صفحات العالم

مرايا الرأي الواحد

خيري منصور
إنها لعبة المرايا المتجاورة، بحيث يبدو ما تعكسه المرآة مضاداً، لكن الحقيقة هي في إعادة رسم الحروف بشكل معاكس، وفي عصر التقنيات التي شملت الكذب أيضاً وطورت أداءه وأقنعته، يصبح كل شيء ممكناً، فالأرض تدور ولا تدور، والشمس تملأ السماء لكنها تغطى بغربال، والمكرّ مفرّ لكن ليس على طريقة شاعرنا الذي أراد وصف رشاقة الحصان، وتبعاً لهذه التقنية، فإن على المرء أن يكون هنا وهناك في اللحظة ذاتها.
إن حرية التعبير وحق الاختلاف لا يضمنهما شعار أو وعد عرقوبي من أحد، حتى لو كان من أوتد الخيول كلها، وحدد لها طول الحبل ومساحة الحركة، والخلل المنهجي بل الجذري في كل المطارحات التي تثار موسمياً حول الديمقراطية، هو عزلها كنتاج حضاري ومدني وبالتالي اجتماعي عن ينابيعها الأولى فهي تربية قبل كل شيء، وتأهيل اجتماعي قبل أن يبلغ الطور السياسي، والمرات التي صدرت فيها قرارات الدمقرطة إدارياً أو بالتفضل من السلطات، انتهى الأمر إلى كوميديا ثقيلة الدم، لم تُضحِك غير الذي يرويها.
إن فلسفة حرق المراحل قد تليق بأية ظاهرة أو منتج تاريخي غير الديمقراطية، وتنمية الشعور بالاستحقاق، سواء كان مدوناً أو عُرْفياً، إذ لا بد من اكتمال نصاب الحمل بهذا الوليد الصعب، والذي غالباً ما تقترن ولادته بعسر شديد، وقد تكون معظم هذه المشكلات المزمنة المتعلقة بالحراك السياسي العربي منذ قرن ناجمة عن التعامل  باستخفاف مع الشرط الديمقراطي، وما يرتبط به عضوياً من أنماط الانتاج السائدة، لكن الجملة السياسية العربية تحولت إلى شبه جملة، بعد أن حذف المبتدأ، وبقي الخبر غامضاً ومبتوراً، وقابلاً للتأويل إلى ما لا نهاية.
أحياناً تصبح الأسئلة صماء ومحرومة من أية إجابات، لأنها تحتاج إلى تقويم وصياغة منطقية، فلا يمكن مثلاً لأحد أن يسأل عن كمية الموز التي تطرحها شجرة زيتون ثم ينتظر إجابة معقولة.
نعرف أن من ينادون بضرورة فحص عينات من هذا العقل السياسي وافرازاته لا يجدون أذناً صاغية، لأنهم يصرخون في سوق النحاسين، حيث يعلو الرنين الأصفر على كل صوت.
لهذا علينا أن لا نفاجأ إذا عدنا كل عقد أو عقدين من الزمن إلى المربع الأول، وإلى أول السطر في هذا الكتاب الذي لا يزال مؤلفوه مجهولين، وهناك سببان على الأقل لهذا العزوف مع سبق الإصرار عن التعامل الجدي والمنهجي مع الشجن الديمقراطي المزمن، أحدهما نفاد الصبر الذي أكل الناس ولم يؤد إلى أرب وكما قال الراحل توفيق زياد.. والآخر عادات ذهنية استهلالية أنتجتها ثقافة التلقي، وانتظار النتائج بمعزل عن مقدماتها والسبل التي أدت إليها.
والأصح أن يقال الرأي والرأي ذاته أيضاً، ما دام الآخر قبل رأيه قد تم إقصاؤه لأنه ليس مجرد ظل للذات أو صدى لصوتها.
وحين نقرأ أو نسمع من يستشهدون بمقولة فولتير الخالدة عن استعداده للموت دفاعاً عن حق الخصم في إبداء رأيه نضحك حتى البكاء وقد نبكي حتى الضحك، فما أبعد هذه القلادة عن أعناق المذبوحين.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى