محمود قرني
القاهرة ـ ‘القدس العربي’ عاد فنان الخط العربي منير الشعراني من جولة واسعة حول العالم، عرض فيها العديد من أعماله الخطية، مثل مرسيليا، ودبي، وعمان، وانكلترا.
ومنير الشعراني في كل الأحوال فنان كبير لا يحتاج الحوار معه الى مناسبة، فهو الى جانب كونه فنانا كبيرا، مثقف كبير أيضا، لذلك يظل نموذجا نادرا بين المشتغلين بالتشكيل.
ومنير الشعراني هو أحد كبار فناني الخط في العالم العربي الآن وكان قد تم اختياره عام 2001 في برلين ممثلا للفن العربي بمعرض ‘الهضاب السبع’، وفي هذا الحوار تحدثنا الى الشعراني وتحدث إلينا حول إضافات لفن الخط العربي وتشكيلاته التي تبدو فائقة الحيرة والجدية، كذلك تحدث حول ابتكاراته واستخداماته الطباعية للملصق والإعلان والشعار وتطويره لبعض الخطوط المهجورة والمهملة.
ولد الشعراني في 6-9-1952 وهو تلميذ لكبير خطاطي الشام بدوي الديراني وتخرج في كلية الفنون الجميلة جامعة دمشق 1977. وهنا نص الحوار:
ماذا عن معرضك في كلية ‘سان جون’ بأكسفورد، الذي شاركت به مع الشاعر وليد خازندار؟
المعرض كان عبارة عن المحطة التالية لتظاهرة شعرية فنية تنطلق من التراث الشعري العربي القديم، حيث ترجم الشاعر وليد خازندار’ اشعارا مختارة لعدد من الشعراء العرب بدءا من العصر الجاهلي، وقمت بصياغتها فنيا في مجموعة من اللوحات بالإضافة الى مختارات مكثفة في عبارات قمت بتشكيلها، وقد كانت المحطة الأولى في مبنى أثري في ‘اكسفورد’ ورافق المعرض صدور كتاب يحوي المختارات واللوحات مع مقدمة للشاعر وليد خازندار تلفت النظر الى المزالق التي تعثر فيها المترجمون الغربيون في قراءتهم للشعر العربي، وقد صدر هذا الكتاب عن كلية ‘سان جون’ التي رعت المشروع كله.
ايضا حدثني عن المعرض الذي أقمته في البيت العالمي للشعر بمرسيليا؟
في فرنسا وبالتحديد في مرسيليا أقيم المعرض في البيت العالمي للشعر وترجم المختارات الى الفرنسية الشاعر ‘جان دوبول’ ورافقت افتتاح المعرض قراءة لهذه المختارات باللغات الثلاث الانكليزية والفرنسية والعربية، وربما كان في هذا المعرض رد غير مباشر على الإعلام الغربي الذي يبرز العرب كإرهابيين بعيدين عن الحضارة وعن العطاء الحضاري، وهو في هذه التجربة يطلع على جانب من جوانب الثقافة العربية الرفيعة هما الشعر والخط العربي اللذان يحملان سمات ناصعة من سمات الحضارة العربية.
وربما يصب في هذا الاتجاه ايضا ذلك المعرض الذي اقيم في المتحف البريطاني بعنوان ‘الكلمة في الفن’ وكنت من المشاركين فيه.
وفي القاهرة كان هناك معرض بمركز الجزيرة، أليس كذلك؟
كانت هناك محطة أخرى حيث اقمت معرضا لأعمالي بمركز الجزيرة للفنون خلال شهر آذار (مارس) الماضي، ثم في دبي حيث عرضت في قاعة ‘آرت سبيس’ مجموعة من أحدث أعمالي خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر)، والمعرض القادم سيكون في الأردن في مدينة عمان في صالة ‘دار الأندى’ خلال شهر آذار (مارس) القادم.
وكيف تقيم ملامح المرحلة الأخيرة من أعمالك الفنية؟
تعتبر المرحلة الأخيرة تكثيفا لتجربتي وإمعانا في المضي بها الى التكثيف اللوني والبصري وتأكيدا على فهمي للعلاقة بين الكتلة والفراغ وعلى قابلية الخط العربي اللا محدودة للتشكل بما يتناسب مع التقاء الذائقة البصرية ومفاهيمها في كل الأزمنة.
هل تعتقد أن المكانة التي يحوزها الخط العربي، لائقة به بالفعل؟ هل هي مرضية؟
على الرغم من الاهتمام الذي يزداد يوما إثر يوم لدى الجماعة والمقتنين وبعض الرعاة بالخط العربي، فإننا ما زلنا نعاني من إهمال الرسم لهذا الفن العريق والمميز في المراكز الأساسية التي كانت حاضنا ومشجعا له، ولا يكفي في هذا المجال الاهتمام الحقيقي من قبل بعض الأفراد والمؤسسات في الإمارات العربية، حيث تصدر المجلة الوحيدة التي تعنى بالخط العربي واسمها ‘حروف عربية’، وحيث يقام البينالي الوحيد للخط العربي بالإضافة الى اهتمام مستمر بإقامة معارض دولية للخط العربي.
نعود إلى نشأتك وتكوينك الثقافي كعنصرين فاعلين في تحرير ورسم ملامح شخصيتك؟
تفتحت عيناي في ‘السلمية’ تلك البلدة التي كانت مركز استقطاب فكري وسياسي وثقافي لكل التيارات التي عرفتها سورية منذ بداية القرن، هناك تعلمت القراءة والكتابة قبل سن المدرسة، وهناك رأت عيني كثيرا من المخطوطات التي كانت موجودة في البيوت، وكنت أحب النظر فيها واستمتع بتتبع حروفها، وكان يسود البلد ميل الى الشعر والأدب، ولا يخلو بيت من دواوين المتنبي والمعري والشريف الرضى، وغيرهم، مخطوطة أو مطبوعة، كنت أسمع جرس الكلمات بعيني في المخطوطات ولربما كانت هذه هي البذرة الأولى، بعد ذلك ومنذ بدء الدراسة الابتدائية اهتممت بالقراءة وكان لمجلة ‘سندباد’ ورسومها الجميلة التي كان يرسمها الفنان حسين بيكار وقع جميل في نفسي، ربما شكّل الماء الذي سقى البذرة وجعلني اميل للرسم والخط في آن معا، وكان من الطبيعي أن أمسك بالقلم وأرسم رسوما طفولية في ذلك الوقت، لكن اهتمامي بالرسم والخط اصبح مركزا منذ السنة الثالثة الابتدائية، كنت أتعلم الرسم في المدرسة والخط عند كبير خطاطي الشام الأستاذ المرحوم ‘بدوي الديراني’ وكانت كراساتي وكتبي مليئة بالخطوط المنقولة من عناوين الدروس في الكتب.
أنت تزعم ان الجمود الذي اعترى الخط العربي لفترة طويلة اثر سلبيا على تطوره، فهل لديكم مقترحات للعودة به الى سياق التطور والتجديد المنتظر مع إشارة الى ذلك عبر أعمالكم؟
رغم أثر الجمود الذي اعترى الخط العربي، منذ احيط بهالة من التقديس الذي أبعده عن الحياة اليومية وقصر دوره على وظائف دينية، أقول أثر هذا بشكل سلبي على نموه وتطوره منذ سيطرة المدرسة العثمانية عليه، لذا كان من الضروري أن تخرج الى النور بعض الأفكار التي تبحث عن مخرج من هذا الجمود، في هذا السياق فكرت كثيرا بهذا الأمر بعد دراسة معمقة للخط العربي ولتاريخه الجمالي، ووجدت ان الخط العربي لم يكن في يوم من الأيام ليقتصر على الجانب الديني فحسب، لأنه كان دوما قاسما مشتركا لكل الفنون العربية الإسلامية، دينية كانت أم دنيوية، وقد تطور بخط صاعد جماليا منذ صدر الإسلام وبدايات الحضارة العربية الإسلامية، فواجه خامات لا حصر لها من النقود الى الصناعات المعدنية والخشبية الى النسجيات الى العمارة، وكل ما يرتبط بها من خامات، ناهيك عن الورق، وقد استطاع الخطاط الفنان ان يجد حلولا جمالية تتلاءم مع كل خامة من الخامات التي تعامل معها. لذلك عرفنا أنواعا كثيرة جدا من الخطوط العربية على مستوى جمالي راق، يضاف الى ذلك وصول الخط العربي الى الأندلس والمغرب غربا، الأمر الذي جعل عددا من الشعوب تسهم في الارتقاء بجمالياته فتمنحه خصوصيات محلية على مستوى فني عال.
من هنا فإن أي تفكير للعودة بالخط العربي الى سياق التطور والتجديد لا بد له من دراسة معمقة لآلياته وجمالياته الخاصة وتاريخ تطوره الجمالي، لنبدأ من حيث توقف تطوره ولنضيف جديدا إلى ما وصل إليه، آخذين بعين الاعتبار التطور الذي أصاب المجتمع والتقنية والتلقي الجمالي والعلاقات البصرية والمستجدات الحضارية، أما عن أعمالي فليست إلا تطبيقا عمليا لأفكاري في هذا المجال.
قبل مناقشتنا أزمة الخط العربي، كيف ترى محاولات التجديد والموقف العام منها على ضوء التقلص الذي مني به المشروع الثقافي في العالم العربي بلا استثناء؟
في هذا المجال لا بد لنا أن نكون منصفين، فمحاولات التجديد لم تسر على وتيرة واحدة وفي اتجاه واحد، هذه المحاولات التي ابتدأت مع بدايات الدعوة التحررية في أواخر العصر العثماني وتصاعدت مع الدعوة الى التخلص من الاستعمار الأوروبي تلونت بألوان شتى وتزينت بأزياء مختلفة، فكان هناك من يعملون على التجديد انطلاقا من فهم التراث ونقده وكان هناك من يرون في التجديد عودة الى دراسة الحضارات السابقة على الإسلام في بلداتهم والانطلاق منها في محاولات التجديد، لذلك كان من الطبيعي أن تكون هناك مواقف مختلفة من موضوع التجديد، فكان هناك تأييد محارب للاتجاهات الثلاثة التي ذكرناها وكان هناك في المقابل معارضة من كل حزب للحزب الآخر بالإضافة الى معارضة السلفيين المنغلقين لكل اتجاهات التجديد، ولو استعرضنا النتاج الفكري والأدبي والفني خلال خمسين او ستين عاما لوجدنا مصداقا لها، فمحاولات التجديد في الشعر والأشكال الأدبية الأخرى وفي الموسيقى والفنون الأخرى كانت تنطلق من هذه الاتجاهات، لكن شكل المواجهة بينها حتى السبعينات كان يأخذ منحى أكثر صدقا وجدية مما نراه اليوم.
والمساجلات والكتابات المتعارضة التي عرفتها سنوات الأربعينيات والخمسينيات كانت عميقة ومسلحة بالمعرفة على عكس ما نراه اليوم وليس أدل على ذلك من موقف محمود محمد شاكر من رؤية طه حسين للشعر الجاهلي، والأدب العربي وتلك المساجلات التي جرت بين طه حسين وعباس محمود العقاد، لكن الوقوف على أرضيتين مختلفتين لم يكن يجر الى مهاترات بعيدة عن الموضوعية والعملية.
تشكو من التقليدية الصارمة التي يعاني منها الخط العربي لا سيما تلك الخطوط التي كرستها المدرسة العثمانية. ألا ترون انه من الضروري تجاوز هذه المدرسة والخطوط التقليدية الأخرى الى اشكال وأنواع وأساليب تلائم التطور الهائل في الفنون الجميلة وفي الحاسة البصرية؟
اجل من الضروري تجاوز المدرسة العثمانية والخطوط التقليدية وهذا أمر دعوت إليه منذ بداية عملي الى اساليب جديدة تلائم التطور الذي وصلت إليه الفنون الجميلة وتراعي التطور الذي أصاب المتلقي ووعيه البصري، ويبدو هذا مهماً من حيث المبدأ ولو حاولنا التحديد لوجدنا ان هذا ضروري في التعامل مع اللوحة الخطية من ناحية ومع الفنيات الحديثة التي حلت محل النساخ، أي في مجالات الطباعة والتصميم الفني والاستخدامات المختلفة وعلى شاشات التليفزيون وعلى أغلفة المنتجات وغيرها، وهذا يستدعي ان ينظر الخطاطون الى الخط كفن لا كمهنة وأنْ يدركوا أنّ على كل منهم ان يكون مبدعا ومجددا وأن يكون له دور في الإضافة فالتطوير الذي يراعي العروض فحسب دون موهبة شعرية ليس شاعرا، وكذلك الخطاط الذي يعرف اشكال الخطوط وبعض قواعدها ليس فنانا حتى لو كان مجددا، فالمجدد صاحب الاسلوب لا المقلد هو الفنان المبدع.
هل ترى ان الفن التشكيلي بعد جيل الرواد في مصر والعالم العربي معبر عن واقعه ومتصل في نفس الوقت مع تطور التشكيل في العالم؟
لا يمكن الكلام الآن كما أرى عن اتجاهات فنية تجمع بين الفنانين العرب، فهناك مستويات مختلفة ربما تصل الى حد التناقض بين اشكال عطائهم الفنــــي وأنا أرى ان كثيرا من الفنانين العرب الآن ما هم إلا نقلة للاتجاهات والموضوعات الفنية في الغرب، ليس على مستوى الشكل فحسب بل على مستوى الموضوع أيضا وهناك قلــة من الفنانين الذين تأثروا بمدارس الفن التشكيلي الغربية من حيث الشكل لكنهم كانوا لصيقين بموضوعات مجتمعاتهم يستمدون روح اعمالهم من هذه المجتمعات.
وأخيرا هل ترون أن هناك رعاية مقبولة من المؤسسات العلمية العربية للخطاطين، وهل توجد معاهد للخطوط ذات فعالية؟
دعني أقول لك ان الرعاية تكاد تكون معدومة ليس للخطاطين فحسب، بل لفن الخط العربي هذا القاسم المشترك لكل الفنون العربية الإسلامية التي تتباهى بآثارها وتتسابق متاحف العالم لاقتنائها.
ليس هناك اهتمام بدءا من المدرسة مرورا بالكليات الفنية ومعاهدها، وانتهاء بالتعامل مع الخطاطين كمهنيين لا كفنانين.
القدس العربي