صفحات العالمميشيل كيلو

أمن قومي

null
ميشيل كيلو
شاعت في “الفكر العربي”، خلال السنوات الأربعين الأخيرة، فكرة إيديولوجية، غريبة قدر ما هي ناقصة ومضللة، ترى في الأمن القومي علاقة مع الخارج، وتنكر أن يكون لأوضاع الداخل العربي أي تأثير في أمن العرب القومي، وتدعي، بتبسيط يقوض حقائق الواقع، أن هناك مجالين منفصلين تمام الانفصال بعضهما عن بعض: واحد خارجي هو مصدر جميع أنواع الأخطار والشرور والتحديات، وآخر داخلي يغدو منبع الأمن وحصنه الحصين، بقدر ما يكون موحداً، ويخلو من التنوع والتعارض بين مكوناته، وخاصة التعارض بين من هم “فوق” ومن هم “تحت”.
هذه الفكرة الإيديولوجية الكاذبة نجدها في تقارير مؤتمرات عربية كثيرة تندب أوضاع الأمة، ونعثر عليها أيضاً في كتابات وتصريحات عسكريين ومفكرين جديين، حزبيين مستقلين. وهي تنضوي ضمن نظرة سائدة ترد كل ما نزل بالعرب من ويلات، وما اخترق أمنهم القومي أو قوّضه، إلى خطط ومؤامرات الخارج، الذي تسلط علينا منذ قرون موغلة في الماضي، وليس له من عمل اليوم أيضاً غير التآمر علينا وإخضاعنا ونهب مواردنا وحرماننا من دورنا وثرواتنا، فهو لعنة حلت بنا، جماعة وأفراداً، يستحيل مواجهتها بغير الالتفاف حول القيادات الحاكمة، وتبني مواقفها ووجهات نظرها من دون تحفظ أو اعتراض، وإلا ساعدنا عدونا، المتربص والمتحفز، ومكّناه من اختراق صفوفنا، وتهديد أمننا، الوطني عامة والقومي خاصة.
ليست فكرة تحميل الخارج وزر قسم مهم من مصائبنا خاطئة. وبالمقابل، ليست صحيحة، جملة وتفصيلاً، الفكرة التي تجعله قدراً قاهراً لا سبيل إلى مواجهته، فالخارج ليس وحدة واحدة أولاً، وليس لعنة أو قدراً ثانياً، بل هو دول وجماعات متنوعة متناقضة لديها نقاط قوتها وضعفها، سياساتها ومصالحها المتباينة / المتعارضة، صوابها وخطؤها، وهو يمكن أن ينجح اليوم ويفشل غداً، في علاقاته معنا أو مع غيرنا. ولقد سبق لنا، نحن خراف هذا الزمن المستضعفين أنفسهم، أن حمينا بلداننا منه، وأنزلنا الهزائم بدوله وقواه العظمى، وأسقطنا حصونه، وتوغلنا في أراضيه، وقوّضنا حكوماته. وليس انهيار دولتي الفرس والروم الإمبراطوريتين على يد الفتح العربي/ الإسلامي مسألة عابرة لا تستحق أن نترك لها مكاناً في أذهاننا أو ذاكرتنا. عندما كنا أقوياء وفي حال نهوض، وحملنا فكرة الإسلام الجامعة، التي وحّدتنا وعبأت قوانا وجعلتنا “خير أمة أخرجت للناس”، كسرنا الخارج، مع أنه كان قد أنزل هزائم متلاحقة بنا في الماضي، وتسلط علينا وأقام داخل بلداننا ومناطقنا بأشكال مختلفة بعضها عسكري.
ثمة هنا نتيجة أولى يجب أن نضع أيدينا عليها، هي أننا نتحمل نحن أنفسنا، بدرجة أولى وتكاد تكون حصرية، المسؤولية عن سقطونا أمام الخارج، فنحن لا نمتلك، ولا نعمل لامتلاك قوة تضمن حمايتنا وردّ المخاطر عنا، أهم مستلزماتها وأولها وجود فكرة جامعة توجهنا وتصهرنا في حاضنة فكرية / روحية تنجب لدينا، بقوة راهنيتها، وعياً وإرادة حديثين. إن افتقارنا إلى فكرة جامعة، وإلى الوعي الحديث والإرادة الموحدة حوّلنا إلى خاسرين ليس لهم من زمنهم غير وجودهم الجسدي فيه، فهم موضوعه وليسوا ذواتاً فاعلة فيه، وهم كرة تركلها وتتلاعب بها أقدام الأجانب، بالطريقة التي تخدم مصالحهم. إن اللوم يجب أن يوجه إلينا وحدنا بسبب ما آل إليه وضعنا حيال الخارج، فنحن من قصّر في حق نفسه، ولئن كان الخارج قد استغل ضعفنا وأفاد منه، فلأن العالم قائم على مصالح، ولأنه ليس عالم نساك وزاهدين يعيشون على التقوى والأخلاق، بل هو عالم ذئاب تفترس من لا يكون قادراً على الدفاع عن نفسه، أي من لا يكون ذئباً كاسراً ومرعباً.
ثمة نتيجة ثانية تترتب بالضرورة على النتيجة الأولى هي أن أمننا القومي يبدأ داخل كل بلد من بلداننا، وأنه وظيفة من وظائف حكوماتنا ونظمنا، يبدد التهاون فيها أمننا الوطني بالدرجة الأولى، أي أمننا القومي في مستوى الأقطار القائمة، كما يبدده أيضاً في المستوى القومي الافتراضي. في أجواء القطرية المستشرية، تبدو كلمة “قومي” كأنها صفة لشيء خارجي وبرّاني، ويبدو كأن المجال القومي صار بدوره خارجياً بالنسبة إلى الدول العربية، وهنا تكمن المصيبة: ذلك أن التعاطي مع المجال القومي كمجال خارجي هو سبب رئيس من أسباب انكشاف أمننا الوطني الخاص والأمن العربي العام؟ ألا يحمّلنا هذا التعاطي وزر ما نحن فيه من ضعف وتهالك، ويغري الآخرين بنا، بمن في ذلك أكثر الخلائق والدول ضعفاً؟ إن العلاقات العربية / العربية السيئة تلعب دوراً خطيراً في تقويض أمننا القومي، خاصة أنها تعتبر بالنسبة للدولة العربية علاقات خارجية من نوع ونمط علاقاتها مع الخارج الأجنبي، علماً بأن هذه تحكمها ضوابط الداخل / الخارج، بينما تحكم العلاقات العربية / العربية ضوابط من نمط مختلف كلياً هي الضوابط الناجمة عن تفاعل وتكامل الداخل الوطني الخاص / الداخل القومي العام، المتجانسان في طبيعتهما.
تبقى نتيجة ثالثة: إن البنى التي تضعف وحدة العرب، وتوجد هوة بينهم وبين حكوماتهم، هي بنى داخلية محضة. هذه البنى تضعف وتقوض الأمن القومي، لأنها تضعف وتقوض الأمن الوطني. وهي تسمح للخارج باختراق الدول والأقطار، عبر استغلال ما فيها من مشكلات ونقاط ضعف يمكنه الإفادة منها واختراقها من خلالها. هنا، لا معنى لرد كل شيء إلى تآمر الخارج، مع أنه يتآمر بحق، ولا مفر من إصلاح وسد ثغرات وضع يتيح لأعدائنا النفاذ إلى داخلنا، وإلا بدأ سقوط أمننا القومي بسقوط أمننا الوطني، وأسهمنا – بوعي أو بغباء – في إسقاط أنفسنا، مثلما حدث في يونيو/حزيران عام ،1967 عندما أدت هزيمة بعض الدول العربية إلى انهيار أمنها الوطني وانكشاف أمن العرب القومي في كل مكان، وإسقاط الأمة ذاتها في أزمة لم تعرف كيف تخرج منها إلى اليوم: بعد نيف وأربعين عاماً.
أخيراً، يبدأ الأمن القومي لدولة من الدول أو أمة من الأمم من حدودها، وبصورة أكبر من أوضاع مواطنيها، فإن كانوا أحراراً دافعوا عنها، وإن كانوا أذلاء مظلومين طاول ذلهم كل شأن من شؤونهم الخاصة والعامة، وعجزوا عن إقناع أنفسهم بضرورة التضحية من أجل دولة تنتهك وجودهم الشخصي وتقوّض أمنهم. هنا أيضاً، لسنا حيال مسألة خارجية، فالمواطن ليس خارجياً بالنسبة إلى الدولة، بل هو ركيزتها، ومن دونه لا تقوم لها قائمة.
ليس أمن العرب القومي مسألة خارجية فقط، بل هو مسألة داخلية بامتياز. والخارج لا يتجرأ على مهاجمة أو مواجهة دولة- أو أمة – قوية، والقوة محصلة دقيقة لحرية المواطنين وعدالة الحاكم وفاعلية الأمة. إذا لم نفهم هذا ونعمل له، فإن أمننا القومي لن يصان حتى في حدوده الدنيا، ولو كان لدينا، كما هي حالنا اليوم، عشرات آلاف الدبابات والطائرات والصواريخ، التي ليست غير حديد بارد لا خير فيه.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى