معمر القذافي.. رجل دولة
تحت عنوان “معمر القذافي.. رجل دولة” نشرت مجلة “نيوزويك” (22 ـ 29 أيلول 2009) تقريراً عن الرئيس الليبي. منه نقتطف:
يقترب أسبوع جهنمي، على الأقل بالنسبة الى النيويوركيين. لقد بدأت أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وها هي حركة السير في المدينة تصاب بالشلل مثل مصرف مياه تسده شخصيات من المرتبة الثانية. خلال هذا الأسبوع، عندما تنطلق عربدة التموضع المعروفة بالنقاش العام، سوف تحضر أسماء كبيرة فعلاً الى نيويورك: باراك أوباما ونيكولا ساركوزي، هوو جينتاو، هوغو تشافيز، محمود أحمدي نجاد ومعمر القذافي، وهذا ليس سوى غيض من فيض. طوال ثلاثة أو أربعة أيام لا تنتهي، سوف يحكم رجال الدولة والمستبدون والإرهابيون قبضتهم على مانهاتن ويوزعون ابتساماتهم العريضة ويشلون الحركة فيها.
لكن من هو رجل الدولة، ومن المستبد، ومن الإرهابي؟ هناك أشخاص في هذا العالم يضعون أياً من تلك الأسماء في أي من تلك الفئات. غير أن الشخص الذي يمكن وضعه بلا شك في الفئات الثلاث هو معمر القذافي.
الزعيم الليبي غريب الأطوار الى حد كبير، الى درجة أن أحد المحررين لدي يحب ان يسميه مايكل جاكسون السياسة العالمية. هناك دائماً قصة ما تدور حوله، عن الجمال أو الخيم، وعن حارساته الشخصيات، وثيابه الشبيهة بتلك التي نراها في المسلسلات الهزلية. حتى أنه وضع عام 1988 قفازاً أبيض في يد واحدة في إحدى القمم العربية في العاصمة الجزائرية.
غير أن القذافي موجود في السلطة منذ أكثر من 40 عاماً، ولم يبق فيها بفعل الاستبداد والترويع فقط، إنما أيضاً بفعل نوع خاص من فن الحكم. إنه نوع من الأنموذج، سواء كان نحو الأفضل أم الأسوأ، ولا سيما اللاعبين النفطيين الآخرين مثل إيران والأشرار الدائمين على غرار الكوريين الشماليين. يقول ديبلوماسي غربي عمل في طرابس بعدما استعاد القذافي حظوته لدى الغرب، وقد طلب عدم الإفصاح عن هويته لأنه لا يزال يتعامل مع الليبيين: “نجح القذافي في إتقان فن إنشاء عدد كبير من مجموعات المصالح المتنافسة وإرباك الناس وخداعهم”.
في نظر هذا الديبلوماسي، كانت حادثة الإفراج عن السجين التي تكشفت فصولها في الأسابيع القليلة الماضية، متوقعة الى حد بعيد. فطوال سنوات، ثابرت ليبيا على الدعوة الى إخلاء سبيل عبدالباسط علي محمد المقرحي، المدان في اعتداء لوكربي، وكانت تحرص على ظهور إسمه في المفاوضات التجارية الحساسة، وقد مارست ضغوطاً في قضيته الى أن سمحت الحكومة الاسكتلندية، لأسباب إنسانية، للمدان بالمصاب بالسرطان بأن يعود الى دياره ليموت هناك. لكن عندما عاد المقرحي الى طرابلس، عانقه القذافي ولقي ترحيب الأبطال، مما تسبب بالإذلال للمسؤولين البريطانيين، ولا سيما رئيس الوزراء المحاصر غوردن براون.
على مر العقود، تعلم القذافي أنه لا يحتاج فعلاً الى أن يتغير؛ فحتى ألد أعدائه يعيدون اختراعه بحسب حاجاتهم، وأطماعهم. وهذا درس يستطيع أي منتج كبير للطاقة ـ لا سيما تشافيز في فنزويلا وأحمدي نجاد في إيران ـ أن يفكر فيه جدياً. فمن غير القذافي تعرض لأسوأ أشكال الذم، ومن غيره عاد بهذه القوة؟
بشكل عام، يزداد القبول العالمي للزعيم الليبي ويهبط بحسب سعر النفط: عندما يكون مرتفعاً، كما في سبعينات القرن الماضي ومجدداً في الأعوام القليلة الماضية، وجدت أوروبا والولايات المتحدة طرقاً للتغاضي عن سجله الشائن في مجال حقوق الإنسان ودعمه الانتقامي للإرهابيين، وقررتا أن الطريقة الفضلى للتأثير في سلوكه هي عبر التعامل معه. وعندما كانت أسعار النفط منخفضة، كما في أواخر ثمانينات القرن الماضي وطوال مرحلة التسعينات، صُوِّر القذافي بأنه رجل مجنون، واعتُبِرَ بلده بأنه لا يصلح لشيء سوى للقصف والمقاطعة.
لكن لا شك في أن سعر النفط ليس العامل الوحيد في هذه اللعبة. فهناك أيضاً مسألة الأسلحة النووية ورحلة بان أم 103. ويستحق الأمر عناء إلقاء نظرة على التاريخ لإدراك الأسباب والمفاعيل والمحاججات التي سيطرت على السياسة.
خلال عهد ريغان، كانت طموحات القذافي الذرية وهمية في معظمها، وكانت أهدافه تتركز في شكل أساسي على خصومه المنفيين والإسرائيليين. لكن في The Fifth Horseman (الفارس الخامس)، وهو كتاب أبوكاليبتي نُشر عام 1980 وحقق أعلى المبيعات، تخيل المؤلفان أن العقيد معمر القذافي استطاع صنع قنبلة زنتها ثلاثة ميغا طن وإخفاءها في نيويورك لاحتجاز المدينة رهينة. وبقيت هذه الصورة المخيفة عالقة في الأذهان. في يوليو 1981، نشرت نيوزويك غلافاً مثيراً بطريقة رائعة يظهر فيه وجه الزعيم الليبي بينما يندفع إرهابيون باتجاه القارئ، والنار تنطلق من رشاشات الكلاشينكوف. وكان عنوان الغلاف “القذافي: أخطر رجل في العالم؟”.
في الواقع، لا. كانت ليبيا تفتقر الى الدفاعات الى حد كبير. لكن في الأعوام الثمانية اللاحقة، طاردت إدارة ريغان القذافي، فعاقبته على تبجحه وارتباطه بالإرهابيين (كانت صفة إرهابيين تشمل في ذلك الوقت نلسون منديلا) عبر قصف طائرته وإسقاطها وإغراق سفنه. أخيراً رفع الزعيم الليبي الرهان في أبريل 1986 عندما زرع عملاؤه عبوة في ملهى ليلي في برلين، ما أسفر عن مقتل جنديين أميركيين وإمرأة تركية. وقد شنّت واشنطن التي كانت مستعدة تماماً للمواجهة، غارات جوية على مدينتي طرابلس وبنغازي في ليبيا، وانطلق عدد كبير من الطائرات المهاجمة من قواعد في بريطانيا.
عندئذ فقط شن القذافي هجوماً سرياً مدبراً ضد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. فقد أرسل شحنات ضخمة من الأسلحة الى الجيش الجمهوري الإيرلندي؛ ونفذ عملاؤه مزيداً من الهجمات ضد عسكريين أميركيين وبريطانيين حول العالم. حتى إنهم استخدموا إرهابياً يابانياً سيئ الطالع ألقي القبض عليه عن طريق الصدفة على طريق نيوجرسي تورنبايك السريع بفترة وجيزة قبل أن يقوم بتفجير عبوات ناسفة في وسط ميدنة مانهاتن. وفي الختام، زرع أزلام القذافي قنبلة على متن طائرة بان أم 103 وقد انفجرت فوق لوكربي في اسكتلندا ما أسفر عن مقتل 270 شخصاً في الجو والبر في ديسمبر 1988.
بعد مفاوضات استمرت طويلاً، جرى التوصل الى تسوية معقدة نصت على محاكمة عميلين من الاستخبارات الليبية في تفجير لوكربي أمام محكمة اسكتلندية تنعقد في مكان يُعدّ لها خصيصاً في هولندا. وقد أدين المقرحي فقط، وكأنه تصرف من دون تلقي أوامر من أحد. وافق الليبيون على دفع ملايين الدولارات لعائلات القتلى، من دون التسليم بمسؤوليتهم عن التفجير، واستمروا في تسويق حجة شبيهة بتلك التي سيقت في قضية (نجم كرة القدم الأميركية السابق) أوه جيه سيمبسون، أي أنه لم يتم العثور أبداً على الإرهابيين الحقيقيين.
وبحلول عام 2004، مع بلوغ سعر برميل النفط 40 دولاراً وارتفاعه بسرعة، باتت هناك محفزات كثيرة لمسامحة القذافي على أخطائه.
قال لي سيف الإسلام عام 2007 بعدما ابتزت ليبيا مئات ملايين الدولارات من فرنسا والقطريين للإفراج عن الممرضات البلغاريات اللواتي وُضِعن في السجن لسنوات على خلفية تهم ملفقة بنشرهن مرض الإيدز: “إنها لعبة غير أخلاقية، لكنهم (الأوروبيين) يحددون قواعد اللعبة… والآن يدفعون الثمن”. وقال سيف إن ما تعلمه من قدوة والده هو أن “أعداءك يأتون إليك أخيراً ويقولون لك، حسناً، الآن نحن أصدقاء ويمكننا القيام بهذا معاً، ويمكننا حتى مساعدتك إذا هاجمك أحد ما، وسوف ندافع عن بلادك والقيام بأعمال معاً”.
إذن لا تنسوا هذا الكلام عند سماع القذافي يلقي كلمته أمام الأمم المتحدة. (تجدر الإشارة الى أن ليبيا تتولى الآن الرئاسة الدورية للجمعية العامة). لا شك في أن الزعيم الليبي سيبدو غريباً ويتصرف بغرابة. نعم، لا يزال مجنوناً بعد كل هذه السنوات. لكننا نحن أيضاً لا نزال مجانين.
المستقبل