التحوّل الحقيقي في لبنان مرتبط بالعلاقة الأميركية – السورية ؟
مصطفى اللباد
فتحت “قضايا النهار” ملفا حول: “اي مستقبل للاصطفافات السياسية في لبنان؟” ساهم حتى الآن كل من جهاد الزين: “ديناميكية المكابرة” (26/8/2009)، سجعان قزي: “مخاطر تتخطى اصطفافي 8 و14 آذار” (1/9)، باسم الجسر: “اربعة سيناريوات امام الحكم المستحيل” (5/9)، طلال عتريسي: “الاكثرية كاكتشاف لبناني” (10/9)، نوفل ضو: “الاصطفاف الانقاذي”: (15/9)، محمد عبد الحميد بيضون: “تجديد الشهابية ام نهاية الدولة الفاشلة؟” ومحمد علي الاتاسي: “لا مستقبل للاصطفافات السياسية في لبنان” (17/9) واليوم ننشر مساهمات كل من مصطفى اللباد ونجاة شرف الدين والياس الزغبي.
يختصر لبنان الصراعات الأوسع في المنطقة ولكن في رقعة جغرافية محدودة؛ لذلك فهو يقوم مقام الترمومتر لقياس حالة المنطقة، ويكفي المتابع أن يلقي نظرة على حراكه السياسي، ليتبين أن الأخير ما هو إلا نسخة مصغرة من الحراك الإقليمي في المنطقة، بحيث يشبه الحراك السياسي في لبنان شجرة “البونزاي” اليابانية تماماً من حيث تفردها وألقها وندرتها وحجمها في آنٍ واحد.
تبدو الاصطفافات السياسية في لبنان صاخبة في الواجهة ولكنها ترتبط على الدوام في الخلفية بتوازنات أعمق تأثيراً وأكثر اتساعاً، بسبب أن الحراك الإقليمي في المنطقة لا يمكنه أن يتبلور إلا بوجود أطراف دولية متحالفة مع أطرافه. ربما يكون البناء الصراعي اللبناني متجسداً في نموذج البناية ذات الطبقات الثلاث، حيث تشكل موازين القوى الدولية الطبقة الأولى، والتوازنات الإقليمية الطبقة الثانية، في حين تكون اصطفافات لبنان السياسية هي الطبقة الثالثة.
وتفرض هذه التراتبية أن يدخل التضارب في المصالح والأجندات الإقليمية والدولية إلى متن وصلب اصطفافات لبنان السياسية، إلى الحد الذي تكون فيه الأخيرة عاكسة لتباينات محلية لبنانية وإقليمية ودولية.
تقول التجربة التاريخية إن تنوع لبنان الطائفي وحجمه الجغرافي والديموغرافي يجعل “لعبته المحلية” متمحورة حول سعي الطوائف المختلفة للإستئثار بحصة أكبر من الدولة والمجتمع اللبنانيين، وهذا السعي يجري تصليبه وتدعيمه عبر الاستقواء بطرف إقليمي في مواجهة الطوائف الأخرى المستقوية بأطراف إقليمية مقابلة؛ في حين تضع القوى الدولية الخطوط العريضة لهذا الصراع والحراك وفق رؤيتها الشاملة لمستقبل التوازنات في المنطقة. وبالرغم من صلاحية نموذج “البناء الثلاثي الطبقة” كهيكلية أساسية للتحليل السياسي اللبناني، لا ينبغي أن يغيب في هذا السياق عامل مهم آخر وهو وجود لبنان إلى جوار سوريا جغرافياً وتاريخياً وديموغرافياً، وهذه الحقيقة تفرض على الطرفين السوري واللبناني قواعد لعب محددة.
كانت سوريا، ومازالت، وستكون طالما بقيت كدولة، لاعباً إقليمياً أساسياً في لبنان، لأن أقدارها الجيوبوليتيكية تفرض عليها الحضور في بلاد الأرز بغض النظر عن اسم الحاكم في دمشق. تكبح عناصر القوة الشاملة السورية طموحها للزعامة الإقليمية، ولكن قدرها الجيوبوليتيكي يفرض عليها دوراً إقليمياً في لبنان يتناسب وإمكاناتها وقدراتها تلك. ومن شأن لعب هذا الدور تعويض محدودية الإطلالة السورية على المتوسط، حيث يتمم الساحل اللبناني إطلالتها البحرية إذا تم دمجه في الفضاء السوري. وإذ يعد الانفتاح السوري على الإقليم والعالم والتجارة والإعلام شرطاً ضرورياً لانخراط سوريا في ديناميكيات الإقليم والمنطقة، فإن للانفتاح المذكور على أهميته تأثيرات سلبية على توازناتها الداخلية؛ ولذلك تفضل دمشق أن يجري هذا الانفتاح الضروري عبر لبنان لضمان تحييد تأثيراته السلبية عليها.
لا تستطيع سوريا إلا أن تمد بصرها إلى لبنان، وذلك على العكس من دول عربية أخرى لا تملك الميزات السورية في لبنان ولا المآزق المترتبة عليها في وقت واحد. كانت دول عربية كثيرة لاعباً في لبنان لفترات معينة على خلفية أهداف متباينة، مثل مصر إبان المد الناصري في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أو عراق الثمانينات الساعي إلى تصفية الحسابات مع سوريا في لبنان، غير أن سوريا استمرت لاعباً في لبنان منذ استقلاله في العام 1943 حتى اليوم من دون انقطاع؛ لأن مصالحها في لبنان ليست ظرفية أو طارئة، وإنما “مصالح وجودية”.
عرف الوجود السوري في لبنان أشكالاً مختلفة، من الهيمنة الاقتصادية الناعمة على المصارف في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، مروراً بالدخول العسكري المباشر في منتصف السبعينات لحماية “التوازنات” في لبنان من المنظار السوري، لأن صعود منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات والحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط فرض إيقاعاً سريعاً ومغايراً لما تطلبته المصالح السورية الأساسية في لبنان. عرفت سوريا، في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، فهماً عميقاً لحدود قدراتها الذاتية ووعياً لأهمية لبنان في قلب توازنات المنطقة؛ فدخلت إلى لبنان عسكرياً عام 1976 بغطاء عربي من الجامعة العربية وبتفاهمات إقليمية (سعودية ومصرية) ودولية (أميركية وفرنسية). ومع التغير في موازين القوى الإقليمية وصعود الدور الإيراني منذ ثمانينات القرن الماضي، بقيت سوريا موجودة في لبنان ولكن في صورة الطرف الثالث والحكم بين اللاعبين الإقليميين الأساسيين: السعودية وإيران. وبازدياد الحضور الإقليمي الإيراني في المنطقة وبروز تحالفات إيران في لبنان (حزب الله) خلال التسعينات من القرن المنصرم وتمركزها في بؤرة المشهد اللبناني؛ أصبحت سوريا حكماً في مباراة لا تتحكم تماماً بإيقاعاتها، ولذلك تغطت سياستها في لبنان بسعيها الدائب لتأمين تفاهمات إيرانية-سعودية حول دورها المباشر في بلاد الأرز.
يؤدي أي تغيير في درجة حرارة البيئة التي تعيش فيها شجرة “البونزاي” اليابانية إلى انعكاس مباشر عليها يظهر في صورة سقوط أوراقها، وعلى النسق ذاته تمثل سوريا البيئة الحاضنة للبنان، بحيث يؤدي أي تغير في درجة حرارتها صعوداً أو هبوطاً، إلى انعكاس مباشر على لبنان يظهر بسقوط أوراق تحالفاته واصطفافاته السياسية. وإذ جاء التحول الكبير في الموقف السوري في لبنان بعد الانفجار في المشهد اللبناني جراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث اضطرت سوريا تحت الضغوط الدولية إلى سحب قواتها العسكرية منه بعد ثلاثين عاماً من الوجود المباشر، فقد تغيرت توازنات مثلما سقطت أوراق. انسحبت سوريا من لبنان عسكرياً ولكنها استمرت حاضرة في أشكال كثيرة أخرى. ومع تزايد الضغوط اللبنانية والعربية والدولية عليها التصقت دمشق بطهران، فالتصق حلفاء ووكلاء الطرفين في تحالف “الثامن من آذار” على الساحة اللبنانية، في مواجهة تحالف “الرابع عشر من آذار” المدعوم من السعودية ومصر ودول ما يسمى “الاعتدال العربي”. وإذ بدت صورة المشهد السياسي اللبناني مائلة لمصلحة التحالف الأخير طوال الأعوام 2005 وحتى 2008، إلا أن حلفاء سوريا وإيران في لبنان فرضوا واقعاً مغايراً على الأرض في بيروت ربيع العام 2008، وهو ما تكلل بما يسمى “اتفاق الدوحة”، ذلك الذي ترجم الواقع الجديد على الأرض اللبنانية تفاهما وقعت عليه الأطراف المختلفة.
مع التغير الإيجابي في المناخ الدولي المحيط بسوريا، بغرض فك تحالفها مع إيران، راح طرف أساسي في هذا الفريق أي النائب وليد جنبلاط، يبتعد نحو الوسط تحسباً لعودة سوريا مرة أخرى إلى لبنان بتفاهمات دولية (راجع مقالنا هنا في 19 أب 2009). ثم راجت أخبار أخرى متفرقة مفادها أن الرئيس أمين الجميل يرمي إلى ترطيب الأجواء مع دمشق ولكن –مثل وليد بك جنبلاط- مع الحفاظ على الموقع نفسه داخل معسكر الرابع عشر من آذار، وتسرع بعض المحللين إلى الحد الذي جعله يعتبر أن تحالف الرابع عشر من آذار قد انتهى عملياً.
يقود تقليب النظر في الاصطفاف اللبناني الحالي إلى ملاحظة أن كتلة الرابع عشر من آذار التي تتشكل من تحالف سني-مسيحي- درزي ممثلاً بتيار المستقبل بقيادة الشيخ سعد الحريري، والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع وحزب الكتائب بزعامة الرئيس أمين الجميل والحزب التقدمي الإشتراكي برئاسة وليد بك جنبلاط، إضافة إلى شخصيات وفاعليات سنية ومسيحية أخرى مثل الوزيرين نسيب لحود وبطرس حرب والنائب السابق فارس سعيد والرئيس نجيب ميقاتي (مع بعض التمايز)، تعرف تناسقاً واضحاً في تحالفاتها الإقليمية والدولية. ويعود هذا التناسق ليترجم استمراراً لهذا بخطوطه الأساسية الراهنة على المدى المنظور، خصوصاً في ضوء الارتباط العضوي مع القوى الإقليمية المانحة والدولية الراعية.
في المقابل يتشكل تحالف الثامن من آذار من تحالف شيعي-مسيحي ممثل في متن أساسي قوامه “حزب الله” بقيادة السيد حسن نصر الله، وحركة أمل برئاسة الرئيس نبيه بري بالإضافة إلى التيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون، وتيار المردة بزعامة سليمان بك فرنجية. وبالإضافة إلى المتن الأساسي المرتكز على صبغة طائفية رائقة، يمتد طيف من الشخصيات ذات الحضور المناطقي والطائفي على هامش هذا التحالف، وهي الشخصيات المتعددة المشارب الطائفية والأماكن الجغرافية مثل الأمير طلال أرسلان في جبل لبنان، والنائب السابق أسامة سعد في صيدا والرئيس عمر كرامي في طرابلس، والحزب العلوي في طرابلس بقيادة رفعت علي عيد، فضلاً عن رموز وشخصيات سياسية تمثل حالة سياسية وليس مناطقية أو طائفية بالضرورة مثل الأستاذ وئام وهاب، والوزير عبد الرحيم مراد والوزير ميشال سماحة. ولأن الحراك الإقليمي يدور على ثنائية سنية-شيعية بخلفية سعودية-إيرانية، فمن غير المرجح أن ينتقل “تيار المستقبل” أو “حزب الله” من مواقعهما الحالية كوكلاء وحلفاء للرياض وإيران، ويبقى انتقال أحدهما ممكناً فقط في إطار تغيرات إقليمية راديكالية مستبعدة في المدى المنظور. وبسبب ترسخ “القوات اللبنانية” و”الكتائب اللبنانية” في تحالف الرابع عشر من آذار بسبب المصالح الطائفية والدولية لكل منهما، لا يبدو أن هناك انتقالاً مشابهاً لما قام به وليد بك جنبلاط يمكن أن يحدث في تحالف الرابع عشر من آذار في الفترة المقبلة.
تدل النظرة المتأنية للتيارات التي تموج ضمن إطار تحالف الثامن من آذار على أن بقاء الإطار الحالي لهذا التحالف مرتبط ببقاء التحالف السوري – الإيراني على شكله الحالي. بكلمات أخرى سيؤدي أي تغيير في علاقة أي من الراعيين الإقليميين لتحالف “الثامن من آذار”، سوريا أو إيران بالولايات المتحدة الأميركية، إلى تداعيات مباشرة وفورية على لحمته الحالية. خرجت سوريا من عزلتها الدولية في ربيع هذا العام، وتكررت زيارات المسؤولين الأميركيين لدمشق التي تمسك بأوراق مهمة لأميركا في لبنان وفلسطين وأقل أهمية في العراق، وقبل كل ذلك تشكل سورية الرافعة الجغرافية للنفوذ الإيراني في المشرق العربي. ومع تغير الأجواء الدولية المحيطة بإيران بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتراجع فرص الحوار الأميركي الإيراني وتزايد أخطار التصعيد الديبلوماسي ضد إيران بسبب ملفها النووي، لا يتبقى أمام واشنطن سوى محاولة كسب سوريا وفك تحالفها مع طهران. ولأن لكل شيء ثمناً في السياسة، فقد كان الثمن مرجحاً ومفهوماً: لبنان. ولا يعني ذلك أنه يمكن تكرار التجربة السورية في لبنان بحذافيرها مرة أخرى، إلا أن التاريخ يفيد في استخلاص الدروس والعبر. يقول درس التاريخ أن سوريا دخلت لبنان مدفوعة بمصالحها الوطنية وبقدرها الجيوبوليتيكي ولكن بالطبع تحت الغطاء الدولي المعلوم، ويقول الدرس ذاته أن سوريا خرجت من لبنان بعدما رفع ذلك الغطاء الدولي عن وجودها أولاً وهو ما استتبع تغير الموقف الإقليمي منها ثانياً.
تبتغي واشنطن عبر تحريك الدعوى العراقية على سوريا بالمشاركة في تفجيرات بغداد الأخيرة ترويض دمشق ومطالبتها بأثمان مقابلة، بعدما تم رفع العزلة الدولية عنها وتخفيف مخاطر إدانتها من المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الحريري عبر إشارات متنوعة ومحطات لافتة. ولما كانت واشنطن تعتبر أن دمشق لم تفِ بالأثمان المقابلة حتى الآن، يجري ضغط أميركي على سوريا عبر العراق، وضغط سوري مقابل على أميركا في لبنان عبر عرقلة تشكيل الحكومة اللبنانية. هنا يجب في خضم صراع الإرادات عدم خلط بين طبيعة الصراع السوري-الأميركي الحالي، من حيث هي ضغوط متبادلة ولعبة شد أذرع محدودة، باعتباره عداءً مستحكماً بين الطرفين. ربما يكون ما يجري الآن “مساومات المراحل الأخيرة” في ترتيبات إقليمية-دولية؛ استعداداً للتعامل مع إيران التي مددت حضورها الإقليمي في المنطقة على أنقاض المشروع الأميركي وتحالفاته كما لم تفعل في تاريخها الحديث.
يبدو الثمن مفهوماً في هذا السياق: عودة سوريا إلى الحضور في لبنان مقابل تحجيم تحالفات إيران فيه، وبالتالي سيترتب على ذلك (بغض النظر عن الفترة التي سيستغرقها الوفاء بالثمن) تداعيات مباشرة على شجرة “البونزاي” اللبنانية، وعلى مستقبل تحالف الثامن من آذار. في هذه الحالة ستزال المادة اللاصقة التي تجمع وكلاء الطرفين ليصبح الفرز أكثر وضوحاً وتشكلاً، بحيث يمتد ذلك الفرز طولياً وأفقياً في تحالف الثامن من آذار ليصير تحالفين: واحد حليف لسوريا وأخر حليف لإيران. واستطراداً مع الفرضية التحليلية؛ سيعود الرئيس نبيه بري وكيلاً عن سوريا لدى الطائفة الشيعية، والرئيس عمر كرامي والوزير عبد الرحيم مراد لدى الطائفة السنية، والأستاذ وئام وهاب والأمير طلال أرسلان لدى الطائفة الدرزية إلى جانب وليد بك جنبلاط طبعاً، وسليمان بك فرنجية بصفته أحد الأطراف الأساسية مسيحياً. في هذا الانتقال والتحول سيبقى سلوك الجنرال ميشال عون مفتوحاً على احتمالات غير مؤكدة، وإن كانت أهميته ستزداد أكثر لدى كل من دمشق وطهران عند البدء في تنفيذ التفاهمات الإقليمية-الدولية الجديدة، بالنظر إلى حضوره الواضح لدى الموارنة في لبنان. يرتب هذا الانتقال والتحول في تحالف الثامن من آذار – إن حدث – تفاهماً إقليمياً سعودياً – سورياً (يتفنن الأستاذ نبيه بري دوماً في التذكير بما يسميه “تفاهم س س”)، بحيث تتعين مواقع حلفاء الطرفين في المعادلة السياسية الجديدة في لبنان تبعاً لهذا التفاهم. يبقى التحول المرتقب في بنية وتركيبة فريق الثامن من آذار شرطاً لازماً للانتقال من طور إلى آخر، بحكم منطق التفاهم السوري-الأميركي أولاً، والسوري- السعودي ثانياً. بعدها ستعيد الاصطفافات السياسية في لبنان إنتاج نفسها على قواعد لعب إقليمية ودولية متغيرة، ولا يعود أي من التحالفين القائمين على حاله الراهن، تماماً مثل شجرة “البونزاي” الصغيرة والرشيقة … إذ تغير أوراقها.
(مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية – القاهرة)
النهار