متى الانقلاب وكيف؟
الياس خوري
لا شك اننا سئمنا، ولم نعد نفهم شيئاً في احوال السياسة اللبنانية، وهذا ليس ناجماً عن عدم قدرتنا على التحليل فقط، بل عن خواء عناصر التحليل، لأن اللغة السياسية فسدت.
الآن نفهم معنى عبارة تغيّر الدول. اغلب الظن ان اسلافنا، عندما عاشوا مرحلة مشابهة، كانوا عاجزين عن الفهم، او استحوذ عليهم ما يشبه اليأس، وافضل دليل على ما اقول، هو ذهاب ابن خلدون الى تيمورلنك، وشعوره بأن الحضارة العربية ماتت. لذا لم افهم ذلك الغبار الذي اثاره ادونيس حين تحدث عن موت الحضارة العربية، فهذه الحضارة ماتت من زمان، عندما استباح هولاكو بغداد، ولم يجد من يتصدى له سوى المماليك!
ماذا تفعل اذا كنتَ رافضاً مبدأ الذهاب الى تيمورلنك؟
هنا يكمن السؤال.
نعود الى لبنان كي لا نصدّق ان السياسيين اللبنانيين يصدّقون انفسهم، او يأخذون كلامهم على محمل الجد. كما لا اصدّق انهم يعتقدون اننا نصدّقهم. لكنهم يلعبون في الوقت الضائع، قبل الانهيار النهائي.
السؤال الحقيقي ليس حول علاقة الاكثرية بالأقلية، فالكلام عن اكثرية واقلية يفترض وجود اقتناع بما يطلقون عليه اسم الديموقراطية. اما حين تقود الانتخابات البرلمانية الى لا مكان، فهذا يعني ان السؤال لا معنى له، وهو مرتبط بتغيّر الدول.
الدولة تدول، اي تنتهي، مثلما قالت العرب. ونحن الآن امام المعنى العميق لكلمة دولة. اي اننا امام هاوية الزوال.
تعالوا نقرأ الأمور بلغتها الواقعية. ليس صحيحا ان العقدة تكمن في الانقسام الماروني، لأن هذا الانقسام ولد مع ولادة الدولة اللبنانية. من الانقسام الدستوري – الكتلوي الى الصراع الشهابي- الشمعوني في زمن السلم. ومن مذابح اهدن والصفرا وصولا الى حرب الإلغاء في زمن الحرب.
تحميل الانقسام العوني- القواتي- الكتائبي مسؤولية الانسداد، يبدو مضحكاً. ليس اكثر اضحاكا منه سوى عظامية زعماء المارونية السياسية، الذين يتصرفون كأنهم اسياد السلطة، على رغم علمهم وعلمنا ان هذا انتهى من زمان، وان اقصى ما يستطيعون التمسك به هو المناصفة التي اعطاهم اياها اتفاق الطائف.
لكن يبدو ان المناصفة كانت مجرد شكل للهيمنة السورية. اذ ما ان تراجعت هذه الهيمنة، حتى صارت المناصفة اضحوكة، ولم تنقذها العودة الى قانون 1960 الانتخابي.
النصاب الداخلي اللبناني القديم امام الهاوية. هذا ما اعلنته الشيعية السياسية منذ الاعتصام الشهير في ساحة رياض الصلح، مرورا بالسابع من ايار، وصولا الى قدرتها على شلّ نتائج الانتخابات.
داخليا، المسألة واضحة المعالم. انها صراع على الغلبة بين الشيعية السياسية والسنية السياسية. واحتمال وصول هذا الصراع الى تسوية مقبولة مرهون بتغيير الصيغة، اي بالانقلاب على الطائف.
اثبت اتفاق الطائف، كغيره من التسويات، منذ الميثاق الوطني، انه اتفاق موقت، وان استمراره مرهون بالتوازنات الخارجية التي ترسو على توازنات داخلية. الميثاق الوطني تخلخل بعد حرب الهزيمة عام 1967 وسقط بعد حرب تشرين. والقوى التي خاضت الحرب الأهلية كانت تحمل مشاريع انقلابية جذرية: الحركة الوطنية بزعامة كمال جنبلاط حاولت حسم مسألة السلطة عام 1976، وهُزمت على يد الجيش السوري. “القوات اللبنانية” بزعامة بشير الجميل حاولت الحسم عبر الدبابات الاسرائيلية، لكن بشير الجميل اغتيل مثلما اغتيل كمال جنبلاط.
وبقيت الأمور معلقة حتى الطائف، الذي ساد تفسيره السوري بعد اغتيال رينه معوض.
اتفاق الطائف ودستوره هما على المحك في هذه اللحظة السياسية التي تشبه لحظتي الانقلاب السابقتين. القوة الوحيدة التي تملك الجهوزية هي الشيعية السياسية. فالحريرية، كتعبير عن الصعود السني الى السلطة، ليست منزهة، من جهة، وتسعى الى تثبيت مركزية دور رئيس الحكومة، من جهة ثانية. اما الثنائية الشيعية بقيادة “حزب الله”، فهي عدا كونها قوة صاعدة عسكريا واقتصاديا وسياسيا، تستطيع الاستناد الى الفراغ العربي المخيف الذي تمثله غيبوبة مصر وضعف السياسة السعودية وتبعيتها للولايات المتحدة، من اجل ان تجعل تحالفها مع ايران وسوريا، نقطة قوة تسمح لها بتغيير معادلة السلطة في شكل جذري. هذا من دون ان ننسى الشرعية الاضافية التي اكتسبتها من خلال حصاد الصمود الذي قاد الى هزيمة الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006.
المسألة ليست انتقالا شكليا من المناصفة الى المثالثة، مثلما يجري تصوير المسألة في بعض وسائل الاعلام، بل مسألة جوهرية تتعلق بنصاب السلطة التنفيذية، المتمحور حول رئيس الحكومة. المطلوب تفريغ رئاسة الحكومة من صلاحياتها، تمهيدا لارساء معادلة جديدة في سعي الشيعية السياسية الى تحسين موقعها في مبنى السلطة اللبنانية.
لذا لا ارى في الأفق سوى شبح الانقلاب.
الدليل على ان هذا الشبح ليس وهميا، هو سقوط دعوات الوسطية وموتها في مهدها. مشروع وسطية رئيس الجمهورية تهاوى ومُني بهزيمة مدوّية في الانتخابات. اما الثنائي الجنبلاطي – البرّي الذي حاول بناء وسطية جديدة، فلا حول له. جنبلاط ليس مقبولا من النظام السوري، وبرّي ليس مقررا. اذ، لو كانت هذه الثنائية الوسطية حقيقية لأنقذت تأليف الحكومة. اقسى اماني جنبلاط هو تحييد جبل لبنان الجنوبي عن كل صراع محتمل، وطموح بري يبقى في اطار تمثيل طائفته على مستوى المؤسسات الدولتية.
لا شك ان انهيار افق التسوية الداخلية مرتبط بالمعطى الاقليمي، حيث تبدو آفاق التسوية الاقليمية مسدودة وخصوصا مع ممارسات اليمين الفاشي الاسرائيلي الأحمق، ومع عودة احمدي نجاد الى السلطة في ايران.
لكن تلخيص المسألة بالظروف الاقليمية يحجب حقيقة الاجتماع السياسي اللبناني القائم على الحرب الأهلية الدائمة.
في هذا المناخ المسدود داخليا، فإن الحرب الأهلية ليست خيارا. ليس لأن الطوائف اللبنانية الكريمة اصيبت بالعفة وتعلمت ان الحرب تقود الى الخراب، بل لأن هناك طرفا واحدا مسلّحا ومنظّما، ولا يوجد اي ندّ له. وهذا ما اثبته الحسم السريع في 7 ايار. حتى اذا افترضنا جدلا ان “حزب الله” يريد حربا اهلية فإنه لن يجد من يحاربه. فالحرب رقصة تحتاج الى راقصين اخرين، وهذا ليس متوافرا الآن وفي المدى القريب على الأقل.
قد يكون الجواب ان الأزمة المفتوحة سوف تستمر طويلا، وهذا صحيح، لكنها لا تستطيع ان تستمر هكذا الى الأبد. فتعليق الحكومة يشبه الاعتصام الطويل في ساحة رياض الصلح. والاعتصام وصل الى ذروته في 7 ايار، حيث نفّذ نصف انقلاب قاد الى الدوحة.
هذه المرة، لن يكون هناك نصف انقلاب، بل انقلاب كامل.
لن ادخل في موعظة تستخلص دروس الانقلابين السابقين، انقلاب كمال جنبلاط وانقلاب بشير الجميل، اللذين قادا الى فرض الهيمنة السورية على لبنان، كي اقول ان الطوائف، وهي تعتقد انها تفرض غلبتها، تضحّي عمليا باستقلال لبنان. فالطوائف ليست كيانات مستقلة كي يحبطها هذا الكلام. انها في الأساس قوى تابعة للخارج، والا لما كانت موجودة كقوى سياسية. كما لن اسأل اين القوى العلمانية والديموقراطية التي ناضلت من اجل الحرية والسيادة، ومتى يكون دورها إن لم يكن الآن، فهذا السؤال يحتاج الى مقاربة خاصة به.
سؤالي هو متى نصحو على الانقلاب الجديد؟
النهار الثقافي