خلف علي الخلفصفحات ثقافية

البوكر بنسختها العربية والانتصار للظل

null
خلف علي الخلف

ماكادت “البوكر” العربية تعلن قائمتها القصيرة حتى طفق سيل مقالات الهجاء العربية التي تنعي الجوائز العربية، مذكرة بخيباتها ولجانها وطريقة توزيعها وتاريخها الأسود.. وقفت مستفسراً ومتمعناً في تلك المقالات ومبررات احتجاجها على النتائج، ولا أخفي أن وجود اسم الصديق خالد خليفة هو ما دعاني للاهتمام بهذه المقالات فانا عادة ودائما مع من يُشهِرون سيوفهم بوجه الجوائز العربية ونتائجها ومهرجانات الثقافة العربية ومؤتمراتها وطبخاتها ودعواتها. أردت أن أفهم سبب صراخ بعض المحتجين وسر الآلة الإعلامية متعددة المشارب والأسباب التي بدأت في تسفيه البوكر العربية

أذكر أننا كنا في مشتى الحلو البلدة الساحرة التي لا تقول أكثر من “كم أنت جميلة يا سوريا” وعلى هامش ملتقى النحت العالمي الذي أسسه الفنان فارس الحلو كنا هناك. كان عادل محمود قد انتهى من كتابة روايته ( إلى الأبد… ويوم)، وروى لنا أجواء كتابتها وبعض مفاصلها؛ وفيما بعد وفي صلنفة الساحرة (أيضاً) ومن على جبل عالٍ، قال عادل هناك أسفل الوادي قريتنا..حيث أنجزت روايتي.. لم أستطع رؤيتها من الغيم والضباب والأشجار الكثيفة؛ وكنت أردد حينها ياااابلادي؛ كم أنت ساحرة يابلادي. ومتهكماً “لو جاءت الامبريالية أو الرجعية لتهاجمك سأقطعها بأسناني”! ولشدة حماسي في ترديد هذه الجملة صار غالبية الأصدقاء يسمي سوريا “بلاد خلف” في تلك “الرحلة”.. قلت لعادل يومها: كتبت هذه الرواية وسط كل هذا السحر؟! والله إن لم تكن مدهشة سنرميك من أعلى الجبل. فهذا السحر يكتب بنفسه، فقط امسكه قلماً. تلك الرواية التي حصدت فيما بعد جائزة دبي الثقافية.

من مشتى الحلو صعدنا إلى جبل السيدة و في “تشيرنوبل” (حسب تسمية خالد خليفة) المطعم الذي يطل على البلدة وقع لنا خالد الطبعة الثانية من روايتيه “حارس الخديعة” و “دفاتر القرباط” ولم أخف امتعاضي أمام الجميع من “حارس الخديعة ” رواية خالد الأولى التي هي أشبه بنص شعري طويل. ذلك الفخ الشعري الذي لم تنجُ منه تماماً دفاتر القرباط؛ لم أكن قد قرأت “مديح الكراهية” بعد! التي نفدت طبعتها الأولى في سوريا، وحين دار الحديث حولها كان رأيي أن حجمها كبير وان سابقتيها لا تشجعان على قراءتها… أكد الجميع حينها وكلهم كتاب وشعراء أنها مختلفة ومنهم من تحدث عنها بحماس

تحدثنا يومها عن البوكر العربية، وكان خالد لم يرسل روايته بعد، قلت وقتها، أني لا أثق بالجوائز العربية.. كما أن لدي احتجاج آخر تتلخص فحواه أنه لا يجوز أن يكون المدير(ة) الإداري لجائزة شخص من الوسط الثقافي ومشتبك معه، له عداواته وصداقاته.. إذ ما يدرينا أنه لن يخف رواية لأحد المشاركين، ممن علاقته سيئة معه… أكد خالد يومها باعتباره صاحب دار أيضاً، أن هذا غير ممكن لأن مهمة الإداري هي توثيق و… كانت نهاية الحديث إنشاء الله اطلع غلطان يا خالد..

وليس علي أن أنكر أن مفاجأتي كان يخالطها الفرح حينما وجدت اسم خالد وروايته “مديح الكراهية” في القائمة القصيرة لـ البوكر العربية،.ليس لأنه صديق فقط بل لأنه هامشي ومهمش، كتب في الظل، وخارج المؤسسة الرسمية، وليس له أي حضور إعلامي، لا في سوريا ولا خارجها، و قليلين خارج سوريا يعرفون هذا “النكرة” الذي فجأة ودون مقدمات بالنسبة لهم وصل إلى “الشورت ليست” في البوكر العربية. فهو اسم شبه مجهول لولا أن يتذكره البعض ككاتب سيناريو لعدد من الأعمال التي لاقت نجاحاً لافتاً أبرزها مسلسل ” سيرة آل الجلالي“..

ولأن “مديح الكراهية” تشكل علامة فارقة في المشهد الروائي السوري تبعاً لمضمونها الذي لم يقترب منه أحد بجرأة، إذ تتناول فترة المواجهة بين السلطة والاخوان المسلمين في الثمانينيات في سوريا وفي مدينة حلب تحديداً، وبروية سردية تعرف منطقتها وشخوصها جيداً، وتكشف عوالمهم وتمزقاتهم ورؤاهم وبتقنية سردية ممسكة بأدواتها جيداً… قرأت ما كتب عن البوكر بطبعتها العربية لأجد منطقة احتجاج من سفهوا نتائجها! ولم أجد احتجاجاً ذا بال فمن حيث الأسماء نعم لا يوجد اسم لامع (إعلاميا) بين هذه الأسماء سوى بهاء طاهر؛ وأقل ما يقال عن بهاء طاهر أنه لا خلاف عليه كمبدع روائي ولو لم يكتب إلا “خالتي صفية والدير” لاستحق أن يصنف في قائمة الروائيين المبدعين ويليه في الحضور الإعلامي الياس فركوح القاص الأردني وصاحب دار أزمنة، لكن اسمه ليس رائجاً كروائي، ومكاوي سعيد غير معروف عربياً وان كان له حضور في مصر ومعروف ككاتب سيناريو، وعدم الشهرة الإعلامية ينطبق على جبور الدويهي رغم إصداره عدداً من الأعمال الروائية ومي منسي بالكاد تعرف كصحفية في النهار، رغم أن لها العديد من الأعمال الروائية أيضاً

نعم ليسوا نجوماً؛ لكنهم أيضاً لم يأتوا من “الأدغال” ليتربعوا فجأة على القائمة القصيرة للبوكر العربية، فهم ليسوا نكرات وجميعهم لديهم أعمال عديدة قبل رواياتهم التي وصلت إلى القائمة القصيرة. إذن ليسوا كتاب صدفة أو حظ لكنهم شبه مجهولون على مستوى القارئ العادي، رغم أن إصداراتهم هذه حظيت بمتابعات نقدية وافية في المطبوعات العربية، ويمكن للمرء أن يذكر عشرات المتابعات النقدية لأعمالهم هذه بالذات والتي كتبت قبل الإعلان عن تأسيس البوكر حتى، وجميع هذه المتابعات بلا استثناء تشيد بتلك الروايات ولا يستثنى من الإشادة أي عمل في القائمة..

أما الاحتجاج على اللجنة فقد تركز بشكل أساسي على رئيس اللجنة صموئيل شمعون وتلته غالية قباني وبشكل خفيف على الكاتب والمستشرق البريطاني بول ستاركي! وإذا كان نظام “الطبعة الأصلية من البوكر” يتيح أن يكون في اللجنة كتاباً وصحافيين وفنانبن؛ فإن صموئيل شمعون كاتب روائي من طراز مختلف وفريد بالعربية وتكفيه روايته الوحيدة حتى الآن “يوميات عراقي في باريس” ليدرج على قائمة الروائيين بالعربية ( فالرجل اشوري عراقي) المميزين، وغالية قباني ليست نكرة فهي كاتبة وصحافية لها حضورها

إذن ما الذي يريده الكتاب العرب المحتجون من الجوائز؟

إن أعطيت لأسماء مشهورة إعلاميا قيل هذه هي الجوائز العربية لا تعطى إلا لأسماء مكرسة.. انها مطبوخة سلفاً والأسماء معروفة قبل إعلان النتائج.. وأين الأسماء الجديدة ( وهذه حقيقة اغلب الجوائز العربية) وهذا احتجاج مشروع ومقبول… لكن أن يحتج نفس هؤلاء إن أعطيت لكتاب مهمشين! أو غير معروفين على نطاقٍ واسع، بحجة “أين الأسماء الروائية المبدعة” (لاحظوا تحول التسمية من مكرسين إلى مبدعين وغياب الاحتجاج على التكريس )!فهذا ما يجعل المرء يحيل ذلك الى السفاهة دون أن يخشى الوقوع في المحظور. وإذا كان مفهموماً أيضاً الاحتجاج على نظام المحاصصة حسب الدول المتبع غالباً في الجوائز العربية فان ما لا يفهم هو الاحتجاج على غياب هذا المعيار بحجة “أين الدول الأخرى التي لها ثقل إبداعي!!”

جائزة البوكر بهذه الأسماء تكرس نفسها كأحد الجوائز العربية التي تريد أن تخط خطاً مقبولا ومقنعاً في النزاهة إن لم نجازف في القول أنها أحد أنزه الجوائز العربية وفقاً للاسماء المعلنة في دورتها الأولى…الأسماء التي وصلت إلى القائمة القصيرة أسماء ليست شهيرة وليست رائجة إعلاميا؛ والاسم اللامع الوحيد (بهاء طاهر) وجوده يؤكد هذه النزاهة ولا ينفيها، إذن هناك أسماء تكتب في الظل ولم تدخل لعبة العلاقات الترويجية ولم تشكل تحالفات مع “الكارتلات” النقدية والإعلامية، ومن حقها أن تصل إلى جائزة عربية، وقد وصلت إلى جائزة أعلنت عن نفسها أنها مختلفة ورصينة في دورتها الأولى. إن هذه الجائزة تفتح أملا للمهمشين الذين يكتبون إبداعا دون أن تدعمه شبكة من العلائق التي آخر معاييرها الإبداع. نعم جائزة تستحق الإشادة. متمنياً لخالد خليفة علناً أن يتربع عليها ممثلاً لجيلٍ سوري تخطى الأربعين من العمر ولا زال مهمشاً في مؤسسات بلاده الثقافية واستتباعاً خارجها..

ايلاف

2008 السبت 2 فبراير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى