تركيا المشدودة ما تزال الى ما في الشرق وما في الغرب
فادي طفيلي
شارع «استقلال» في اسطنبول هو مقياس المدينة. مقياس حرارتها وإيقاعها ونبضها. وهو المجرى البشري الدافق الذي يبلغ ميدان تقسيم الوسطي، ساحة الجمهوريّة الأتاتوركيّة الأبرز في المدينة العريقة.
«استقلال»، وبالتحديد ذلك الجزء منه الممتد بين ميدان تقسيم وثانويّة غالاتاسراي الشهيرة، والمجاور «للشارع الفرنسي» شرقا ً، يجمع ماضي اسطنبول بحداثتها على نحو لا يفعله أيّ شارع آخر في حاضرة تركيا والأناضول.
خلال الحقبة العثمانية عرف الشارع باسم «الجادة الكبيرة»، وقد تحوّل إلى قبلة للأجانب الأوروبيين والمستشرقين وإلى مركز للمثقّفين العثمانيين والمنفتحين على الثقافة الغربيّة إبّان زمن الإصلاحات العثمانيّة اوائل القرن التاسع عشر.
عمارته ونسقه وأجواؤه وصروحه كلّها توحي بذلك. فهو، بامتداده المستقيم نفسه كما في فروعه، مرتع للسفارات والقنصليّات الأوروبيّة، التي منها قنصليات بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والسويد واليونان وروسيا وأرمينيا. أمّا عمرانه،
ببنايات «الآرت نوفو» وباقي طرز مطلع القرن العشرين الحديثة، فهو مثال صريح وغني لتلك الأساليب الأوروبيّة التي أخذت تنتشر بكثافة في مدن حوض المتوسّط، كما في مدن أبعد، وذلك على إيقاع ضمور السلطان العثماني وترهّله.
الشارع وجواره، على الرغم من ماضيهما العثماني كموقعين، هما تعبيران قويّان عن اسطنبول الأوروبيّة التوجّه والهوى، أو ربّما، اسطنبول الأتاتوركيّة.
من المنظور التجاري يمكن لنا مقارنة شارع «استقلال» بـ «البازار العثماني الكبير»، هذا الأخير القائم في المقلب الآخر من اسطنبول والذي يمثّل مع محيطه ذروة العمارة العثمانيّة. فالمكانان المذكوران، شارع «استقلال» كما «البازار»، هما سوقان تجاريان. غير أنّ الأوّل لا يقصر نفسه على الوظيفة التجاريّة مثلما يفعل الثاني.
البازار هائل وعظيم ومؤثّر وسلطانيّ وفاحش في جماله وغناه، لكنّه لا يتعدّى وظيفته كبازار. فيما في المقابل، فأنّ شارع استقلال، الذي هو سوق و»بازار» أيضا ً، لا يتوقّف عند أيّة حدود للزمن والوظائف. البازار نُصبي، مثله مثل ما تبقّى من الحمامات التركيّة في حيّ غالاتاسراي، ومثله مثل القصور العثمانيّة وجوامع اسطنبول الرائعة. وهو بذلك، كما القصور والجوامع، محدود بالمواقيت ومحصّن بالوقار وبهيبة السلطنة وتاريخها.
أمر النصبيّة، على الرغم من أنّه مصدر للبريق والنجوميّة هنا في اسطنبول، فأنّه احتفاء «بالداخل» وبأجواء البلاط وبانجازات الأكابر من علية القوم والسلاطين. حتّى أنّ فكرة انغلاق «البازار» بالسقوف المزخرفة والبهيّة لا تمثّل أيّة مصادفة في الأمر، بل هي تعبير صريح عن «الداخل» ذاك.
شارع «استقلال» لا يخلو من النصبيّة الاسطنبوليّة، خاصّة وأنّه ينتهي بميدان «تقسيم» وبنصب الجمهوريّة الوسطي وبكمال أتاتورك يتقدّم الأمّة في المسير. لكنّ «استقلال» قبل كلّ شيء هو شارع هائل، وهو «خارج» مفتوح، يلفحه الهواء ويلسعه المطر وتطوف به الكلاب الشاردة المغبرّة ويفيض بالبشر في كلّ وقت، من أول النهار وطوال الليل إلى أوّل النهار التالي، بشر من كلّ الأنواع والأهواء والأجناس والميول والألوان واللغات.
في اسطنبول لا بدّ من أن نذهب للبازار لزيارته. لا بدّ من أن نذهب إلى الجامع الأزرق لزيارته، وإلى آيا صوفيا لزيارتها. ولا بدّ من زيارة قصر الباب العالي (توب كابي) مقرّ سلاطيننا على مدى خمس مائة عام، وبرج القسطنطينيّة. لكن في اسطنبول لا بدّ من العيش في شارع «استقلال». لا بدّ من الهوام به والانطلاق منه والغرق بتفاصيله وفروعه وعوالمه، كما لا بدّ من ضبط اتجاهات الأمكنة والمسير والحركة بالاستناد على موقع «استقلال» وامتداده.
وما يجعل الأمر الأخير يسيرا ً هو أن «استقلال» يمتدّ في أعلى تلّ مشرف في ذروة حيّ «باي يو لوو» (Beyoglu الذي يلفظ Bay- oh- loo) الاسطنبولي العريق. إذ يمكن تسلّق أيّة «طلعة» من «طلعات» اسطنبول الحادّة وبلوغه. كما يمكن اقتفاء أثر أيّ حشد بشري سائر، أو أيّ قطيع كلاب متقدّم، وبلوغه.
جوار «استقلال» كلّه داخل في تركيبة الشارع ومعانيه.
حيويّة الأخير تتكوّن من احتشاد لعناصر اسطنبوليّة كثيرة، عثمانيّة وتركيّة وأوروبيّة وإسلاميّة ومسيحيّة ويهوديّة وعلمانيّة واقتصاديّة وثقافيّة، لا تحتشد في أمكنة أخرى على نحو احتشادها فيه، أو في جواره وفروعه.
في موقع المحور الوسطي الموزّع بقلب الشارع، تقع ثانويّة غالاتاساراي. إنّها مدرسة النخبة الاسطنبوليّة، المدرسة الأقدم في المدينة والأعرق في تركيا حيث كان «السلطان المسالم»، بيازيد الثاني (1447 1512)، قد أسّسها في عام 1481. بوابة المدرسة وزخارفها التي تتوسّطها طغرة السلطان المذهّبة، كما مبانيها المحاطة بالحدائق والأشجار العاليّة والمحاطة بسياج عال ٍ ممتدّ، هي من العلامات العمرانيّة العثمانيّة القليلة، لكن الكبيرة جدّا ً، التي يمكن الوقوع عليها في الشارع وجواره. إلى الشمال الأقصى من «استقلال» هناك ميدان تقسيم، الساحة الوسطيّة الأشهر في اسطنبول. ويمكن اعتبار الساحة المذكورة بمثابة الوسط المديني للجمهوريّة الكماليّة الحديثة، حيث نُصب أتاتورك و»مركز كمال أتاتورك الثقافي» ومحطّة المترو الرئيسة تحت الأرض، هذه الأخيرة التي أنشئت قبل سنوات قليلة ليصل المترو نواحي اسطنبول بعضها ببعض.
إلى الجنوب الغربي من شارع «استقلال»، وضمن منطقة «باي يو لوو»، يقوم كنيس نيفي شالوم، الكنيس الذي فرغ من بنائه في عام 1951 على أثر تزايد أعداد اليهود في منطقتي غالاتا وبيرا القديمة في اسطنبول بمطلع ثلاثينات القرن الماضي. وثمّة في الجوار والفروع المحيطة بالشارع صروح ومبانٍ عديدة، منها جامع صغير وكنيسة الروم الأرثوذوكس ومدرسة للأرمن ومقار سفارات ومراكز ثقافيّة أجنبيّة، وأزقّة المقاهي والمطاعم والبارات والأسواق الصغيرة، تعكس الكوزموبوليتيّة المتوسّطيّة لاسطنبول التي بلغتها المدينة مع حقبة الإصلاحات العثمانيّة في القرن التاسع عشر. إذ أنّ «استقلال» بتموقعه هناك في ذروة حيّ غالاتا، هذا الأخير الذي اعتبر حضناً لأقليات اسطنبول المتوسّطيّة – الأوروبيّة، من يونانيين وإيطاليين وأرمن وفرنسيين وغيرهم، شكّل مكاناً لاندماج هؤلاء بالحياة الاسطنبوليّة اليوميّة ومعبراً يودي بهم إلى دواخلها.
غير أنّ أمر الكوزموبوليتيّة تلك اتسم بمسار فوضوي مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حيث بدأ انحلال السلطنة العثمانيّة وحاصرتها الثورة اليونانيّة من الغرب، وحرب القوقاز من الشرق، ثمّ الحرب العالميّة الأولى من كلّ الجهات. المسار الفوضوي للكوزموبوليتيّة الاسطنبوليّة شرع بالظهور مع مغادرة اليونانيين بكثافة حيّ غالاتا، ثمّ الأرمن بكثافة أكبر، ثم الفرنسيين وكثير من الأوروبيين الآخرين. ولم ينتصف القرن العشرين إلا ّ مع فاجعة كوزموبوليتيّة في حيّ غالاتا، الذي كاد يخلو من كتلته المتنوّعة.
تركيا، جمهوريّة الانقلابات العسكريّة بدءاً من الستينات، أخذت تفرض تحوّلاتها الجذريّة على «استقلال» وعلى «غالاتا» إلى جواره. فعلى مدى السنوات الوسيطة لحقبة الانقلابات انحدرت حياة «استقلال» إلى ما يلامس الحياة السفليّة للمدن، وأخذ غالاتا يشهد حلول كتلة سكّانيّة جديدة في مبانيه وبيوته وشققه الخاليّة، عمادها أبناء الأطراف التركيّة البعيدة الذين أخذوا ينزحون من أريافهم باتجاه اسطنبول، حاضرة الجمهوريّة.
حقبة «استقلال» الجديدة الممتدّة إلى اليوم، والمتواصلة بعمق مع التجارب السابقة للشارع وجواره، بدأت في الثمانينات. ما مثّله «استقلال» من معاني تختصر كوزموبوليتيّة اسطنبول وعلاقتها الوطيدة والعضويّة مع المدى الأوروبي غدا، في الثمانينات، حين بدأ الحلم الأوروبي يدغدغ مشاعر الأتراك نظاما ً ومجتمعا ً، أمرا ً تلحّ العودة إليه وتسليط الضوء عليه. عمليات الـ gentrification والترميم والإحياء بدأت رسميّاً في غالاتا في الثمانينات وانعكست بقوّة على شارع «استقلال». النازحون من الأطراف تمّ إخلاؤهم من الحيّ «الكوزموبوليتي» ومن محيط الشارع الفرنسي، وجرى التعويض عليهم بمساكن في الضواحي. كما أجريت عمليات ترميم ملحوظة لمباني «الآرت ديكو» والطرز الكولونياليّة وأفتتحت المطاعم والحانات والمقاهي وصالات الفنّ فيها.
شارع «استقلال» اليوم يحيا في ظلّ الحلم الأوروبي الكبير لاسطنبول، الذي سيبلغ مع العام القادم آفاقاً جديدة، إذ ستعلن المدينة طوال العام المذكور «عاصمة ثقافيّة أوروبيّة».
عمليات الـ gentrification لغالاتا، على الرغم من بعض التفاوت ومظاهر الفراغ التي تحدثها ومن تعثّر بعض مشاريع المقاهي والمطاعم والحانات فيها، أخذت تفتح الحيّ ذا الماضي الكوزموبوليتي العريق على اختبارات مدينيّة جديدة لا تخلو من معاني كوزموبوليتيّة راهنة. الأمر الأخير يتمثّل بعودة أوروبيّة ملحوظة إلى غالاتا من قبل أفراد ومؤسسات وبعثات ثقافيّة وفنيّة. كما يتمثّل بحيويّة هادرة، يقوم إيقاعها من نضوج المراحل واختلاط الطبقات الاجتماعيّة على مدى مراحل شارع «استقلال»، الواصل ما بين علامات العثمانيين وصروح حقبة الإصلاح والتنوّع والتغريب وتفاصيلها اليوميّة التي لا بدّ من الغرق فيها.
المستقبل