معرض للفنانة البريطانية جون بارتلت في لندن عن رحلة الى سورية ‘في الطريق الى دمشق’: متحف الارث البصري الحي
أنور القاسم وايمان داوود
لندن في احتفالية ثقافية فنية بريطانية افتتح السفير السوري في لندن الدكتور سامي الخيمي معرض ‘في الطريق الى دمشق’ الذي يحتضنه غاليري ‘المتحف’، ويضم روائع فنية تؤرخ لرحلة الفنانة البريطانية جون بارتليت الى سورية ، والتي انتجت لوحات ترسم منظورا جديدا للوحة الغربية المستشرقة.
وعبق المعرض بنسائم التراث السوري، الذي جذب اليه جمعا دبلوماسيا واعلاميا مميزا كان على رأسه السفيران المصري والتركي في لندن.
وبعد ترحال الفنانة البريطانية في العديد من دول الخليج العربي وصحراء العرب اكتشفت الرسامة ما تقول انها كنوز سورية الصامتة، التي تصر على ان يراها الغربيون بعيونهم وبقلوبهم.
وتقول الرسامة انها اكتشفت معظم لوحاتها في عام 2007 اثناء رحلة القطار في الطريق من دمشق الى حلب، مرورا بالمدن السورية التي تشكل فسيفساء ثرية التنوع، واصفة اياها بتعانق التراث مع الحداثة وتجاور الطرق مع الاوابد في لوحة كبيرة فريدة التناغم.
رحلة الضوء السوري هذه، استلهم منها السفير السوري كلمته ليدعو الحاضرين الى زيارة سورية واكتشافها بأنفسهم، كما اكتشفتها الفنانة بارتليت، وحاكت بريشتها المآذن والحارات والموروث السوري العابق بالقدم، الذي وصفته بالمنسجم مع الحضارة السورية الحديثة وحس الضيافة الذي اسر الفنانة في ترحالها بربوع البلاد.
كما كان لأسرار العمارة السورية القديمة، الباقية نصيب من لوحات الرسامة بارتليد، فقد عكس بعضها مشاهد القناطر والاقواس والمقرنصات والبحرات ونوافير المياه واحواض الورود والزهور، واشجار الليمون والاضاليا والمنثور، المكشوفة على الهواء والسماء في البيوت الفسيحة، التي تتداخل في حكايات تكاوينها الحجارة المتـناوبة الألوان والزخارف الهندسية والنباتية، التي تزخر بها البيئة السورية فائقة التنوع والتآلف، والتي تترك في النفس مشاعر الالفة وأحاسيس الاعجاب حد الاندهاش بحصون وسهول الحضارات التاريخية المتناثرة، والتي وصفت منذ قرون بأنها مدن العلم والعلماء والجمال.
وربما كان نصيب دمشق من هذه الاعمال كبيرا، حيث غاصت ريشة الفنانة في جماليات العمارة والاثار العربية والاسلامية، في شوارع واحياء وأزقة وبيوت المدينة القديمة. فخرجت هذه اللوحات تفيض عفوية وغنائية، واضفت ريشتها على المشهد المعماري ايقاعات ضوئية باهرة، تستعيد في اكثرية لوحاتها، القيم التصويرية الانطباعية في اطار الرسم الواقعي التقليدي والتسجيلي.
ولا شك ان تجربة الفنانة اثمرت حوارات ثقافية حول سحر سورية الطبيعة والمكان والانسان بصياغاتها التصويرية الماهرة والواثقة، مما كان لهذه التأثيرات اكثر من ردة فعل، لدى زوار المعرض الذين مثلوا خليطا حضاريا متنوعا من البريطانيين والاوروبيين وذواقي الفن ومحبي السياحة بكافة اصنافها، وهذا ما يكرس التواصل بين الموروث التراثي ورؤى الحداثة.
وهكذا يمكن اعتبار لوحات الفنانة جون بارتليت بمثابة وثائق فنية فريدة من نوعها، تحفظ خصوصيات التراث السوري، لتخرجه نحو نشوة النور وحركة اللون العفوي وحركية الايقاع المتوازن والمدروس، وهي في النهاية تحمل بطاقة الانتساب الى روح اللوحة الانطباعية التي تحفظ خصوصيات المكان كرؤية مترسخة في الذاكرة والوجدان معاً.
ولا شك ايضا ان هذا العمل الفني الكبير هو دعوة سياحية مفتوحة للزائر كي يحيي الذاكرة المشتركة حول سورية عبر هذه النماذج المبهرة، فنحن نقرأ بكل لوحة أساطير هذا الشعب، وكل لوحة أيضاً هي بحد ذاتها اكتشاف لتطور الفكر الانساني الجمعي.
ولأن فن اللوحة يختلف عن الفنون الحرفية والصناعات التقليدية والمشغولات الشعبية التي توظف في بلدان العالم كافة للسياحة لارتباطها بتراث الشعوب وحملها لخصائص البلدان التي جاءت منها، أما العمل الفني فهو اكثر شمولا ومقيم ما اقامت الذاكرة.
وفي سؤالنا لاحد مرتادي المعرض ويدعى غاريث بيلي، وهو استاذ جامعي، قال إنني في كل مرة أزور فيها سورية لسببين، الأول هو التمتع بالسحر والبهاء الذي تكنزه هذه الرحاب، والثاني كي أقتني عددا من الأعمال الفنية من المحال الفريدة الموجودة فيها.
ومن الملفت ان الفنانة بارتليت تجاوزت في لوحاتها – التي تنوعت بشكل مذهل – الصورة النمطية للفنانين الغربيين عن الشرق، فلم تكن اعمالها صدى لليالي شهرزاد ومضارب البدو وأساطير الغيلان وبنات الجن.. وآثرت الاهتمام – كما بدا في معظم لوحاتها – بنقل المكان والصورة والتاريخ على اتباع طريق البخور والزينة وروائح الهال المنسكب على ليالي الشرق، والذي يصور في الغالب على انه متعة وسحر واساطير وحكايا ولوحات من الخيال. وحرصت الفنانة على تقديم جو شرقي لجمهور غربي لا يعرف الكثير عن الشرق وسورية بالتحديد.
وتفاجئ زائر معرض متحف ‘غاليري’ لوحة تتوسط صالة العرض وتأسر العين للجامع الاموي والاهتمام بجماليات التفاصيل وتدرجات اللون والخطوط وحركة الزائر وحراك المكان. بينما تجاورها لوحات لاحياء وبيوت دمشقية قديمة، وناعورة حماة التي يمكن للمشاهد ان يسمع حنين الزمن عبرها.
ويبدو ان الرسامة، رسمت اعمالها في سورية بعكس العديد من الفنانين الاوروبيين الذين لم ينجزوا لوحاتهم اثناء رحلاتهم في بلاد المشرق، بل اكتفوا بتسجيل الملاحظات ورسم الاسكتشات، ثم قاموا بتنفيذ اللوحات لاحقا عند عودتهم الى بلادهم.
وهؤلاء الذين هاموا بالشرق، بعضهم قدّم مشاهداته في كتب رحلات، وبعضهم الآخر قدّم دراسات نقدية، وقام آخرون بأعمال تجارية، وربما كانت الفئة الأكثر ربحاً من بين هؤلاء فئة الفنانين الذين أدركوا سحر جمال الشرق فقاموا بإبداع خلّد ما رأوه.
ولا بد وانت تودع المعرض وتخرج من ابوابه حتى تشعر انه كان بوابة صغيرة للوحة سورية كبيرة بحجم الشرق، تدعو الزائر لاكتشافها بنفسه ورسم لوحته الخاصة التي يحب.
القدس العربي