الرئيس العربي.. والوطن المعلق على صورته
قادري أحمد حيدر
ثمة سؤال كان ومازال يؤرقني باستمرار، هو: حول الاستبداد العربي لهذه الحقب الطويلة، وحين نشهد البعض منهم يذهب بعيداً في التأسيس للجمهوريات الوراثية والعائلية، وخاصة حين نسمع تصريحات بعضهم قائلين بأنهم لن يغادروا كرسي العرش والملك العضوض فإما إلى القبر أو إلى القبر، ويقصدون بالقبر الثانية وضع الشعب كله في القبر، أو في سجن كبير.
لقد تحول الحاكم العربي كما يقول الكتبة المأجورون إلى رمز، وإلى قائد ضرورة، ولكنه ذلك الرمز الذي يحجب الواقع ويشوهه ويزيف صورة الواقع بعد أن يستبدلها بصورته وتماثيله وخطاباته المكرورة والمملة؛ متوهمين باحتكارهم السلطة والثروة بقوة العسكر والقبيلة أنهم قد امتلكوا التاريخ، صارت معها الحقيقة ذات بعد واحد وهو البعد الذي يؤكد صورة القائد الرمز التي تلغي الواقع وتشوهه، متناسين أن مكر التاريخ لهم بالمرصاد، وأن إرادة الشعوب لن تخمد إلى الأبد. ومن هنا مأساة سقوطهم، على أن المأساة تصبح مركبة ومعقدة وقاسية على القلب حين يقترن أو يرتبط سقوطهم بهزيمة للوطن مثل ما نشهده اليوم في العراق الشقيق، الذي لا أرى أفقاً قريباً منظوراً لنهوضه من سقوطه بين سنابك الغزاة المستعمرين الجدد الذين جلبهم بشكل أو بآخر الاستبداد أو الاستعمار الداخلي، وعوامل أخرى ذات علاقة بطبيعة التحولات الدولية غير المتوازنة، القائمة على القوة.
ديكتاتورية
إن السمة المشتركة في الوضع العربي كله هي الديكتاتورية والاستبداد وغياب العدالة، وانعدام فكرة المواطنة، والدولة المدنية الحديثة، وهيمنة فكرة الواحد الكل المطلقة والمقدسة على عقولهم ونفوسهم. إن السلطة المطلقة تفسد فساداً مطلقاً، تفسد تطور المعرفة والعقل وتشوه الذاكرة، وتعمل على توحيد الزمان والمكان، والتاريخ، والوطن في ذات الحاكم الجاهل الذي كل مميزاته الاستبداد واحتكاره الثورة، والثروة، من خلال الحكم والملك العضوض. وهي اللحظة التي يلغي فيها الملك أو الرئيس، الواقع، والوطن، والشعب، ويلحقهم جميعاً بإسمه ويوحدهم بذاته المطلقة.
إن كل منجزات الحكام العرب وعظمتهم إنما تكمن في تحويل الوطن إلى صور ومجسمات، وعناوين زخرفية فارغة، وكتابات مملوءة بالخرافة والجهل، ومنجزات يتكلم عنها الكتبة المأجورون، ولا يراها حتى الحاكم نفسه صانع المعجزات، هي أوهام وخرافات ذاتية مريضة، من خلالها يتم حصار الوطن وإلغاؤه وتحويله إلى جملة إسمية، هي اختزال لإسم وصورة القائد الرمز، ففي كل شارع، وزقاق، ومدرسة، بل ومسجد، وفسحة حديقة ومتنفس للهواء النقي يتم تشويهه بهواء صورهم الفاسد الذي يزكم الأنوف، ويجرح العيون، حتى تحول الوطن إلى مجرد مقبرة لصورة الحاكم والقائد الضرورة الذي لولاه لما وجد الوطن والتاريخ، إن صور الحاكم العربي المستبد تكاد تغطي الأرض والسماء، فلا يكاد المواطن معها يرى الوطن إلاَّ من خلال صورهم التي تكلف الوطن عشرات المليارات من ميزانية الدولة. هذا عدا المظاهر الاحتفالية العديدة التي تكرس نفس الهدف، والغاية هي إلغاء الوطن، بالرمز وبصورة الرمز القائد، والكارثة الحقيقية هي ما يصيب الوطن ولو بعد حين من وزر جرائمهم وفسادهم وما يتحمله الشعب العربي اليوم هو الثمرة المرة لعملية استبدادهم التاريخي الذي جلب وسيجلب لنا الاستعمار الأجنبي، النازي في صورة محرر للشعب وهي قمة المفارقة المأسوية لميلاد الوعي الشقي الفاجع بالواقع وبالوطن وبانعدام القدرة لديه على قهر الاستبداد الذي استطال زمانه، وأنا هنا لا أعطي تبريراً للغزو الأجنبي والعدوان على الشعوب والدول مهما كانت طبيعتها من قبل الغازي الاستعماري لأن ذلك مناف للقوانين والأعراف والمواثيق الدولية كافة وهو إلغاء لإرادة هذه الشعوب ولكرامتها الشخصية والوطنية باستبدال استبداد داخلي باستعمار خارجي.
أن التاريخ يعلمنا أن الطغاة هم من يستقدمون الغزاة إلى أوطانهم، بقدر ما يولدون الغلاة، أو ثقافة الأصولية والعنف والتطرف، والغريب أن الحاكم العربي لا يخجل من احتفاله بعيد جلوسه على العرش لأكثر من ثلاثة عقود، ومع ذلك يخطب عن الديمقراطية، والتعددية، والتداول السلمي للسلطة.
ان على الحكام العرب المستبدين جميعاً أن يعوا الدرس جيداً، ويفهموا أن ذاكرة الشعوب لا تنسى ولا ترحم مهما طال الزمان ومهما استطال زمن قهرهم للشعوب، لأن حكم الشعب عليهم سيكون أقسى وأصعب مما يتوقعونه أو يتصورونه، إنني أكاد اليوم أرى فيهم صورة شاوشيسكو، وبينوشيه، وبوكاسا، وشاه إيران، ونميري السودان، الذين لم ترحمهم ولم تشفع لهم الأنظمة العالمية التي كانوا خداماً لها وعبيداً لمصالحها في قهر إرادة شعوبهم وفي امتصاص ثرواتهم.
إن صورة الحاكم العربي المطواع، الحاكم التابع لمشيئة الخارج لم تعد اليوم ترضي الحكام الدوليين ممثلي الرأسمالية المتوحشة، يسقط الحاكم وتدمر تماثيله، وتداس وتحرق صوره ويبقى الوطن خالداً أبداً.. يبقى شامخاً فوق ركام استبدادهم وطغيانهم ويتحول طغيانهم واستبدادهم لشعوبهم إلى ذكرى عفنة هي جزء من التاريخ الآثم في حياة الحكام ضد شعوبهم.
صنع الطغاة
إن على الحكام العرب المستبدين الذين يفصلون الوطن والديمقراطية، ومفاهيم التنمية بما يتماشى ومصالحهم الضيقة أن يتعلموا من الدرس الحاصل اليوم، بعد أن صار الحكم والسلطة وكل إمكانيات الأوطان حكراً لهم وحدهم ومن بعدهم أحفادهم، والأعوان التابعون لهم بمن فيهم الكتبة المأجورون الذين كل همهم ووظيفتهم هندسة صنع الطغاة والديكتاتوريين من خلال ما يسطرونه من حروف مغموسة بدم الشعب، ومن خلال خلق واقع زائف لا وجود له إلاَّ في عقولهم المريضة وخيالهم الأسطوري في الحديث عن منجزات لا يراها حتى الحاكم نفسه، ولكن تكرارها ورسم صور خرافية لها تجعل الحاكم نفسه يصدقها وهي أشكال من القصف الإعلامي والأيديولوجي الكاذب الذي يمارسه الكتبة المأجورون، وبكل صدق ومسؤولية تاريخية أقول مجدداً: إن على الحكام المستبدين أن يتعلموا الدرس جيداً من حالة تمزق الصومال وتفككه، واحترابه ضد بعضه البعض، ومن ‘مشهد سقوط بغداد..، وهو مشهد أليم جداً تبعاً لما يختزنه من معانٍ: إنه سقوط للتأريخ ولو بشكل مؤقت الذي كانت أرض الرافدين مهداً من مهاده، سقوط للحاضر العربي والمستقبل معاً..
لقد استطاع الحاكم العربي أن يحول الواقع العياني الملموس إلى فنتازيا، وإلى واقع خرافي مشحون بما يشبه التراجيديا اليونانية التي تجمع بين المتناقضات الخرافية، والفواجع والمآسي، والانتصارات الموهومة التي يصعب على العقل السليم تصديقها أو التعاطي معها ببساطة وسهولة، وهي حالة أقرب إلى الجنون وأللامعقول والعبث والعدمية، قادت وتقود إلى وجود حالة من الوعي الشقي والمأزوم، إنها تراجيديا العلاقة المفجوعة بالحاكم، والخائفة منه، يتحمل الحاكم العربي المستبد الدور الرئيس في صنعها وإنتاجها، وتخليقها في حياة الناس، مما أوصل موقف الناس الاجتماعي والسياسي إلى مأزق ودرجة عدم القدرة والرغبة معاً في الدفاع عن الوطن، بعد أن أصبح الوطن، صورة وتمثالاً، ورمزاً، يشير إلى الحاكم المستبد، الذي نجد صوره وملصقاته معلقة ومزروعة على كل شبر من أرضنا، وكأنه امتلك الناس والأرض، ومن المفارقات التي لها أصلها الموضوعي، والواقعي، أن كثيراً من رموز الفساد، وابناءهم، وأحفادهم، حريصون على تعليق صور رئيس الجمهورية على واجهات سياراتهم، وحتى منازلهم، عنوان عبور ضد القانون، وضد إشارات المرور، وللإعتداء على أملاك وحقوق الآخرين، وكأن تعليق صورة رئيس الدولة يعني لهم الحق الشرعي في المخالفة، ومجاوزة النظام والقانون، وفي ذلك تجسيد واقعي لحالة المفارقة العاكسة لصورة النظام، وحين نعي ذلك تنتفي حالة المفارقة الوهمية التي تتراءى للعين، وللقارئ من الوهلة الأولى، لنكتشف أن المفارقة الظاهرية ما هي إلا حقيقة النظام، كما تدل عليها الصورة المعلقة للقائد الرمز، بديلاً لصورة الوطن، والشعب، والتاريخ، وهو ما تدبجه مقالات الكتبة المأجورين، صناع الطغاة في تأريخنا الوسيط، والمعاصر، كتبة الأنظمة في المراحل كافة.
المستبد الداخلي والمستعمر الخارجي
وذلك ما يفسر ظاهرة الصمت على العدوان الاستعماري على أوطانهم، أو على القبول الصامت أو المعلن كما هو عند البعض بضرورة قدوم المستعمر الأجنبي، بعد أن قتل الحاكم العربي المستبد إحساس المواطن بوطنه، وبمواطنيته، وانتمائه، وأن لا معنى لكلمة السيادة الوطنية، والاستقلال الوطني بعد أن جرده الحاكم والحكم من كل كيانيته الإنسانية. حتى ايصاله إلى لحظة وعي شقية، أن لا فرق بين المستبد الداخلي، والمستعمر الخارجي، مما انتج في واقع الممارسة والفكر، حالة سلبية تجاه الموقف من الاستعمار، والمستعمر ،فهي ترفضه بعمق في عقلها الباطن، وفي ذاكرتها الثقافية التاريخية، ولكنها لم تعد قادرة على مقاومته بالطريقة القديمة، بعد أن جعل الاستبداد الداخلي، الاستعمار جزءاً مكوناً لمفردات حياة الناس والمجتمع. وهو ما يفسر حالة القابلية للإستعمار عند البعض حسب تعبير المفكر الإسلامي، مالك بن نبي.
وهي قمة المفارقة التي أوصلنا إليها الوعي الكارثي لعلاقة الحاكم العربي بشعبه في جميع قطاعاته، وبعد أن أصبحت فئة أو عائلة صغيرة تستحوذ على كل الثروة الوطنيـــة، إننا أمام معادلة قاسية وصعبة، وضع الحاكم العربــــي المســـتبد نفسه أمامها وفي مواجهتها، فإما أن يتطابق ويتماثل الوطن المتعدد والمتنوع مع أنموذجه القبلي، العسكري، العائلي، الوراثي، وإما أن يستمر في معادلة محو الوطن وإلغائه بالقوة العسكرية والإرهاب والقمع.
إنه وضع وواقع لا ينتجان سوى العنف، والكراهية، والضغائن، والأحقاد، وضع يؤسس لتشرذم الوطن وتمزيقه، إننا أمام حالة من إعادة إنتاج دورات العنف، وعقلية إدارة الوطن بالأزمات والصراعات الدامية. وما يجري في صعدة من حرب وحشية تدخل عامها السادس، ومن حالة حراك سياسي واجتماعي، احتجاجي سلمي في توجهه العام، شمل جميع المحافظات الجنوبية والشرقية، هو دليل واضح على عجز وفشل النظام في إدارة البلاد بالقوة العسكرية والأمنية، ومن خلال عقلية الضم والإلحاق للجنوب، الشريك الأساس والأول في صناعة وحدة 22 ايار (مايو) 1990م السلمية، والديمقراطية، والتي جرى استبدالها، بالوحدة بالدم، والحرب، والقتل، والموت في 7/7/ 1994.
إن حالات المعارضة المأزومة التي نشهدها في أكثر من بلد عربي، وفي اليمن، هي الدليل الحي والواقعي على توجه الحكم القسري لإلغاء وإقصاء الآخر ولو بالعنف والقتل، وأخشى ما أخشاه أن تتحول الحالة العراقية إلى ظاهرة عامة يقود إليها الاستبداد الداخلي، ولا خيار أمام الحكام العرب إلا البدء الجدي في المصالحة الوطنية الديمقراطية الشاملة مع شعوبهم، وتوسيع خيار المشاركة السياسية الشعبية، ووقف نزيف نهب الثروة الوطنية، والفصل بين الرئيس، والثروة، وبين إسمه، وبين معنى الوطن والشعب، والفصل بين السلطات، وبين السياسة، والدين وليس بين الدين، والمجتمع، والتأسيس لمفاعيل ديمقراطية حقيقية، بعيداً عن التزييف والتزوير لإرادة الناس..، أتمنى أن لا أرى المشهد العراقي يتكرر ولا المشهد الصومالي الدامي يتحول إلى حقيقة في بلد عربي آخر، وأن نتعلم من الدرس جيداً؛ فمن خلال الممارسة الديمقراطية الحقيقية والعدالة، والتنمية، نستطيع أن نخلق آليات عملية وشعبية لمقاومة الاستعمار الخارجي، وتلك لعمري منتهى الأمنيات، لأن ما يحز في النفس، ويجرح المشاعر، ويدمر الوجدان الوطني هو رؤية الجندي الأمريكي – البريطاني الغربي-، يسرح ويعيد استعمار بلداننا بسبب خيارات تمسك حكامنا بصورهم ومجسماتهم، وخطاباتهم الفارغة، وتصديقهم خطابات الكتبة المأجورين…، عليهم أن يتعلموا الدرس، قبل أن تداس صورهم، وتدمر تماثيلهم، وتحرق خطاباتهم، فالزمن في تسارعه الجاري لا يرحم، وقد لا يسعفهم الوقت للإمساك بصورهم وملصقاتهم التي قد تأتي عليها أقدام الشعوب في لحظة ثورة عاصفة وغاضبة، تمحو معها حتى أسماءهم من تأريخ ذاكرة الأوطان..، مثل شاوشيسكو، وبينوشيه، وبوكاسا، وشاه إيران، ونميري، وموبوتو.
هل نُسقط هيمنة صورة الحاكم الرمز والمستبد، ونستبدلها بصورة الوطن والمواطنة المتساوية، والديمقراطية والتنمية والإنتاج، متى نبدأ؟ وهل نبدأ؟
‘ كاتب وباحث يمني
القدس العربي