صفحات ثقافية

لماذا يا فيروز؟.. كان يكفي أن تلوحي لنا من الشرفات؟

null


نهله محفوض

سألت صديقي وعد, الذي قلت له مرة أن الناس يستيقظون صباحاً ليذهبوا إلى أعمالهم أما أنا فـأستيقظ لأسمع فيروز, و كان قولي هذا يعنيه أكثر مما يعنيني, سألته إن كان سيحضر فيروز في دمشق.

فابتسم و أجاب: لن أحضر, أقاطعها.

إن كان, و هو الذي لا أستطيع أن أشرح ما تعنيه فيروز له, يقاطعها, فلا بد من سبب!. قال:

(( منذ ثلاث سنوات أو أكثر قرأت في جريدة السفير سطرين أو أقل يتحدثان عن إحياء فيروز لـ “الجمعة العظيمة” لصلب المسيح تراتيلاً في إحدى كنائس بيروت. سافرت هناك و في جيبي أجرة الطريق فقط. وقفت أمام الكنيسة أنتظر. و عندما فتح الباب أسرعوا إلى المقاعد الأولى بينما ارتضيت لنفسي عتبة الهيكل في الكنيسة ليفصلني بذلك متر واحد عن السيدة فيروز. رأيتها خاشعة لنور الرب على ركبتيها, ترفل بالسواد الملكي و ترتل لمريم البتول و ثمرة بطنها المباركة. فكيف تريدينني أن أدفع ثمن تذكرة أفله ليس بالقليل لأراها تقف على مسرح مضاء بالكهرباء, تحاكي شفتاها صوتها الأخرس الناطق من أسطوانة بطريقة الـ“play back”. ولماذا عليّ أن أنافس درويشاً يأمل بسماعها لذا دعيني في ذاكرتي واسألي صديقتنا سوسن التي حضرت معي وقد اعتذرت لها عن هديتي المتواضعة حين توسدت الرخام معي والتي لم تعلم بهديتي لها في يوم ميلادها حتى أطلت علينا فيروز))!

استيقظت اليوم باكراً, لا لأسمع فيروز, و لا لأذهب إلى العمل, فقد قررت أن آخذ إجازة كي أتمكن من حجز تذكرة لحضور مسرحية “صح النوم” فأنا لم أسمع فيروز ترتل في الكنيسة لأقاطعها الآن!. السماء تمطر و البرد القادم من جبل الشيخ يخترق العظم. إلا أن سعادة تملأ قلبي و تفيض منه مع كل خطوة تقربني من دار الأوبرا. الوقت لا يزال مبكراً, لا بد أن أكون من أوائل الواصلين لأني لأم أتأخر حتى لأشرب قهوتي. تذكرت ما كتبته مرة:

تعالي صباحاً مع قهوتي

و عنواني سجليه

كرم العلالي/سلم لي عليه

ستدلك نجمة الصبح

و جار لن تفهميه

و عندما وصلت و رأيت الحشود المنتظرة لم أفهم شيئاً. أخذت أبحث عن عنوان, عن نجمة صبح تدلني أين يجب أن أقف؟ إلى متى؟ و هل سأحصل على بطاقتي فيما إذا وقفت ساعات تحت المطر و البرد الذي اخترق عظامي؟.

وقفت في آخر الطابور الممتد إلى أبعد من”الجبل البعيد”. حشرت في أذني سماعتين و رحت أسمع أغاني فيروزي. أحسست بأني أحتكرها تلك الأغنيات. الأمطار تنهمر و الناس تنتظر و أنا معهم أنتظر و لكني أسمع فيروزي.

أطل من شرفات دار الأوبرا عمال و عاملات التنظيف.و قفوا فوق و نظروا إلى أسفل, إلينا, و ضحكوا.

ما الذي يضحكهم؟.

قد يكون منظر الحشود من أعلى مضحكاً!أي حشود؟ تقول المذيعة في الراديو في تعليق على أعداد العشاق المتعطشين لرؤية فيروز فتصفهم بـ”حفنة من الناس” و تضحك. ربما ما يشاهده هؤلاء العمال مجرد”حفنة, مضحكة من المجانين

أخذ أحدهم هاتفه النقال و بدأ بتصوير “حفنة المجانين هذه

كان قد مر ساعتين و نصف من الانتظار عندما خرج شاب يحمل تذكرتين و بدأ يستعرض فرحته. اقترب منا و قد تعلقت عيوننا بالتذكرتين و أخذ يضحك و يلوح بهما. كان قد صار له ينتظر منذ الخامسة صباحاً و ها قد مر ما يقارب العشر ساعات. أخبرنا بأن نعود أدراجنا لأنه كان قد أمضى الأمس كله منتظراً و لم يحصل على شيء, و أن انتظارنا ما هو إلا إضاعة للوقت و الصحة إذ أن الأجساد بدأت ترتجف. و ختم حديثه قائلاً”عندما تقفا الأبواب في وجهكم كما حدث لي البارحة ستتذكرون حديث هذا الفلاح الواقف أمامكم”. و ذهب و فرحة تشع في عيونه

شيعته نظراتي إلى أن غاب… لا أحد يعرف فيروز أكثر من فلاح يعي أن الصابون كان “غير شكل!”.

عدت إلى المشهد الذي كنت جزءاً منه. هواء بارد يحمل أوراق الشجر المتعلقة بأغصان مرتجفة, فترتجف الأجساد.

سمعت صوتاً ينادي اسمي, فبحثت عن الرفيق الذي جاء يشهد مأساتي. كان ابن عمي يقف بين العشاق المنتظرين. ابتسم فلمعت عيناه, ذلك المشاكس, أعرف أنه يمضي خدمة العلم في ريف دمشق. اقتربت منه, أردت أن أمسك أذنه موبخة إذ لا بد أنه هرب من قطعته العسكرية و عرض نفسه لعقوبة سجن قد تمنعه من حضور مسرحية فيروز, هذا إن استطاع الحصول على تذكرة.

بعد مضي ساعتين أقفلت جميع الأبواب بعد أن خرج شاب يلبس بزة أنيقة ذكرتني بأفلام هوليود التي تحكي قصص الشرطة و أمانتهم و تفانيهم في خدمة الشعب و حفظ النظام. قال أن التذاكر قد نفدت و أنه علينا أن نأتي في الغد لنحجز لليوم التالي. كدت أنفجر بكاءً. تذكرت ذلك الفلاح الذي لم نصدقه بل صدقنا الأمل و الحلم. كيف لم أصدق حدس الفلاح قبل هبوب العاصفة؟ كيف أصدق أن من حصل على التذاكر ليسوا إلا ما يقارب الخمسين ممن كانوا بين الحشود. كيف أصدق أن انتظاري ذهب عبثاً, و جسدي الذي لم يعد من سلطان لي عليه سأضطر لمراعاته أسابيع قادمة خشية المرض.

تركت ابن عمي و اقتربت من أحد الأبواب الموصدة التي يحرسها شاب وسيم. أخبرته أني أريد الدخول. ربما تعاطف مع الحزن الخارج من صوتي! ربما مع الدموع العصية على النزول! ربما مع جسدي المرتجف! ففتح الباب و دخلت,

كان أول ما أحسست فيه لدى دخولي البهو الفاخر الدافئ المؤثث بأفخر الأثاث و التحف الفنية النادرة هو أصابع قدمي التي بدأ الدم يعود ليسري في عروقها.

لم يكن ثمة أعداد كثيرة تقف أمام نوافذ التذاكر. بل إن واحدة منها تقف أمامها فتاة واحدة. تقدمت إلى النافذة متأملة تذكرة واحدة فقط متبقية, يشفق علي بائع التذاكر و يبيعني إياها. إلا أنه رفع حاجبيه بـ” لا يوجد, لقد نفدت جميعها” و الفتاة تحمل في يدها أكثر من ثلاث بطاقات, نظرت إليها بحسد. “لم تكن هذه الفتاة تقف في الطابور فمن أين جاءت؟” سألت نفسي ثم أدركت الجواب عندما وقع نظري على بطاقة صغيرة في يدها تحمل اسم ضابط كبير في الجيش و رقم هاتفه الجوال.

كان من سخرية القدر أن يعود نسب ذلك الضابط إلى قريتي ذاتها, و أن أجداده أحنوا رؤوسهم في كل مرة ذُكِرَ فيه نسب أجدادي لما اشتهروا فيه من كريم الأخلاق. و أن أفراد عائلتي اختاروا العلم و الفكر و الأدب طريقاً لهم بدلاً من دخولهم السلك العسكري, خشية إملاق, ما إن يحصلوا على الشهادة الثانوية.

أدرت ظهري لنافذة التذاكر, أردت الصراخ منادية أجدادي ليروا ماذا تفعل السُّلْْطة إن وقعت في أيدي من اعتاد حني رأسه خشية و مذلة.

ماذا يعرف هؤلاء عن فيروز؟؟؟

همس في أذني موظف في دار الأوبرا”أترين ذلك الشاب الأنيق, ذلك الشاب الطويل الذي يرتدي بزة سوداء و ربطة عنق أنيقة؟ ذلك هو مسؤول الأمانة السرية لاحتفالية دمشق المسؤول عن الحجوزات”. ذهبت إليه و أنا أضغط على حنقي.

عفواً أستاذ!

تجاهلني

عفواً أستاذ! أريد أن أسأل سؤالاً واحداً فقط.

ابتسم ابتسامة صفراء محاولاً تصنع الكياسة

تفضلي!

أستاذ! أنا أحب فيروز و أرغب جداً بحضور مسرحيتها و ما من “واسطة” تدعمني, ماذا أفعل؟

نظر إلي بدهشة. كنت أتحدث باللغة العربية و لكنه لم يفهمني. ثم هز رأسه.

من أخبرك أن هناك تجاوزات؟ أو أن أحد حجز تذكرة بالـ”واسطة”؟

فأشرت إلى الفتاة التي عادت مرة أخرى إلى النافذة و استلمت تذكرتين أخريين, فغضب و تأفف و أراد التخلص مني فقال:

لا أعرف عما تتحدثين!

و لكنك المسؤول هنا!

لا لست المسؤول.

إذن من المسؤول؟

لا أعرف.

و من يجب أن أسأل؟

لا أعرف.

لا أحد يعرف. كان الجواب الأسهل للتخلص من الإحراج الذي أمسكه من رقبته. هذا المسؤول الذي”يحكي من بين شفافو و بيجاوب بكتافو يعني الحكي مش متل الشوفي فعلاً لو حدا شافو ” يا فيروزي.

عدت إلى ابن عمي و مشينا حتى الباب الرئيسي

حسن، عد إلى خدمة الوطن.

كان يكفيني أن تطل فيروز من إحدى هذه الشرفات و تلوح لنا.

أتريد أن تسمع فيروز معي؟

لا أريد أن أسمعها.

و أنا لم تكن لدي رغبة في سماعها, كان يكفيني أن تطل فيروز من إحدى هذه الشرفات و تلوح لنا.

ذهب ابن عمي ليخدم الوطن. و ذهبت إلى الطالبة التي أدرّسها دروساً إضافية من أجل دخل إضافي قد يغطي ثمن تذكرة لحضور مسرحية لفيروز, تلك الطالبة التي تنتمي إلى جيل المستقبل الذي سيبني الغد المهدم فينا.

عندما عدت إلى البيت استقبلتني أمي ببشرى سارة “لقد استطعنا أن نملأ برميلاً كاملاً من المازوت” فقلت”هذا خبر دافئ بعد يوم طويل من البرد و الإحباط” غداً سأقدم طلب هجرة إلى كندا علني أحظى بحضور مسرحية لفيروز هناك و أنا بكامل كرامتي.

و أنا الآن أجلس في “أوضة منسية” و ظهري يكاد يلتصق بالمدفأة و كأس من الزهورات الدافئة تعبق رائحتها بالياسمين و صوت فيروزي يصدح:

يا كلام الله في الكتب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ونعم ما كتبت ..
    تلك حقيقة ولكن هل نيأس من الخير الذي في قلوبنا تجاه أمنا سوريا
    أقول أن كل هذا إلى زوال .. بعد جيل .. بعد قرن .. بعد مجزرة
    ولكنه إلى زوال .. و يوما ما سنستطيع بدون خوف أن نصرخ بوجه ذالك الذي
    ( ينط على الدور ) وهو يحمل بطاقة عليها أسم ورقم ضابط كبير بالجيش
    وعندها سيجدي الصراخ فعلا ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى