المثقفون والعولمة: نموذج سمير أمين
الســـيد يســــين
اهتممت بتأصيل ظاهرة العولمة منذ بداية التسعينات، حين كان الجدل حولها في بداياته. واندفع عدد من المثقفين العرب لاتخاذ موقف قاطع منها، سواء بالرفض المطلق، أو بالقبول غير المشروط.
وفي سلسلة من الدراسات المترابطة التي نشرت في كتب متعددة لي، رفعت شعاراً حاولت من طريقه وقف هذا الاندفاع في التعامل مع العولمة سلباً أو إيجاباً، مؤداه: “الفهم قبل التقويم”! بعبارة أخرى علينا أن نتعقب أولاً الجذور التاريخية للعولمة، ونفهم طبيعتها ونكشف القوانين الحاكمة لها، قبل إصدار أي أحكام تقويمية.
وفي هذا الإطار عنيت بمتابعة الخلاف بين عدد المؤرخين والباحثين حول سؤال أساسي، هو هل العولمة قديمة وكانت لها تجليات تاريخية محسوسة، أم هي ظاهرة جديدة، ساعدت الثورة الاتصالية الكبرى وفي قلبها شبكة الإنترنت على انتشارها؟
كان هناك رأي ذهب الى ان العولمة يمكن ردها إلى الإمبراطورية الرومانية، وامتدت إلى منتصف القرن التاسع عشر الذي شهد فتوحات كبرى في مجال الاتصالات، حيث تم اختراع اللاسلكي والتلغراف والطائرة، مما ساعد على الاتصال الوثيق بين مراكز العالم المتعددة.
إلا أن رأياً مضاداً ذهب إلى أن العولمة ظاهرة جديدة، ساعد على تشكيلها اتساع السوق الرأسمالية، وزيادة ظاهرة الاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول المختلفة، ونشوء اتحادات اقتصادية إقليمية متعددة، مثل “الاتحاد الأوروبي” في أوروبا و”النافتا” في أميركا الشمالية و”الآسيان” في آسيا، بالإضافة إلى التأثير العميق للثورة الاتصالية الكبرى. وقد أثيرت أسئلة شتى حول مواقف المثقفين العرب من العولمة، أو بعبارة أخرى ظاهرة الاستقبال العربي للعولمة، بكل ما تتضمنه من مواقف مؤيدة ومعارضة. وقد تعرض لهذا الموضوع بشكل شامل الدكتور محمد حافظ دياب في كتابه المهم “تعريب العولمة”، الذي صدر منذ وقت قريب عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية”، والذي حاول فيه التمييز بين مواقف المثقفين العرب اليساريين والليبراليين الجدد والقوميين، وبغض النظر عن تفضيلات مواقف هؤلاء جميعاً، فقد اهتممت على وجه الخصوص بفقرة اقتبسها من الاقتصادي المصري العالمي المعروف سمير أمين من كتاب له صدر بالفرنسية (دار لارماتان عام 1993) بعنوان “العولمة والتراكم”.
وأهمية هذه الفقرة أن سمير أمين طرح بألمعية فكرية عميقة الإشكاليات الكبرى التي تثيرها العولمة في شكل أسئلة متتابعة مترابطة (راجع صفحة 163 من كتاب تعريب العولمة). السؤال الأول هو: كيف تُعرّف العولمة والاستقطاب الملازم لها؟ بالسوق العالمية أم بشمولية التكنولوجيا، أم بالتقدم من طريق بناء نظام إنتاجي عالمي؟ والواقع أن طرح هذا السؤال يمس ظاهرة العولمة باعتبارها عملية تاريخية في الصميم. وليس هناك شك – كما أكدنا في صدر المقال – في أن العولمة حين تعرف لابد من التركيز على اتساع السوق العالمية، لأن الهدف الاستراتيجي للعولمة هو دمج الأسواق القومية في سوق عالمية واحدة تمثل فضاء اقتصادياً بالغ الاتساع، بحيث لا تحول الحواجز اللغوية أو الجغرافية دون التبادل الاقتصادي، الذي يتم – بتأثير ثورة الاتصالات – في زمن يقاس بـ”الفيمتوثانية”، إذا استخدمنا مصطلحات العالم المصري أحمد زويل، الذي حصل على جائزة نوبل لاكتشافه هذه الوحدة الزمنية لأول مرة في التاريخ.
سوق عالمية نعم، ولكن أهم من ذلك أنه تحكمها عقيدة اقتصادية متطرفة هي الليبرالية الجديدة ترمي إلى كف يد الدولة نهائياً عن التدخل في الاقتصاد، وخصخصة المشاريع العامة، وإطلاق حرية السوق إلى ما لا نهاية.
ومما لاشك فيه أن العولمة قد نجحت نجاحاً فائقاً في خلق هذه السوق العالمية، التي يتم التبادل فيها وفق معاهدة “منظمة التجارة العالمية”، التي أنشئت عقب مباحثات “الغات” لكي تحرس مبدأ حرية التجارة، ومن أجل أن تعلي المصلحة الاقتصادية للدول المتقدمة على حساب الدول النامية التي تكافح من أجل تعديل النصوص المجحفة التي وردت في المعاهدة، وأضرت ضرراً بليغاً بدول الجنوب.
ولكن نجاح العولمة في خلق هذه السوق الكونية حمل في طياته الفشل الذريع، الذي أثبتته الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، التي وقعت في الولايات المتحدة الأميركية، وطاولت آثارها السلبية – بحكم تأثير العولمة – اقتصادات العالم جميعاً.
ولم يحدث السقوط إلا بفضل آليات العولمة الاقتصادية المستحدثة، وأهمها على الإطلاق خلق سوق اقتصادية افتراضية Virtual، تقوم على المضاربات ومنح القروض بلا حدود، مما أدى إلى السقوط المدوي للشركات والمصارف الكبرى، وهذا أدى بالدولة الأميركية إلى ضخ مليارات الدولارات لإنقاذها، بل إن بعض الدول مثل بريطانيا أممت بعض المصارف، في مخالفة صارخة لمبادئ الاقتصاد الحر. وهكذا يمكن القول أن السوق العالمية إحد المظاهر الأساسية لظاهرة العولمة.
ويبدو التساؤل عن شمولية التكنولوجيا وهل يمكن تعريف العولمة على أساسها، تساؤلاً في موضعه تماماً. وذلك ان إحدى علامات التطور الحاسمة التي حدثت في أواخر القرن العشرين، قيام الثورة العلمية والتكنولوجية.
وقد رسمت الملامح الأساسية لهذه الثورة في سلسلة مقالات متكاملة نشرتها في مجلة “الكاتب” المصرية في ثلاثة اشهر متتابعة هي آب وايلول وتشرين الاول عام 1969، عقب عودتي من بعثتي العلمية إلى فرنسا (1964 – 1967)، والتي أتيح لي فيها أن أتعمق في دراسة تحولات النظام العالمي.
وكان عنوان الدراسة “الإيديولوجية والتكنولوجيا”، وقد اهتممنا فيها برسم ملامح الثورة التكنولوجية والتي أجملناها في ثمانية مترابطة، هي:
1 – أنها تعتمد على العلم الحديث الذي أصبح ثورة إنتاجية مباشرة.
2 – إنها تعطي الأولوية لوسائل الإنتاج الممكنة تماما وتلك التي تدور ذاتياً.
3 – تساهم هذه الثورة في اكتشاف مصادر جديدة للطاقة.
4 – تشترك في عمليات العثور على مواد جديدة.
5 – تتغير الصناعة والاقتصاد تغيرات كيفية، وتنشأ فروع جديدة وتزول من الوجود فروع أخرى، ويحدث تداخل بين الفروع المختلفة.
6 – تنظيم إدارة الإنتاج الصناعي على هدي أسس جديدة.
7 – يتطور العلم والتكنيك بمعدلات قياسية.
8 – يتغير دور الإنسان – بحسبانه القوة الإنتاجية الرئيسية – تغيراً كيفياً.
كانت هذه الملامح الرئيسة التي رسمناها للثورة التكنولوجية عام 1969، وكأننا كنا نبشر بقدوم عصر العولمة في جوانبها التكنولوجية، التي أصبحت هي أسلوب العصر لبناء نظام إنتاجي عالمي. ويطرح سمير أمين سؤالاً أساسياً آخر، هل تتم العولمة بالسياسة أم بالثقافة؟
والواقع أن الانطلاق من مفهوم متكامل للعولمة، يغنينا عن المفاضلة بين السياسة والثقافة!
لقد قدمنا من قبل في دراساتنا وكتبنا مفهوماً متكاملاً للعولمة، حين قررنا أن لها تجليات سياسية، تتمثل في الديموقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان، وتجليات اقتصادية تتمثل في معاهدة منظمة التجارة العالمية التي أقيمت لحراسة مبدأ حرية التجارة في إطار سوق عالمية مفتوحة لا تحدها أي قيود، وتجليات ثقافية تتمثل في السعي لصوغ ثقافة كونية تروَّج أساساً لثقافة الاستهلاك الوفير، وأخيراً تجليات اتصالية بحكم أن العالم كله أصبح متصلاً Connected بعضه ببعضه الآخر.
أما السؤال عن العولمة وهل تنتج استقراراً أم أنها تزيد من تخلخل الأنظمة، فالرد باليقين أنها كانت أشبه بالانقلاب الشامل الذي أثر على تماسك المجتمعات. ذلك أن الفروق الضخمة بين المجتمعات المتقدمة التي تحتكر المعلومات وتنتج المعرفة وتحتكرها في كثير من الأحيان، والمجتمعات النامية أدت في الواقع إلى طبقية فاضحة على المستوى العالمي. فقد نعمت الدول المتقدمة بثمار العولمة اعتماداً على تاريخ قديم من النهب الاستعماري لدول الجنوب، وسيطرة كاملة بعد الحرب العالمية الثانية على المؤسسات الدولية وأبرزها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهذه المؤسسات هيمنت على مسارات التنمية في دول الجنوب، من خلال المساعدات الاقتصادية والقروض.
وقد أدى مذهب الليبرالية الجديدة الذي حاولت العولمة الرأسمالية فرضه على دول الجنوب، إلى استقطاب طبقي حاد داخل المجتمعات، بحيث تمتعت شرائح طبقية ضيقة بثمار النمو الاقتصادي، في حين أن الغالبية من الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة هبطت إلى مستوى متدنِ من الفقر.
وقد أدى هذا الوضع إلى عدم الاستقرار السياسي في عديد من دول الجنوب، والذي عبر عنه العديد من الظواهر السلبية كالانقلابات والحروب الأهلية، وفي الحالات الأقل خطورة نجد ظواهر الركود السياسي والاستبداد والعجز الديموقراطي.
وليس معنى ذلك أنه ليس للعولمة آثار إيجابية، فمما لا شك فيه أن فتح باب المنافسة العالمية دعا العديد من دول الجنوب إلى رفع مستوى تدريب القوى البشرية. أنظر على سبيل المثال إلى ماليزيا والصين، حيث تم التركيز على التعليم والبحث العلمي والتدريب، مما قاد هذه البلاد من بعد إلى طفرة كبرى في معدلات النمو ففاقت العديد من الدول المتقدمة ذاتها.
ويطرح سمير أمين من زاوية أخرى تماماً سؤالاً هو، هل نعيش مرحلة أزمة مهمة في الرأسمالية والاشتراكية معاً، وكيف تؤثر أزمة كل منهما في الأخرى؟
طرح هذا السؤال عام 1993 وهو تقريباً العام الذي سقط فيه الاتحاد السوفياتي! ومعنى ذلك أن الاشتراكية لم تكن في أزمة بل إنها تدهورت كإيديولوجية سياسية فقدت مكانتها بحكم سقوط الاتحاد السوفياتي، وهو الدولة الرمز التي كانت في لحظة تاريخية ما المؤشر على عظمة الاشتراكية!
أما الرأسمالية العولمية في مرحلة انطلاقها الأولى فلم تكن في أزمة، بل إن الحديث الذي ساد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، هو أنها نجحت نجاحاً ساحقاً بعد انهيار خصمها اللدود.
غير أن المشكلة الكامنة في صميم النموذج الرأسمالي نفسه، وهي الفجوة بين عمومية عملية الإنتاج وفردية الاستحواذ على الفائض، أدت – بعد نجاح الرأسمالية مرات عدة في تجديد نفسها – إلى السقوط بعد الأزمة المالية العالمية، والتي هي في الواقع كما أكدنا أكثر من مرة أزمة اقتصادية، لأنه ثبت أن هناك مشكلة في انسحاب الدولة من الإشراف على الاقتصاد بصورة أو بأخرى، وحرية السوق المطلقة.
وهكذا تتعدد إشكاليات العولمة، التي تحتاج كل منها إلى قدرة على الوصف الموضوعي والنقد الذاتي في الوقت نفسه، حتى يتم تجاوز سلبيات المرحلة التاريخية الراهنة.
(باحث مصري)