صفحات سوريةياسين الحاج صالح

المحركات المحتملة للعلاقات الأميركية السورية في النصف الأول من فترة إدارة أوباما الحالية

null
ياسين الحاج صالح
تتشكل سياسة إدارة أوباما الشرق أوسطية راهنا، وربما خلال العامين الأولين من فترته الرئاسية الأولى، من التقاء عاملين: أولهما هو إخفاق البوشية، أي تمحور السياسة الأميركية حول “الحرب ضد الإرهاب” والتوسع في استخدام القوة العسكرية أو التهديد بها والتصرف الأحادي الجانب في الساحة الدولية وإباحة مبدأ الضربات الوقائية؛ وثانيهما الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي تفجرت في الخريف الماضي، ويرجح أن تستمر في عام 2009 الحالي والعام المقبل، وهي توجه أولويات الإدارة نحو التعافي الاقتصادي. وبمحصلة العاملين معا تتلامح سياسة أميركية مختلفة في الشرق الأوسط، تتكلم على الحوار والمصالحات، وتعطي أولوية مبدئية للمفاوضات على سياسة القوة.
غير أن المؤشرات المتاحة تعطي انطباعا بأن سياسة إدارة أوباما الشرق أوسطية ستكون في المدى المنظور ذات تمحور إيراني، تعنى بقضية الملف النووي الإيراني أكثر من أي شيء آخر. في عيد النيروز، 21 آذار المنقضي، أمكن للرئيس أوباما شخصيا أن يخص إيران بكلمة تصالحية، تبدو فاتحة توجه أعرض نحو معالجة هذا الملف الشائك. وفي الشهر الماضي نفسه كتب كل من ريتشار هاس ومارتن إنديك ورقة بعنوان “الإستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة العربية والجوار”، صدرت عن مركز سابان في مؤسسة بروكينغز ومركز مجلس العلاقات الخارجية، وتضع ستة محاور للسياسة الأميركية في المرحلة المقبلة، تشغل “كيفية مواجهة الطموحات النووية الإيرانية” المرتبة الأولى بينها، بينما تتراجع “كيفية حل الصراع العربي الإسرائيلي حلاً نهائيا” إلى الموقع الثالث، وتشغل “كيفية مواجهة خطر الإرهاب الراديكالي الإسلامي” الموقع الخامس، وتتذيل “كيفية تعزيز الإصلاحات السياسية والاقتصادية بصورةٍ أكثر فعالية” القائمة السداسية. ويترك الموقع الثاني لـ”تعزيز التعايش الوطني العراقي وكبح جماح الآثار المدمرة لعدم الاستقرار العراقي”، فيما “تحظى كيفية تحقيق الاستقرار في لبنان” بالموقع الرابع.
ومن باب توضيح الإطار الأعرض للسياسة الأميركية الشرق أوسطية الراهنة يسعنا القول إن محورها الظرفي والمتحول هو مواجهة إيران، فيما محورها الثابت إسرائيل، أمنها وتفوقها وسمعتها وازدهارها، فضلا عن يهوديتها.
سورية ليست محورا أساسيا، لكنها حلقة رئيسية تربط الملفات الخمسة الأولى من قائمة هاس وإنديك، الإيراني والعراقي واللبناني و”الإرهاب الراديكالي الإسلامي”، فضلا عن الصراع العربي الإسرائيلي. وفضلا عن علاقتها الطيبة مع إيران، سورية حلقة الوصل المركزية بين إيران وكل من حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين. هذا يرشحها لأن تكون نقطة تقاطع مهمة للمبادرات الأميركية المحتملة المتصلة بهذه الملفات. ولعله من هذا الباب ظهرت ملامح انعطاف إيجابي في علاقة دمشق وواشنطن، تمثلت في زيارة موفدين أميركيين إلى دمشق في شهر آذار، وقبلها في لقاء وزيري خارجية البلدين في مؤتمر شرم الشيخ في شباط الفائت.
لكن يبدو أن ما يحكم أفق تطور العلاقة السورية الأميركية هو المدخل الإيراني. وهنا قد نميز بين ثلاثة خطوط تطور محتملين:
1. إذا اتجهت العلاقات الأميركية الإيرانية نحو التحسن وتفاهم البلدان حول ملف طهران النووي، وحول دور إيران الشرق أوسطي، كان من المحتمل أن تتراجع أهمية دمشق الاستراتيجية الحاسمة لطهران، ويضيق هامش مناورتها في العلاقة مع الأميركيين. بيد أنه لا يبدو أن هذا هو الاحتمال الأقوى راهنا.
2. مثل ذلك قد يحصل إذا قررت واشنطن مواجهة عسكرية مع طهران. هذا مستبعد في المدى المرئي، لكثرة ما قد تترتب عليه من متغيرات يصعب تقديرها والسيطرة عليها. لكن سورية ستكون متضررة بشدة من حرب تشنها الولايات المتحدة وحدها أو معها إسرائيل ضد الجمهورية الإسلامية. فيما عدا أنها لا تستطيع فعل شيء مهم حيال ذلك، غير “بيان استنكار”، على نحو ما نسب سيمور هيرش مؤخرا لمسؤول سوري لم يسمّه، فستجد سورية نفسها فاقدة عمقا استراتيجيا وسندا اقتصاديا مهما، وربما مدفوعة نحو طور جديد من العزلة والضعف يحاكي ما خبرته بين عامي 2005 و2007.
3. غير أن هناك صيغة أخرى لاحتمال المواجهة العسكرية الأميركية الإيرانية، تعمد واشنطن بموجبها إلى محاولة فصل طهران عن حلفائها وشركائها، وأبرزهم سورية.
بيد أن لذلك ثمنا معروفا. إن إسرائيل، الحليف المحبوب للولايات المتحدة، تحتل مرتفعات الجولان السورية منذ أكثر من أربعين عاما، منها نحو عقدين من جهود متقطعة غير مثمرة من أجل التوصل إلى سلام تفاوضي سوري إسرائيلي. لم يتحقق الاختراق المنتظر وإن جرى الحديث مرارا على أن نحو 80% من القضايا العالقة على المسار التفاوضي السوري الإسرائيلي قد حلت. فهل الولايات المتحدة على استعدادا للضغط على إسرائيل من أجل انسحاب تام من الجولان وترتيبات أمنية متكافئة، لا يبدو أن أحد في دمشق يرضى بأقل منها؟ وهل إسرائيل التي تشكلت فيها للتو حكومة يمينية متطرفة، وأعلن وزير خارجيتها أنه لا يعرض على سورية ما هو أكثر من “السلام مقابل السلام” دون انسحاب من مرتفعات الجولان، هل هي مستعدة لدفع الثمن المعلوم مقابل التخلص من “الخطر الإيراني”؟ وهل دمشق مستعدة لتسوية من هذا النوع، وهي التي يقوم وعيها الذاتي وشرعية نظامها ودورها الإقليمي على افتراض ديمومة الصراع العربي الإسرائيلي، ومركزية قضية فلسطين فيه؟
من الجهة السورية يتعلق الأمر بحساب الأرباح والخسائر.
الأوضاع الحالية مناسبة جدا: علاقات متينة جدا مع إيران وحزب الله وحماس، وطيبة مع تركيا، وتتحسن مع الدول العربية وأوربا، وحتى إسرائيل تفضل دوام الأوضاع الراهنة في سورية على أية احتمالات أخرى. والوفاق الداخلي في سورية مستقر على مستوى قد يتضرر بالتسوية أكثر مما باستمرار غيابها. ومؤخرا، وقت العدوان الإسرائيلي على غزة، جمّد الإخوان المسلمون معارضتهم للنظام على خلفية اعتبار أنفسهم أقرب إلى موقعه في الصراع العربي الإسرائيلي. ولا يبدو أن المعارضة العلمانية الداخلية، وهي ضعيفة بمقاييس الوزن السياسي الفعال، قادرة على تطوير قضية متماسكة ضد النظام في هذا الملف. ورغم أن الوضع الاقتصادي في سورية مضطرب، إلا أن البلاد تسد حاجاتها الأساسية، ولا تخسر شيئا مهما من فشل التسوية حتى إن أمكن أن تكسب شيئا من تحققها. فما الداعي للإقبال على تسوية مع إسرائيل تطرح على البلاد مشقة إعادة بناء وعيها الذاتي ودورها الإقليمي والتكيف مع زوال حالة الحرب (ولطالما كانت “نوعا من الحل”)؟ ليس إلا الخشية من ضياع ما تحقق في العام الأخير وانقلاب الموجة. وبالخصوص تحول الأميركيين إلى إيران مباشرة، إن استرضاء أو مواجهة. هذا ينذر بتهميش سورية، وإن لم يقد بالضرورة إلى محاصرتها وعزلها بصورة نشطة، على نحو ما كان وقع بعد اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، والانسحاب الاضطراري من لبنان في عام 2005.
وثمة بالطبع المكسب المتمثل في عودة الجولان وما قد تدره من شرعية على النظام، فضلا عن أن تسوية للصراع مع إسرائيل يرجح أن تقترن بتفاهمات مكفولة أميركيا ودوليا بضمان استقرار النظام وأمنه. وهذا مكسب محتمل يشغل على الأرجح موقعا متقدما من تفكير النظام بالتسوية.
وكان مسؤول سوري عبر لريتشارد هاس في آذار الماضي أيضا عن استعداد سورية لعقد “اتفاق سلام منفصل”، أي حسب شرح هاس “اتفاق ثنائي قد لا يتضمّن حل القضية الفلسطينية”. هذا قد لا ينطبق على المسار اللبناني، الهين على أية حال. نرجح أن الأميركيين والإسرائيليين أنفسهم سيحرصون على أن تشمل التسوية السورية لبنان أيضا. لكن الأصعب في الحالة اللبنانية هو وضع حزب الله. سيكون مطلوبا من سورية التوقف عن دعمه، وحثه على التحول إلى قوة سياسية. هذا أمر يرجح أن تلتزم به. أما المساهمة في نزع سلاحه، فتتطلب كفالة هيمنة سورية جديدة في لبنان الأمر الذي تبدو فرصه محدودة جدا حاليا.
والمنطقي أن تحرص سورية على دوام علاقة طيبة مع إيران في العامين القادمين، وإن في إطار سياسي واقتصادي، ما لم تتجه الأمور بين الأميركيين والإيرانيين على المواجهة العسكرية.
وماذا عن الأميركيين؟ لعل التحليل أعلاه أعطى انطباعا مبالغا به بأن الأميركيين لا يهتمون بسورية إلا من جهة كونها حلقة مهمة في ملفات شرق أوسطية متعددة، الملف النووي الإيراني بخاصة. لا يصح نسيان ذلك، لكن ربما يرغب الأميركيون أيضا في حل بعض ملفات الصراع العربي الإسرائيلي بهدف تحسين صورتهم وتقديم شيء ما لحلفائهم العرب. غير أن أقصى ما يمكن أن تفضي إليه اعتبارات من هذا الصنف هو ما يسمى “عملية السلام”، أي رعاية تفاوض سوري إسرائيلي تشغل فيه الولايات المتحدة في آن موقع حليف إسرائيل وسندها الخارق و”الوسيط النزيه” في آن معا. هذا، ولنسم الأشياء بأسمائها، غش وسلوك غير أخلاقي، فوق عقمه السياسي على المدى الأبعد. ومن غير المرجح أن يفضي إلى ما هو أفضل من عملية علاقات عامة سخيفة من نوع مؤتمر أنابوليس 2007، المؤتمر الذي مع ذلك استطاع وزير خارجية إسرائيلي الجديد أفيغدور ليبرمان أن يرفض الالتزام بمقررته.
تستطيع الولايات المتحدة أن تلزم إسرائيل فعلا بالانسحاب التام من الجولان. من بين العقائد العربية المستقرة هذه العقيدة أقربها إلى الواقع. هذا ليس صعبا حتى من وجهة نظر إسرائيلية غير متطرفة يمينا، ومن شأنه أن يغير البيئة السياسة في المنطقة إلى حد بعيد.
فهل يحتمل أن نشهد من الآن حتى نهاية عام 2010 تسوية سورية إسرائيلية؟ العامان القادمان حاسمان لأنه يفترض أن يكتمل خلالهما الانسحاب الأميركي من العراق، ولأن إيران قد تكون على حافة إنتاج أسلحة نووية بنهايتهما حسب التقديرات المتداولة، ولأن من غير المحتمل أن تستطيع الولايات المتحدة مواجهة إيران قبل انقضائهما إن سارت الأمور باتجاه المواجهة.
هذا وارد.
لكن هل يرجح فعلا أن تقع مواجهة بين الأميركيين وإيران إن أصرت هذه على برنامجا النووي؟ هل يستحيل تصور إيران نووية يتقبلها الغرب شيئا فشيئا؟ وتسلم بها إسرائيل؟ وتتجه هي نفسها نحو “اعتدال” حيال الغرب، ربما يكون ثمنه نفوذ معترف به في الشرق الأوسط؟ هذا وارد أيضا. وفقا لهذا الاحتمال تخسر الدول العربية، وتخسر سورية أيضا. لأن مكسب الأخيرة مرهون بعلاقات إيرانية سيئة مع الغرب.
هل تبدو العلاقات السورية الأميركية أحادية البعد؟ أسيرة مقاربة جيوسياسية، لا مدخل فيها لأبعاد اقتصادية وثقافية ووجدانية؟ إنها كذلك إلى حد بعيد. هذا ما يمنح سورية استقلالية مهمة حيال الأميركيين. البعد الاقتصادي ضعيف لكون سورية بلدا غير منتج للبترول، وعلاقاتها الاقتصادية أوسع وأكثف مع أوربا والصين والبلدان العربية، وتقوم بأود نفسها غذائيا، وليس عليها ديون مهمة. الولايات المتحدة لا تملك رافعة نفوذ اقتصادية في سورية. ومن جهة أخرى يتجاذب السوريين حيال أميركا دافعان نفسيان، أحدهما معجب بتقدمها وعلومها المتطورة وجامعاتها وسينماها و”نمط الحياة الأميركي”، والآخر ينفر من غرورها وانحيازها الأعمى لإسرائيل وعداوتها المتصورة للعرب والمسلمين. ولعل من شأن انسحاب إسرائيلي تام من مرتفعات الجولان بضغط أميركي أن تحسن من صورة الولايات المتحدة عند السوريين.

كتبت هذه المقالة في نهاية شهر آذار الماضي بطلب من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ونشرت في حزيران في موقعها ضمن ملف عن علاقات بلدان بالويات المتحدة في ظل إدارة اوباما الحالية.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى