ما أصيبت به الحركة القومية أصيب به الإخوان المسلمون
صالح القلاب
أظهرت أزمة الإخوان المسلمين الأردنيين المتفاقمة، والتي وضعتهم على مفترق طرق حقيقي وعرَّضت وحدتهم التنظيمية السياسية ولأول مرة منذ إنشائها لخطر الانهيار الفعلي، حيث إن هذه «الجماعة» التي أسسها حسن البنا في مصر وأصبحت تنظيماً عالمياً باتت تعيش بعد أن تقدم بها العمر مأزقاً حقيقياً ما يزيده تفاقماً أنها أصيبت بما كانت أصيبت به الحركة القومية وهو «المكابرة» وعدم الاعتراف بالأخطاء ورفض الاحتكام إلى المراجعة وإعادة النظر بالمنطلقات والشعارات في ضوء متطلبات الواقع المستجد بعد كل هذه الأعوام الطـويلة.
ربما أن «الإخوان المسلمين» يرفضون هذا، لكن الحقيقة أنهم مثلهم مثل بعض أحزاب وحركات القرن العشرين القومية أحد إفرازات الحرب الباردة والصراع الذي احتدم واتخذ أشكالا متعددة بين المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة وقبل ذلك بقيادة بريطانيا العظمى وبين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي وأنهم على هذا الأساس لعبوا أدواراً رئيسية في مواجهة ما أسموه المد الشيوعي الإلحادي وأيضاً في مواجهة الحركة التحررية العربية التي نتيجة هذا الصراع الكوني بين المعسكرين الآنفي الذكر قد اتخذت الطابع اليساري واصطبغت بالصبغة «التقدمية» ذات الملامح الماركسية ـ اللينينية.
ولعل ما هو غير معروف أن «إخوان» مصر الذين بحكم أنهم التنظيم الأم أو التنظيم الأب قد سيطروا على التنظيم الدولي لهذه «الجماعة» الأممية قد أُعطوا في إطار مواجهة لمد الشيوعي ليس في الشرق الأوسط فقط وإنما في العالم كله مكتباً رئيسياً بإشراف وإدارة أحد أكبر قادتهم في الخارجية البريطانية في لندن وهذا معروف ومؤكد ولا يمكن إنكاره والشاهد هو الوثائق التي يحتفظ بها البريطانيون عن تلك المرحلة التي احتدم فيها صراع المعسكرات حتى وصل إلى إشعال الكثير من الحروب الإقليمية.
وبالطبع ومقابل انحياز الإخوان المسلمين إلى المعسكر الغربي واصطفافهم ضد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والحركة القومية والعربية التي شكل حزب البعث العربي الاشتراكي أهم قواها الفاعلة فإن هذه الحركة «القومية» قد انحازت بالنتيجة بعد طول تردد ومراوحة إلى المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي وأصبحت وإن في وقت متأخر تعتبر موسكو قبلتها السياسية واتخذت موقفاً عدائياً من كل الدول العربية المحافظة والمعتدلة بحجة أنها دول «رجعية» وأنها تابعة للغرب الـ«الإمبريالي» والولايات المتحدة الأميركية. كانت تلك المرحلة مرحلة الانحيازات العقائدية ومرحلة الشعارات الصاخبة وهذا أدَّى إلى غياب البرامج الواقعية والعقلانية غيابا كاملا حتى في الدول التي حكمتها بعض أحزاب حركة التحرر العربية مثل سوريا والعراق وما كان يسمى «اليمن الجنوبي» وهنا فإن الشيء ذاته قد انطبق وبالمقدار نفسه على الإخوان المسلمين وفي كل الدول التي تتواجد فيها هذه «الجماعة» التي كانت آخر معاركها أنها تحالفت مع الولايات المتحدة ومع الغرب الرأسمالي في سنوات سبعينات وثمانينات القرن الماضي وساهمت باسم الجهاد ضد الإلحاد والشيوعية في تلك الحرب التي انتهت في بدايات عقد تسعينات هذا القرن بخروج الجيوش السوفياتية من أفغانستان التي كانت غزتها في عام 1979 والتي من خلال ذلك «الجهاد» زرعت في تلك البلاد بذور حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة».
لم تتحلَّ حركة التحرر العربية ذات الطابع اليساري بجناحيها الرئيسيين حزب البعث والجناح الناصري، ومن يدور في فلكه كحركة القوميين العرب، بالشجاعة المفترضة وتلجأ، بعد هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967، التي أظهرت كم أنها كانت هشة وضعيفة وأن الأنظمة التي أقامتها كانت مجوفة من دواخلها وغير جديرة بقيادة هذه الأمة، إلى مراجعة صارمة لمسيرتها وشعاراتها وممارساتها وإلى نقدٍ حقيقي يضعها على بداية طريق جديد غير الطريق السابق فكانت النتيجة المزيد من التمزق والمزيد من الانهيار.
وهكذا ولأنه لم تكن هناك المراجعة المطلوبة للمسيرة والممارسة ولطبيعة القيادة، ولأنه لم تكن هناك وقفة شجاعة مع الذات فإن بقايا ما تبقى من هذه الحركة القومية التي وصلت إلى الحكم في عدد من الأقطار العربية من بينها مصر الناصرية بالطبع وسوريا والعراق وليبيا التي أصبحت «جماهير اشتراكية عظمى» واليمن الجنوبي قد أصيبت بالارتباك وفقدان «البوصلة» والدليل على أن ليبيا بعد تجارب وحدوية فاشلة قد اختارت «الفضاء» الإفريقي وان سوريا قد ابتعدت عن العرب والعروبة وتحالفت مع إيران الخمينية حلفاً إستراتيجياً وأن القبائل الماركسية في عدن بعد تقاتل داخلي وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم تجد ما تهرب إليه من نفسها سوى حلِّ دولتها والالتحاق بالجمهورية الشمالية التي كانت بحجة أنها «رجعية» قد خاضت معها سلسلة حروب ظالمة ومدمرة.
أما بالنسبة للعراق فقد حصل فيه كل هذا الذي حصل، وذلك بعد تجربة أشد مرارة من تجربة الأمين العام الدكتور منيف الرزاز الدمشقية حيث بقيت التصفيات الداخلية تتلاحق وبقيت المغامرات الخارجية تتتابع إلى أن جاءت النتيجة في هيئة هذا الاحتلال الأميركي الجاثم على صدور العراقيين وفي هيئة هذا التدخل الإيراني السافر فعلا في شؤون هذا البلد العربي وعلى كافة الأصعدة.
الآن يحصل مع حركة الإسلام السياسي وتحديداً مع «الإخوان المسلمين» الذين بقوا حائرين بين هل هم حزب سياسي يسعى إلى الوصول إلى الحكم من خلال العنف والانقلابات العسكرية مثله مثل غيره أم هم «جماعة» دعوية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالإقناع والوسائل السلمية إلى أن بدأ المرض الذي أصاب حركة التحرر العربية وقضى عليها يتسرب في أوصالهم وبقوا هم بدورهم يتمسكون بشعاراتهم ومنطلقاتهم القديمة التي هي مثلها مثل شعارات ومنطلقات الحركة القومية إنتاج مرحلة سابقة من المفترض أنها انتهت مع انتهاء ظاهرة حرب المعسكرات والحرب الباردة في بدايات تسعينات القرن الماضي.
رفع «الإخوان المسلمون» في زمن مؤسس جماعتهم حسن البنا شعار «الإسلام هو الحل» تحديّاً للشعارات التي رفعتها قوى وأحزاب وتيارات الحركة القومية العربية وأهمها شعار: «وحدة ـ حرية ـ اشتراكية» وكان المفترض أن يراجع «الإخوان» هذا الشعار، الذي لا اختلاف عليه كشعار، لكن عليه أكثر من ألف اختلاف لجهة التطبيق على أرض الواقع، بمجرد انتهاء الحرب الباردة وانتهاء صراع المعسكرات حيث بدأت مع بدايات تسعينات القرن الماضي مرحلة جديدة تقتضي مواجهة تحدياتها إطلاق شعارات جديدة وتبني منطلقات غير المنطلقات السابقة ووضع برامج واقعية تتعامل مع تحديات هذه المرحلة المستجدة وأهمها التحديات الاقتصادي ة.
لم يفعل الإخوان المسلمون هذا، ولذلك فإنهم وجدوا أنفسهم بمجرد رحيل الجيوش السوفياتية من أفغانستان في مواجهة مع حلفاء الأمس وفي مقدمة هؤلاء الحلفاء الولايات المتحدة الأميركية ووجدوا أنفسهم في خنادق العداء للدول العربية التي احتضنتهم ودافعت عنهم خلال مراحل ما تعرضوا له من محنٍ في بعض الدول التي من مهازل تجارب التاريخ أنهم يتحالفون مع بعضها حالياً ضد الدول التي كانت آوتهم وأحسنت إليهم وفي مقدمتها الأردن والمملكة العربية السعودية. حتى الآن ورغم كل هذه المتغيرات ورغم أنهم أنجبوا في حقيقة الأمر هذه الظاهرة الإرهابية التي تجتاح الوطن العربي والعالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه فإن الإخوان المسلمين يواصلون الإصرار على التمسك بـ«قديمهم» ويواصلون الاختباء وراء شعار: «الإسلام هو الحل» ويرفضون الاعتراف بأنهم ذاهبون إلى ما انتهت إليه أحزاب وقوى وتيارات الحركة القومية العربية ذات الملامح اليسارية والطابع الماركسي ـ اللينيني التي لم تتحلَ بشجاعة المراجعة النقدية الصارمة للتجربة والمنطلقات والمسيرة فكان مصيرها هذا المصير المزري والبائس.
في النهاية وفي ضوء هذا كله فإنه لابد من التأكيد أن أزمة «إخوان «الأردن»، الذين يُتركون لجراحهم النازفة بدون أي تدخل من إخوانهم في مصر وفي التنظيم الدولي، ليست أزمة خاصة تقتصر عليهم وحدهم.. إنها في حقيقة الأمر أزمة هذه «الجماعة» كلها في كل الأقطار والدول التي تتواجد فيها وأنها أيضاً حركة «حماس» التي باسم الجهاد ترفض رفع يدها عن «الجماعة» الأردنية.
الشرق الاوسط