عالمٌ بلا خرائط – عبد الرحمن منيف, جبرا إبراهيم جبرا
“لا يمكنني أن أفسّر الأشياء برؤية واضحة, فالوهم جزءٌ من حياة كلّ إنسان, و ربما كان الوهم هو الحياةُ كلّها بالنسبة للكثيرين” (مقتطف من الرّواية)
ليس من المألوف أن نقرأ أعمالاً أدبيّة مشتركة بين أكثر من كاتب أو أديب واحدٍ, فقد نجد كتباً تُجمع فيها أعمالٌ لأشخاص مختلفين كمجموعات قصصية أو شعرية لكنها تبقى كيانات مستقلّة ضمن كتابٍ واحد, لكن المختلف في رواية “عالمٌ بلا خرائط” أنّها نصٌّ واحدٌ اجتمع على كتابته كاتبان, و ليسا أيّ كاتبين, إنهما عملاقان من عمالقة الأدب العربي الحديث.
عالمٌ بلا خرائط ليست رواية عاديّة لا شكلاً و لا مضموناً, فعدا عن أنها نتاجٌ مشترك فهي باعتقادي خاطرة روائية أكثر مما هي سردٌ اعتيادي لأحداث و أشخاص, فمنذ الفصول الأولى يدخل القارئ في دوّامة جدليّة عنيفة يكون مركزها الشّخصية أحياناً.. و الكلّ غالباً.
تتميّز الرّواية أيضاً بعناصر عميقة و داعية للتفكير لا تتمثّل فقط في الشخصيات المتقنة و المؤثّرة حتى لو لم تظهر كثيراً في الرّواية, و إنما أيضاً يتحوّل عنصر المكان (عمّورية, و هي المدينة الخيالية التي استخدمها عبد الرّحمن منيف في “الآن هنا” كذلك) إلى جزء فاعل في الجدلية و الشك و الضياع, ففي حين يبحث علاء (الشخصيّة الأساسية في الرّواية و التي تدور أحداثها على لسانه) في هذه المدينة ذات ثنائية القداسة و اللعنة عن أرضية صلبة يقف و يثبّت نفسه عليها بعيداً عن التخبّط نجد أن عمّورية بحد ذاتها تصارع لكي تبقى واقفة على أرضية أشبه بالرّمال المتحرّكة في زمنٍ مجنون.
أعتقد أن استخدام عنصر المدينة بهذا الشكل الرّائع و الرّيادي كان موفقاً جداً, و أعطى للرّواية بعداً مختلفاً و عميقاً قلّ مثيله.
الحب, التعظيم, الاحتقار, المادّة و العاطفة, السياسة, الفكر, الواقع و الحلم… البحث عن الجذور للاحتماء بها حيناً, و الرغبة باقتلاعها و قطعها و الهروب من التشبّث بها حيناً آخراً.. كلّها عناصر تتداخل لتشكّل شبكة متقنة النسج من الأحداث و الأفكار.. و الهلوسات حتّى.
رواية ممتازة و ممتعة, خصوصاً إن كان القارئ “منيفيّ الهوى” في الرّواية كحالة كاتب هذه السطور المتواضعة, كما أنها رواية جريئة لغةً و تركيبةًُ و مضموناً, و تصطدم في فقرات و أفكار كثيرة مع النزعة “النقائية” (من النقاء) في الأدب و الكلمة و المجتمع و العرف.
http://www.syriangavroche.com/
أمواج اسبانية في فرات الشام