صفحات مختارة

موت الماركسيّة المبتذلة أو ورطة النصر (التجربة العراقيّة)

* سلام عبّود
موت الاشتراكيّة المبتذلة
أوقع تغييرُ الخطاب الإيديولوجيّ العالميّ أطرافًا “يساريّة” في مآزق سياسيّةٍ ونظريّةٍ خاطئة، تبريريّةٍ ومحافظة، مناقضةٍ تمامًا لجوهر مبادئ الاشتراكيّة، المعلنة في دعايتهم السياسيّة التي تؤكّد، بحسب ما تقول طريق الشعب، الصحيفةُ المركزيّةُ للحزب الشيوعيّ العراقيّ، ما يأتي:
“لقد ظلّت قضيّةُ المثال الذي يقدّمه الشيوعيون من بين القضايا ذات الأهميّة الفائقة… [وهي] تتسم، اليوم، بأهميّة استثنائيّة. فهذا المثال الذي يفترض أن يجسّده الشيوعيون عمومًا، وقادةُ وكوادرُ الحزب خصوصًا، في مختلف الأطر السياسيّة والفكريّة والتنظيميّة والأخلاقيّة والمعرفيّة، وعلى النحو الذي يعكس الروحَ الثوريّة المرتبطة بالتغيير والأمل والتمسّك بالقيم الرفيعة التي ميّزت الشيوعيين عبر تاريخهم الملهم، هذا المثال هو حجرُ الزاوية في ما يمكن وينبغي أن يفعلَه الشيوعيُّ من أجل التحويل الثوريّ للمجتمع. ولعلّ من بين عناصر هذا المثال، كما لا ريب تعلمون، أن يتّسم الشيوعيُّ بالتكوين المعرفيّ والروحيّ العميق. فالشيوعي هو المتطلّع، دومًا، إلى المثال الذي تقدّمه الماركسيّةُ في الفكر والسلوك” (التشديد منّي). 1
فبعضُ أطراف الحركة الشيوعيّة اعتقد أنّ شعارات العداء للإسلام، تحت واجهة “العداء للإرهاب،” تخفِّف عنه ضغطَ العدوّ التقليديّ التاريخيّ، “الإمبرياليّة العالميّة” و”النظام الرأسماليّ،” بحسب تسميته. أما القوى اليساريّة المهووسة بالعَلمانيّة فقد أفادت من هذا المناخ سلبيّاً أيضًا بالانغمار في ثقافةٍ هامشيّةٍ، تسلويّةٍ، مثل الاهتمام والانشغال باكتشافاتٍ دينيّةٍ، ظنّتها عظيمةً.2 هذا الانغمار الشكليّ من قِبل الطرفين يشير إلى أنّ القوّة الدوليّة المنتصرة تدوِّن بأقلامٍ “يساريّةٍ” تقريرَها النهائيَّ عن هزيمة الشيوعيّة كتيّارٍ سياسيّ. ذلك أنّ أبرزَ مظاهر الهزيمة التاريخيّة لا تنحصر في سقوط النظم الشيوعيّة القائمة فحسب، بل تتعدّاها إلى عدم قدرة جزءٍ كبيرٍ ممّا تبقّى منها على تفهّم واقع الهزيمة وتقديرِ نتائجها، لأنّ الجثّة المتفسّخة لا تعي فسادَ كيانها. فعلى الرغم من تلك الهزيمة القاسية لم تراجِعِ الحركةُ الشيوعيّة تجربة سقوط المنظومة الاشتراكيّة مراجعةً نقديّةً معمّقة، واكتفى عددٌ كبيرٌ من أجنحتها بالهروب إلى الأمام، من طريق الإيحاء إلى مريديه بأنّ سقوطها التاريخيّ كان قدرًا جاءها من خارجها، وهم معفيّون من تحمّل أسبابه ونتائجه. ولكنّ هذه الهزيمة السياسيّة قد تجيبنا عن الأسئلة الجوهريّة التي نريد الوصولَ إليها: هل استنفدت الماديّةُ الجدليّةُ نفسَها ولم تعد قادرةً على العطاء كتيّارٍ فكريّ، وما يرافقه من منظومة أفكارٍ سياسيّة؟ هل تعني هزيمةُ التيّارات الاشتراكيّة الحاكمة وتابعيهم هزيمةً للماديّة التاريخيّة في أسسها الجوهريّة، الفلسفيّة خاصّةً؟
قد يكون من المحزن الاعترافُ بأنّ مرحلتنا الراهنة تَشْهد تطابقًا عالميّاً بين فوضى الفكر، التي هي جوهرُ النفعيّة الفلسفيّة الرأسماليّة، وفوضى الممارسة السياسيّة، التي هي جوهرُ التطوّر السياسيّ والعسكريّ الناشئ من انتصار الولايات المتحدة وتحوّلها إلى قوةٍ وحيدةٍ في عالمٍ خالٍ من الأقطاب القويّة. وربما لا يكون مبهجًا القولُ إنّ السلوكَ السياسيّ والموقفَ النظريّ لبعض الأطراف “الشيوعيّة” المنهارة، ومنهم شيوعيّو العراق ـ جناح بريمر، يجسِّد لحظةَ التطابق التاريخيّة القاسية هذه تجسيدًا مثاليّاً، وذلك من خلال جمعهم بين الاسم “الشيوعيّ” والدعوة إلى تأييد الاحتلال والعنف الحكوميّ والدوليّ ونشرِ نظريّة “الحتميّة الأميركيّة” وغيرها من الحلول السياسيّة الغريبة عن الفكر الجدليّ، معبّرين بهذا عن تطابقٍ تامٍّ بين فوضى المفاهيم والقيم كمنهج ثقافيّ، وفوضى المشروع السياسيّ كعمليّةٍ إجرائيّة. لقد أنتجت التجربةُ الشيوعيّةُ العراقيّة جيلاً من القادة على درجةٍ عاليةٍ من فقدان السويّة السياسيّة: فمنهم مََن توجّه نحو المشروع العرقيّ ككريم أحمد؛ ومنهم مَن ذهب نحو حلولٍ تحالفيّةٍ شديدة الغموض كمهدي الحافظ؛ ومنهم مَن عمل في خدمة الاحتلال بشكلٍ مباشرٍ من خلال قيادته لتيّارٍ “شيوعيّ” وتولّى شخصيّاً دورَ تقديم المعلومات الدوريّة إلى ضبّاط استخبارات الجيش الأميركيّ، فشكّلتْ هذه المعلوماتُ قاعدةً للإحداثيّات العسكريّة في بعض مناطق الصراع الحادّة، كما زوّدهم بتقارير منتظمةٍ عن حركة الكتل في مجلس النوّاب ومسارات الصراع الداخليّ! ولقد ازدادت صورةُ القائد الشيوعيّ تلوّثًا حين وَجدت القواعدُ الحزبيّةُ أمينَ عامٍّ سابقًا كـ […]، قاد الحزبَ عقودًا، يقدّم أوراقَ اعتماده إلى حاكمٍ محتلّ؛ وحين وَجدتْ آخرَ انقلب من قيادة منظماتٍ وهميّةٍ عالميّةٍ (كمنظّمات السلْم والتضامن والتحرير) إلى تأييد مشروع الاحتلال المتعدّد الجنسيّات كنوري عبد الرزّاق؛ ومنهم مَن انقلب من اليساريّة الثوريّة إلى خادمٍ لمشروع الديكتاتوريّة، ثم إلى متطوّعٍ صغيرٍ في فيلق الاحتلال، كـ […]. هذا الانقلابُ القياديُّ الكبير أفضى إلى طغيان خطابٍ سياسيّ اغترابيّ، مستنسخٍ، مفرَغٍ من الخصوصيّة الوطنيّة، يجْمع بين السطحيّة السياسيّة وبين التأمرك اليمينيّ والنزعة العرقيّة والصهيونيّة والتحلّل الأخلاقيّ. وهو خطابٌ انتقاميٌّ يرمي إلى تدنيس الإرث الوطنيّ عامّةً، والاشتراكيّ خاصّةً، بهدف الحصول على براءة ذمّةٍ من ماضٍ لم يعد يطابق نهجَ مسايرة مشاريع الاحتلال ورغبات القوى العِرقيّة والطائفيّة الحاكمة.
لقد نشأت انحرافاتٌ، وتقلّباتٌ، بل خياناتٌ مشينةٌ، في تاريخ الحزب الشيوعيّ العراقيّ من قبل، ولكنْ لم يحْدثْ تحوّلٌ معادٍ لجوهر توجّهات الحركة الوطنيّة العراقيّة ومفاهيمِ الاشتراكيّة بهذه السعة والعمق في الصفوف القياديّة العليا والحلقاتِ القريبةِ منها، كما حدث خلال السنوات المنصرمة. هل ما يحْدث مجرّدُ مصادفاتٍ قدَريّة، أمْ أنّه نتيجةٌ من نتائج التربية التاريخيّة؟ أهو نزوةٌ طارئة، أمْ نهجٌ ثابت؟ أنْ تولَدَ، في هذه الحقبة المحدّدة، تشكيلةٌ قياديّةٌ متعدّدةُ المسارات والتطلّعات، موحّدةُ المنشإ، لا تقيم وزنًا لتاريخ الحركة التي أنجبتْها وتربّتْ في أحضانها، فذلك دليلٌ على فساد الأرض التي سارت عليها التجربةُ الشيوعيّةُ في العراق لحقبةٍ مديدةٍ سابقة، ودليلٌ على أنّ الحركة مقبلةٌ على صراعٍ قاسٍ، عنيفٍ، لن يُحسمَ إلاّ بعودة الحركة إلى مجراها الحقيقيّ، أو بالتحوّل إلى كيانٍ آخر، بهويّةٍ مغايرة.
لقد أخطأ كثيرون في تفسير حديث بول بريمرعن مقابلة “كشف الكفاءة” التي أجرها لزعيمَي الحزب الشيوعيّ عزيز محمد وحميد مجيد، والمفاضلةِ بين أهليّتيْهما في كتابه عامي في العراق؛ فقد ظنّ كثيرون أنّ بريمر كان يهدف إلى فضح بعض مستخدَميه وتوسيخِهم. لكنّ بريمر أذكى من أن يكتفي بذلك: إنه، كممثّلٍ لقوّةٍ عالميّةٍ منتصرة، يهدف إلى تسجيل شهادةٍ علنيّةٍ، وباسمه الشخصيّ، لوفاة الشيوعيّة، ممهورةً بتوقيع زعيميْن من قادتها الرسميّين. فهل كان هذا الحدثُ قدرًا جاء من خارج مسار تطوّر الحزب تاريخيّاً؟ كيف تجيب “ماركسيّةُ المنطقة الخضراء” عن هذا السؤال؟ عن هذا السؤال لا يجيب أحد لأنّ القيادات الراهنة لا صلةَ لها بالاشتراكيّة نهجًا للنضال الطبقيّ والوطنيّ والأمميّ، لكونها منشغلةً بأمور أكثر أهميّةً من سمعتها الشخصيّة ومن واقع الحركة ومصيرها. إنّ بريمر ومجيد، اللذين التقيا على قاعدة شراكةٍ سياسيّةٍ تقوم على نظريّة انتصار “القدَر الأميركيّ” الحتميّ بديلاً تاريخيّاً يلغي قوانينَ النضال التقدميّ، يؤكّدان عمليّاً موتَ الماركسيّة المبتذلة، ماركسيّةِ السوق. وهما يؤكّدان موتَ مشروعيّهما كحلٍّ محليّ ـ أجنبيّ مقترحٍ قائمٍ على فوضى القيم والمفاهيم، وفوضى التجربة اليوميّة المختلّة المناهضةِ لأسس التفكير والممارسة الجدليّة. والحقّ أنّ هذا الاتحاد المريب، وما يرافقه من خطابٍ دعائيّ، ليس جديدًا على تاريخ الفكر الجدليّ (إذ كان الخلافُ العنيفُ بين التيّارات المتناحرة مادةً أساسيّة تقع في صلب الصراع النظريّ المتعلق بنقاوة النهج السياسيّ وصحّته)؛ بيْد أنه تحوّل في السنوات الأخيرة إلى مادةٍ توكَلُ في الغالب إلى عناصرَ متدنّيةِ المعارفِ والمواقفِ والمسؤوليّةِ الأخلاقيّة، تتولّى مهامَّ الدفاع عن قادةٍ عاطلين عن التفكير، وعن سياساتٍ معاديةٍ للمصالح الوطنيّة: فلم يقم أحدٌ بزيارة إسرائيل إلاّ بادروا إلى تمجيده منذ اللحظة الأولى؛ ولم يُفتتحْ سجنٌ إلاّ مَجّدوا سجّانيه؛ ولم يُطْلقْ مرتزِقٌ النارَ على مواطن إلاّ دافعوا عن القتلة؛ ولم تتمدّدْ ميليشيا عرْقيّة على حساب وحدة الوطن إلاّ باركوا فعلتَها؛ ولم تُدَكّ مدينةٌ بالقنابل إلاّ هلّلوا لقاصفها.
إنها عقدةُ الانتقام من كلّ ما هو وطنيّ وإنسانيّ وحيّ. وإنها ثقافة مَرَضيّة، أضحت خادمًا وفيّاً لكلّ ما هو دمويّ ولاإنسانيّ، وتتخصّص في واجبٍ واحد: حراسة مملكة الشرّ. فأيّ شيوعيّة هي هذه؟! وفي أيّ صفيحةٍ من صفائح التاريخ وَجدوا هذا المثالَ “الشيوعيّ” القبيح؟ إنّ تلك الأمثلة ليست سوى شواهدَ تاريخيّةٍ على موتَ جيلٍ من أجيال التفكير الشيوعيّ، لكنها تؤكّد في الوقت عينه استمرارَ الظاهرة التاريخيّة: صراع المتناقضات. فهذه القيادات تَعرف، انطلاقًا من قوانين الجدل نفسها، أنها لا تستطيع أن تلغي ظهورَ أجيالٍ مخْلصةٍ لثوابتها التاريخيّة، وبروزَ أصواتٍ تسعى إلى ديمومة النظريّة الماركسيّة وتجديدِها، ووجودَ ضمائر لا تخشى الاعترافَ بإخفاقاتها.
إنّ فهمَ الصراعات المحليّة خارج سياق الظاهرة العالميّة، وفصْلَ الوطنيّ عن العالميّ، نهجٌ غريبٌ لم تعرفه الحركةُ الشيوعيّة من قبل، وقد بدأ يسيطر على القيادات الشيوعيّة الراهنة في العراق كنوعٍ من قصور النظر، مصحوبًا بميْلٍ شرهٍ إلى التكسّب السياسيّ النفعيّ، من دون الاهتمام بعواقب هذا السلوك على مستقبل الحركة وتاريخها. إنّ استنفار نوازع الربح السريع والحصول على الغنائم بديلاً للسلوك التحريضيّ ليس دليلَ طاعةٍ للحاكم فحسب، بل هو أيضًا تنكّرٌ علنيّ لقواعد السلوك الوطنيّ المبدئيّة، ساهم مساهمةً مباشرة في توسيع جبهة الإرهاب والارتزاق السياسيّ على حساب النضال الوطنيّ الحقيقيّ الهادف إلى تحرير المجتمع من بقايا النهج الديكتاتوريّ ومستجدّات مرحلة الاحتلال. إنّ الثمن الذي قدّمته القياداتُ المتحالفةُ مع المحتلّين والطائفيين كان باهظًا، وسيترك آثارَه القاتلة على حقبٍ عديدةٍ قادمة؛ فقد كان هذا النهجُ عاملاً أساسيّاً من عوامل تفريغ الصراع السياسيّ من أيّ بديلٍ تاريخيّ يقف في مواجهة مشروع العنف: عنفِ المحتلّ وأعوانه من جهة، والعنفِ التكفيريّ والطائفيّ والعرقيّ والبعثيّ من جهة أخرى. إنّ أعظم هديّةٍ قدّمها التيارُ “اليساريّ” التابعُ هو إلغاءُ وجود التيّار الديموقراطيّ المستقلّ، باعتباره قوةً اجتماعيّةً تقف في تعارضٍ تامٍّ مع وجهَيْ معادلة العنف السابقيْن، والاحتفاظُ من ذلك التيّار بالاسم فقط وببعض التحالفات الآنيّة الدعائيّة أو النفعيّة.
لقد أثبتتْ أحداثُ السنوات المنصرمة أنّ الضربات المسلّحة الأميركيّة الكبيرة لم تزل تحتفظ بقوّتها، إلا أنها أخذتْ تفقد بعضًا من زخمها السياسيّ، وجزءًا كبيرًا من زخمها الدعائيّ والأخلاقيّ، وكاملَ مثالها الإنسانيّ. بيْد أنّ الأزمة العالميّة الراهنة، التي ولدّها تسيّدُ القطب الأميركيّ الوحيد، لم تجد منافذَ واضحةً للحلّ، نتيجةً لعدم ظهور المنافس التاريخيّ حتى الآن. لذلك فإنّ مهمّة التعجيل في استنفاد زخم الهجوم الأميركيّ الشامل على المصالح التاريخيّة للبشريّة لن يتمّ من دون تنشيط عناصر مواجهة الاستبداد الدوليّ والمحليّ معًا، وإيجادِ البدائل التاريخيّة المشتركة وطنيّاً وعالميّاً. فإذا كان البديلُ الدوليّ لم يظهرْ بعد، إلا أنّ جبهة واسعة أخذتْ تنْشط في مواجهة المشروع الأميركيّ، هي جبهةُ أميركا الجنوبيّة، التي فُعّلت تاريخيًّا خارج شعارات محاربة “الإرهاب الاسلاميّ.” أما القوى الوطنيّة في آسيا وأفريقيا فلم تزل، في جلّها، عاجزةً ومشتّتةً، تئنّ تحت وطأة شعارات محاربة “الإرهاب الدوليّ” و”الإسلام السياسيّ” الانتقائيّة المنافقة. وعدا التيّارات العرقيّة والفئويّة والمناطقيّة، لم تظهرْ في منطقتنا قوًى فاعلةٌ سوى القوى الإسلاميّة بصنوفها المتنوّعة: المتحالفة مع المشروع الأجنبيّ، والمقاومة له، والإرهابيّة التكفيريّة. وقد احتلّ الصنفُ الأخيرُ الواجهةَ الإعلاميّة لما تمثّله نتائجُ أعماله من عنصر إدامةٍ لزخم الهجوم الأميركيّ، وعنصرِ تجديدٍ لإيديولوجيّته وسياسته الميدانيّة العسكريّة. كما جرى إعلاءُ شأن الجماعات المسلّحة المحترفة التي تتنقل من جهةٍ إلى جهة، بحسب الطلب، وجرى رفعُها إلى مستوى القوة السياسيّة، كشكلٍ من أشكال خلخلة الأمان الاجتماعيّ وزرعِ الألغام التاريخيّة المميتة تحت واجهاتٍ طائفيّةٍ ومناطقيّة. وفي الوقت ذاته يجري الهجومُ على القوى الإسلاميّة التي تبدي ميْلاً معاديًا للاحتلال على قاعدةٍ وطنيّةٍ خاليةٍ من نزعة التكفير والإرهاب الطائفيّ؛ وكذلك الحالُ مع قوى الاعتدال الإسلاميّ ذات النزوع الوطنيّ، مثل النموذج الماليزيّ، الذي لم يزل يعاني التهميشَ خشيةً من قوة تأثيره في الآخرين كبديلٍ سلميّ محتمل.

إنّ إعادة الجدل الى نصابه الصحيح مسؤوليّة القوى الحيّة التي تتّسم بالاخلاص المطلق لمبادئ الحقيقة. إنّ موت الماركسيّة السريريّ، الذي يحاول القادةُ الحاليّون ومشايعوهم إثباتَه، ليس سوى وهمٍ يخفي موتَ التيّارات الانتهازيّة التي تتخذ من الخطاب الدعائيّ مادّةً للجدل لتبرير عجزها عن فهم الواقع في مواجهة خصومها؛ ولا شكّ أنه يثبت أيضًا أنّ النظرية الجدليّة قادرةٌ على تأكيد حيويّتها أداةً للتفسير والتغيير.
2 – البيان الشيوعيّ لمرحلة الاحتلال: من الأمميّة الاشتراكيّة إلى الاشتراكيّة المحليّة
في النصف الثاني من ثمانينيّات القرن الماضي بدأت الأرضُ التي تسير عليها الشيوعيّةُ بالاهتزاز. ولم يكن هذا الاهتزازُ محصورًا في الاتحاد السوفييتيّ، بل أخذ يشمل مجملَ النظام الاشتراكي، وخاصّةً النظم المبنيّة على النمط السوفييتيّ. وتعدّت الهزّات ذلك الحدّ ومسّت تأثيراتُها المباشرة توابعَ هذا النظام في العالم الثالث، وفي المجتمعات “الضعيفة التطوّر” كاليمن الديموقراطيّة وأفغانستان وأثيوبيا وألبانيا ومنغوليا. وسرى أثرُها على التنظيمات الشيوعيّة في البلدان الرأسماليّة أو بلدان “العالم الثالث.” بل تأثّر المنافسُ التاريخيُّ الأولُ للنظام الاشتراكيّ، أيْ تيّارُ “الاشتراكيّة الدوليّة،” الذي مُني بخسائرَ متتاليةٍ جرّاء غياب قادته التاريخيين عن المسرح السياسيّ في وقتٍ متقارب: المستشار النمساويّ برونو كرايسكي الذي استقال من رئاسة الحكومة والحزب الاشتراكيّ النمساويّ عام 1983، والمستشار الألمانيّ ويلي برانت الذي ترأّس قيادة الحزب الاشتراكيّ الألمانيّ بين عاميْ 1964 و1987، والقائد السويديّ أولوف بالمه الذي اغتيل في مارس 1986 وكان أبرز وجوه الاشتراكيّة الدوليّة وأكثرهم تأثيرًا في السياسة العالميّة.
التقطت القوى المناهضةُ للشيوعيّة إشاراتِ شيخوخة النظام الشيوعيّ من ملاحظاتٍ كثيرة، منها توالي قيادات سوفييتيّة شائخة عمريّاً وحزبيّاً، وسرعةُ مغادرتها للمسرح السياسيّ. فبعد فترة احتضارٍ طويلةٍ ومملّةٍ قضاها بريجنيف في رئاسةٍ اسميّة، حلّ في السلطة حيّان عابران، أقربُ إلى الموتى، هما شيرننكو وأندروبوف، أعقبهما ظهورٌ مفاجئٌ لقياداتٍ جديدةٍ تتّسم بالصخب اللفظيّ والنزق السياسيّ والاضطراب الشخصيّ، ومنها: غورباتشوف (صاحبُ نظريّة البيريسترويكا والغلاسنوست) ويلتسن (“مكتشف” الفيديو والجينز). أما الإشارات السياسيّة والعسكريّة الحاسمة فقد ظهرتْ تتويجاتٍ لذلك الاهتزاز، وتمّت على ضوئها إعادةُ ترتيب البيت العالميّ بشكلٍ سريعٍ ومؤقت؛ وأبرزُ هذه الإشارات ما يأتي:
تطوّرُ حركة معارضة الشيوعيّة في بولندا؛ وانقلابُ 13/5/1986 في اليمن الديمقراطيّة وقيامُ الحرب الأهليّة التي تُوّجتْ بسقوط القيادتين المتصارعتين؛ وانسحابُ القوات السوفييتيّة المذلّ من أفغانستان عام 1989؛ والاضطراباتُ الشعبيّة في منغوليا التي قادت عام 1990 إلى تخلّي الحزب الشيوعيّ عن احتكار السلطة؛ وإخفاقُ الحليف الروسيّ في إنقاذ الجيش العراقيّ الذي غزا الكويتَ عامَ 1990 من كارثةٍ إنسانيّةٍ وعسكريّةٍ وسياسيّة، إذ تمّ تدميرُ الجيش العراقيّ المنسحب من الكويت عام 1991 على الرغم من توسّط غورباتشوف وبريماكوف في مفاوضات الانسحاب؛ وسقوطُ سلطة منغستو هيلا مريام في أثيوبيا في مايو1991 وصعودُ ملس زيناوي، الذي قاد تحوّلاً جذريّاً باتجاه التحالف مع الولايات المتحدة؛ واستيلاءُ قوات “تحالف الشمال” على كابول، ممهّدةً الطريقَ لانتصار طالبان، الذي أشّر على حدوث تغيير جدّيّ في معادلات التحالف التاريخيّ بين الإسلام العسكريّ والولايات المتحدة. وقد تعمّق هذا التغييرُ حينما قُرِن نجاحُ طالبان بنجاحٍ أعظم تاريخيّاً وأخطر اجتماعيّاً وسياسيّاً، ونعني به الانتصارَ السلميّ الديموقراطيّ للقوى الإسلاميّة في الجزائرعام 1991 في سابقةٍ مثيرةٍ قادت إلى كسر احتكار “جبهة التحرير” للسلطة، وإعلان فشل خط التطوّر الغامض والقلق الذي سارت به بعضُ المجتمعات العربيّة بعد الاستقلال، وما رافقه من امتزاج الدعوة القوميّة بالهيمنة العسكريّة. وكان إلغاءُ نتائج الانتخابات الجزائريّة من قبل العسكر، وبتأييدٍ علنيّ من فرنسا والولايات المتحدة، دعوةً مفتوحةً إلى بدء حربٍ جديدةٍ، سافرةٍ، تعتمد على مبدإ وحيد هو مبدأ الربح والخسارة، وفقًا للطريقة الاستعماريّة التقليديّة القائمة على الاستيلاء المباشر على مناطق النفوذ. حدث هذا بالتزامن مع نهاية الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة. وقد أثبت هذا التطورُ أنّ إيران لم تكن فريسةً سهلة، كما اعتقد الأميركانُ وحلفاؤهم. أما خروجُها من هذه الحرب غيرَ مهزومة، فقد كان إشارةً ذاتَ دلالةٍ قويّةٍ على أنّ زمنًا جديدًا من التحالفات في طريقه إلى الانبثاق.
المؤشران المبكّران، اللذان حدثا بطرقٍ مختلفةٍ جذريّاً، جاءا معًا من أقصى أطراف القوس التي تريد القوةُ الدوليّةُ المنتصرة تغييرَها: فمن يتأمّل النصرين السياسيين في الجزائر وأفغانستان يرَ أنّ الإسلام الدينيّ وضع جزءَ العالم المضطرب بين قوسين، وهو الجزء ذاته الذي أسمته القوةُ العظمى المنتصرة “الشرقَ الأوسطَ الجديد” واعتبرته الميدانَ الأساسَ لعمليّاتها التغييريّة الراهنة. وإذا ربطنا هاتين القوسين بالثبات الإيرانيّ نكون قد وصلنا إلى رسم صورةٍ تؤكّد أنّ قبضة مُحكمةً في طريقها الى إمساك الأرض المتحركّة.
وبهزيمة قوات تحالف الشمال انقلب تعبيرُ “المجاهدين” الأميركيّ إلى “إرهابيين،” وانقلب الإسلامُ من حليفٍ إلى عدوّ، وتبدّلتْ مواقعُ الحليف من “معنا” إلى “ضدّنا،” وغدا الصراعُ مع الآخر المغاير صراعًا بين “نحن” و”هم.” وتصاعدَ هذا الانقلابُ بالتزامن مع تصاعد هزيمة العدوّ التقليديّ، الشيوعيّ، وتعاظُمِ الثقة بالنفس لدى الجماعات الإسلاميّة، التي ظلت حتى وقتٍ قريبٍ تُعتبر مجردَ أداةٍ بيد لاعبين كبار. كلُّ تلك التغييرات أضحت إيذانًا بإعلان الانتصار النهائيّ على الشيوعيّة، وبموجبه تمّ تثبيتُ صورة العدوّ الجديد، الإسلام، وفق إيديولوجيا “صراع الحضارات” بديلاً مباشرًا لصراع النظم الاقتصاديّة ـ السياسيّة المختلفة الذي كان الشعارَ الإيديولوجيَّ لمرحلة الحرب الباردة.
وفي وقتٍ لاحق، وفي مناطق أكثر سخونة، غدا هذا المنحى حقيقةً مؤكّدةً: بانتصار حركة “حماس” وإنهائها السيطرة التقليديّة لحركة “فتح” في فلسطين سلميّاً وانتخابيّاً؛ وبتطوّر حركة المعارضة المسلّحة اللبنانيّة إلى حركةٍ اجتماعيّةٍ واسعةٍ أخذتْ تنحصر يومًا بعد يوم في قوًى ذات طبيعة إسلاميّة، حتى كاد خطابُ المقاومة يغدو شعارًا إسلاميّاً خالصًا، ويغدو اليساريُّ متلقّيًا أو متفرّجًا، وفي أحوال عديدة حليفًا للمحتلّ، كما في مثال العراق عقب سقوط النظام البعثيّ عام 2003. وفي هذا الجانب يكمن سرُّ تحالف الأميركان مع عدوّ تقليديّ ممثّلاً بالأحزاب الشيعيّة (والسنّيّة لاحقًا) في العراق؛ ففي هذه المرحلة لم يعد ممكنًا ويسيرًا البحثُ عن حلفاء خارج المشروع السياسيّ الإسلاميّ. وهذا يعني أنّ منطق تعميم الصراع أرغم المنتصرين أنفسَهم على إعادة تكييف خططهم السياسيّة، المؤقتة في أقلّ تقدير. وقد ظهر هذا جليّاً في تحالف الأميركان مع بعض أطراف حزب الدعوة والمجلس الأعلى في العراق.
3 – ورطة النصر: من صراع الطبقات إلى صراع الأديان
كانت اهتزازاتُ الأرض في حلقات النظام الاشتراكيّ محسوسةً، لكنها لم تكن مدرَكَةً تمامًا. بعضُ تلك الانهيارات جاء أسرعَ ممّا توقعه الأعداءُ، وبخاصّةٍ في الأجزاء الأكثر ارتباطًا بالخطّ السوفييتيّ كألمانيا وبلغاريا. لكنّ الإحساسَ باهتزاز الأرض دفع العديدَ من قادة أوروبا، من زعماء البدائل الرأسماليّة المختلفة، إلى الاستعداد لاستقبال عدوّ محتمل والتدرّب على سُبل تلقّي عواقب الهزّات السياسية وعواقب تفجير الصراعات العرقيّة والقوميّة والدينيّة: كتحريك الأتراك البلغار (في صراعٍ ضدّ الشيوعيّة على قاعدةٍ عرقيّةٍ استُخدم فيه الدينُ هويّةً)، أو تمرّد المسلمين اليوغسلاف، ومسلمي آسيا الوسطى والقوقاز، والمسلمين القبارصة. في هذه الحقبة قام العديدُ من قادة الكتل السياسيّة الأوروبيّة بأدوارٍ بارزةٍ في تأجيج الصراعات العرقيّة والدينيّة، كالدور الكبير الذي لعبه رئيسُ حزب اليمين السويديّ كارل بلد، الذي تولّى في فترة رئاسته للحكومة مهمّةَ نقل الآلاف من العالقين في كمّاشة التصعيد العرقيّ الدينيّ في بلغاريا وكوسوفو والبوسنة، بصحبة أعدادٍ من الناشطين والدعاة السياسيين والمقاتلين السريين، إلى السويد. وأظهرت الأحداثُ اللاحقة أنّ “بلد” أخذ بالتحوّل السريع ـ بالتزامن مع تغيّر هويّة العداء من شيوعيّ الى إسلاميّ ـ من زعيم سياسيّ محليّ لبلدٍ صغيرٍ مسالمٍ كالسويد إلى وسيطٍ دوليّ ذي حيادٍ خادع يتولّى ملفَّ البلقان. وفي غزو العراق ظهر اسمُه مجدّدًا ضمن فريق الخبراء الذين رسموا آفاقَ الاحتلال. وظهر اسمُه ثالثةً في عقود النفط، ورابعةً في أحداث دارفور، وخامسةً في مؤتمر ستوكهولم عام 2008 راعيًا لإعادة إعمار ما خرّبته آلةُ الغزو الأميركيّ للعراق. إنّ السياسة، بما في ذلك الليبراليّة الأوروبيّة، ليست بريئةً كما يعتقد الناس الطيّبون!
من هذا العرض نرى أنّ الحروب العرقيّة، والصراعَ ضدّ العدوّ السابق في ثوبه السياسيّ والعسكريّ، ومشكلةَ الهجرة، اختلطتْ جميعُها بالموقف من الإسلام ـ حليفًا، ثم عدوّاً. وربما يجد الدارسون في شخص زلماي خليل زاد صورةً عيانيّةً لهذا الاختلاط العجيب: فزلماي الأفغانيّ عمل مخْبرًا، ثم ناشطًا في مجال العلاقة بين الأميركان “والمجاهدين” الأفغان، فسفيرًا للولايات المتحدة عند قيام الحكومة الأفغانيّة المنصّبة أميركيّاً، وعاد مؤخّرًا إلى لبس الثوب الوطنيّ فرشّح نفسَه رئيسًا لوطنه السابق الذي كان سفيرًا فيه من قِبل الدولة الأجنبيّة التي تحتلّه. وآثر زلماي أن ينقل تجربتَه هذه بحذافيرها إلى العراق، لكي يستطيع إعادةَ إنتاج مشهد النصر مكرَّرًا بصورة خلاّقة. في هذه الحزمة المتشابكة من التناقضات، أضحى من المحتّم على الولايات المتحدة (يشاركها بنسبٍ متفاوتةٍ حلفاؤها الأوروبيّون) أن تعجّل في إعادة تأسيس خطابها الإيديولوجيّ؛ فظهر الإسلامُ مجدّدًا، ولكنْ ليس كعدوٍّ إيديولوجيّ فحسب، وإنما أيضًا كعدوٍّ ميدانيٍّ يجول في العالم مثل شبح. وتمّ ضخُّ شحناتٍ هائلةٍ من مشاعر العداء الحقيقيّ والمفتعل ضدّ الإسلام من أجل تمهيد الأرض نفسيّاً واجتماعيّاً لتقبّل نتائج سياسة “الحرب العالميّة على الإرهاب،” فنشأتْ ظاهرةُ “فوبيا الإسلام.”. ولم تكن أحداثُ 11 سبتمبر سوى عرضٍ مسرحيٍّ مباشرٍ بالذخيرة الحيّة لعمليّة تعميم الخوف في أوروبا. لكنّ هذا الخوف الذي أريدَ له صناعة مناخٍ نفسيّ وثقافيّ مساندٍ للحرب، التي وقفتْ أغلبُ شعوب أوروبا ضدّها، نجح في زرع عدم الثقة بين البشر، ودفع المُهاجرين إلى البحث عن ملاذاتٍ من ظاهرة الخوف من الإسلام باللجوء إلى الإسلام نفسه (وإحيانًا إلى أكثر مظاهره تزمّتًا وتخلّفًا لأنها الأيسرُ منالاً والأكثرُ أمانًا). إنّ التحوّل السياسيّ ـ الإيديولوجيّ الأميركيّ ولّد عواقبَ ثقافيّةً عالميّةً عظيمةَ الخطورة، لا تشْبهها في تاريخ البشريّة السابق سوى نتائج الخطاب التعبويّ العسكريّ الدينيّ للبابا أوربان الثاني، مشرِّعِ الحروب الصليبيّة.
باختفاء الشيوعيّة واندفاع أميركا في عمليّات ابتلاع العالم القديم، اكتشف الأميركانُ بأنفسهم أنّ قواهم الذاتيّة، كلاعبٍ وحيد، لا تلائم حجمَ المهمّات الواسعة المعروضة أمامهم. فأعادوا ترتيبَ الأدوار الدوليّة على عجل، بإرجاع اليابان وألمانيا إلى الحظيرة السياسيّة العسكريّة الدوليّة وإشراكِهما في غزو العراق، وجذبِ دولٍ صُنّفتْ طويلاً على أنها دولٌ محايدة كالدانمارك والسويد إلى جبهة الحرب، وتنشيطِ عمليّة إعادة تأهيل إسرائيل إقليميّاً. وقد رافقتْ ذلك كله إعادةُ صياغةٍ جذريّة لثقافة الحرب وأخلاقها على قاعدةٍ جديدةٍ قوامُها: استئصالُ العدوّ أو إعادتُه إلى العصر الحجريّ، وتشريعُ القتل على الشبهات أو عند الإحساس بالضيق والارتياب، وحقُّ ممارسة التعذيب وإقامةِ السجون الخاصّة والسجونِ السريّة الدوليّة، وحقّ تدمير المدن وأخذ الرهائن وتجريف الأراضي، وطمأنة المحاربين بوجود حصاناتٍ تكفل لهم ممارسة تلك الحقوق قانونيّا. كما جرت إعادةُ ترتيبٍ شاملة لبنية العمليّات العسكريّة، من طريق إشراك أكثر من طرفٍ في حروب التقاسم الجديدة، كما في مثال الحرب على العراق وأفغانستان. وجرت أيضًا إعادة تغيير هيكلة القوات الأميركيّة ذاتها، التي لم تعد قادرةً على تحمّل العمل في جبهاتٍ عديدةٍ واسعة، باستئجار فرق المرتزقة الدوليين أو المتعاقدين، وباستئجار دولٍ محاربة (إثيوبيا ضدّ الصومال، وتشاد ضدّ السودان)، أو جماعات محليّة محاربة (“الصحوات” في العراق).
إنّ تغييرًا عميقًا يشهده عصرُنا، لم يكن سببَه انهيارُ المنظومة الاشتراكيّة، بل عدمُ مقدرة البديل على إدارة العالم بقواه الذاتيّة. وهذا الخلل في البنية الداخليّة للمنتصر الدوليّ هو مصدرُ الاضطراب في السياسة الأميركيّة الراهنة، التي لم تعد قادرةً على التوفيق بين الخطط المباشرة والأهداف البعيدة المدى. فانفكاكُ التحالف مع الخطاب الإسلاميّ، وتحوّلُ الإسلام إلى هدفٍ إعلاميّ شامل، ظهرا في هيئة “محاربة الإرهاب” كشعار، وفي هيئة “تحالفٍ دوليّ ضد الإرهاب” كمنظومة عملٍ لم ترقَ إلى مستوى الحلف بعدُ لأنّ أغلب أطرافها (الأوروبيّة خاصّةً) لم تزل تساير المنتصرَ القويَّ خوفًا وترقّبًا أكثر منه اقتناعًا. وهذا السبب كان أحدَ عوامل النفخ في تفجيرات 11 سبتمبر وجعلها قضيّة كونيّةً تربط أطرافَ العالم؛ وهو رابطٌ مضخّمٌ تدرك الدولُ الأوروبيّة ضعفَ مبرِّراته.
لقد وقفتْ قياداتُ الشيوعيين العراقيين، والمثقفون المرتبطون بها، أمام هذا التغيير الكبير موقفًا شديدَ الارتباك، يعكس هشاشة التكوين التاريخيّ لثلاثة أجيالٍ من القيادات السياسيّة التي نشأتْ في ظلّ الهيمنة العرقيّة على كيان الحزب، وفي ظلّ الاغتراب السياسيّ الطويل، والعبادةِ الشكليّةِ للطوطم السوفييتيّ، والتربية الخاطئة التي تستمدّ مثالَها من جهازٍ حكوميٍّ شموليٍّ متخلّفٍ قائمٍ على العوز والتسلّط، لا من الواقع أو المثال الثوريّ. ولقد كان سقوط الديكتاتوريّة البعثيّة مقرونًا بالاحتلال فرصةً نادرة أمام اليسار العراقيّ لكي يعيد تنظيمَ جدول أعماله على قاعدةٍ جديدةٍ وفريدة، قوامُها الإفادةُ من غياب سلطة الديكتاتوريّة لخلق أوسع جبهةٍ ديموقراطيّة، وللوقوف ضدّ الاحتلال بالمشروع الوطنيّ، وضدّ الطائفيّة بالمشروع التقدميّ، وضدّ العرقيّة بالوحدة العراقيّة، وضدّ الحرب والعنف الارهابيّ بمشروع النضال المطلبيّ والسياسيّ والفكريّ. بيْد أنّ ذلك كلّه لم يحْدثْ، وذهبت القياداتُ الشيوعيّة ومثقفوها إلى التفتيش عن الحلول في مكاتب المحتلّين والقوى العرقيّة والطائفيّة.
إنّ ما يحدث في العراق درسٌ فريدٌ، لكنّ الخطر يكمن في أنّ كثيرين يعتقدون أنّه شأن عراقيّ خالص. حقّاً، إنّ النموذج العراقي خاصٌّ حسيًّا، لكنّه قد يغدو مثالاً للتطبيق إنْ توطّدتْ أقدامُ القوى الراعية لهذا النموذج، وحينذاك سينفجر السؤالُ الذي واجه العراقيين عشيّةَ الغزو الأميركيّ، ولكنْ بسبل أكثر التواءً ومكرًا. حينذاك سنعْرف كيف تتمّ مواجهةُ الموقف، وما إذا كانت أزمةُ القيادة اليساريّة العراقيّة وأمراضُ اليسار العراقيّ خاصّةً أمْ قابلةً للتكرار وتسري ـ بقدرٍ ما ـ على اليسار العربيّ عمومًا، وما إذا كان الواقعُ العراقيّ لا يُنتج عواملَ مشابهةً في بلدان عربيّةٍ ترتبط مع العراق بمشتركاتٍ كثيرةٍ تؤثّر في إنتاج الفكر والممارسة (أليس غيابُ الاشتراكيّة الديموقراطيّة صفةً مشتركةً عربيّا؟).
لقد أنتج الواقعُ العربيّ، ببنيته الراهنة، لونين أساسيين من الاشتراكيّة: الاشتراكيّة الماركسيّة، التي هي صورةٌ طبق الأصل من الاشتراكيّة البلشفيّة وتفريعاتها؛ والاشتراكيّة القوميّة، التي هي في أحوالٍ كثيرةٍ صيغةٌ محوّرةٌ من صيغ الاشتراكيّات الوطنيّة، ببعديْها العرقيّ والشموليّ. ولم يتح ضعفُ تطوّر البنى الاجتماعيّة ولادةَ تيّارٍ قويّ يعادل تيّارَ الاشتراكيّة الدوليّة الذي كان ولم يزل عنصرَ جدلٍ فاعلٍ أسهم في قيادة الكثير من المجتمعات الأوروبيّة، وفي “تهذيب” حركة التيّاريْن السابقيْن، وأوجد مساحةً للاحتكاك والاصطفاف والتجديد في الجبهتين السابقتين المتناحرتين. أفلم يكن غيابُ تيّارٍ يعادل “الاشتراكيّة الدوليّة” وزنًا ومضمونًا عاملاً من عوامل التطرّف في التخلّي عن الثوابت لدى القيادات الشيوعيّة العراقيّة، وفي اضطرار الشيوعيين العراقيين الى التحالف مع قوى مغايرةٍ تمامًا لمبادئهم المعلنة؟ أليس هذا السبب عاملاً من عوامل الانقلاب الشديد في نفسيّة الفرد الحزبيّ وفكره عند الهزّات والانقلابات السياسيّة العميقة أو عند سقوط مثاله السياسيّ؟ أليس عاملاً موضوعيّا من عوامل تضييق الاتجاه نحو الحل اليساريّ، كإطارٍ وطنيّ تقدميّ يقوم على أنقاض النموذج الشيوعيّ السابق أو بالتوازي معه؟ هذه الأسئلة وغيرُها تواجه الجميع، وما تجربة العراق سوى تمرينٍ خاصّ وحسيّ ونموذجيّ على سبل التغيير… إلى الأسوإ أو الأفضل.
إنّ المنتصر يعاني أكثر من غيره ورطةَ النصر. وهي ورطة عالميّة توجب على الجميع مسؤوليّة تحمّل عبء نتائجها اليوميّة، والبحث عن حلولٍ مشتركةٍ للخروج من كمّاشتها القاتلة. وفي هذا الموضع تبرز أهميّة وجود تيّاراتٍ فكريّةٍ وسياسيّةٍ واجتماعيّةٍ تجيد قراءةَ الواقع المتغيّر، ووضعَ الحلول الجذريّة لأزماته الرئيسة.
السويد
*كاتب من العراق يقيم في السويد. صدرتْ له ستُّ روايات (سماء من حجر، أمير الأقحوان، الإله الأعور، ذبابة القيامة، يمامة، زهرة الرازقيّ)؛ فضلاً عن: نشوء وتطوّر القصة القصيرة في اليمن ( تاريخ أدبيّ)، خطوات على البحر الميّت (سيناريو سينمائيّ)، جريمة من أجل التلاؤم (بحث اجتماعيّ)، ضباب أفريقيّ (قصص قصيرة)، العودة الى آل ازيرج (قصص قصيرة)، ثقافة العنف في العراق (بحث أخلاقيّ)، من يصنع الديكتاتور (بحث اجتماعيّ).
1. 1. العدد 2308، 18/5/2007 (“تأمّلات”).
2. 2. في العدد 2889 من موقع الحوار المتمدّن، “اليساريّ العلمانيّ،” حاز مقال “فتوى توسيع الدبر” على 131 تقييمًا و38 تعليقًا حماسيّاً، وحظي مقال “سورة الفيل” على عشرين تعليقًا و68 تقييمًا، أما مقال “شيوعيون بلا شيوعيّة” فقد علّق عليه سبعة وقيّمه 24 شخصًا، ومقال “فلسفة التنوير وسبينوزا” علـّق عليه شخصان وقيّمه تسعة. وهذه الأرقام تعكس طبيعة الانهمام العقليّ والسلوكيّ الذي يشغل القاعدة المتعلّمة، التي تسمّى علمانيّة ويساريّة.
مجلة الآداب » ٤-٥/ ٢٠١٠

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى