الاحتيال البريء
عزت القمحاوي
من سره أن يرى خلطة الاستبداد بالبيزنس العربية عارية، فلينظر هذا الكتاب الصغير، آخر ما كتب المفكر الاقتصادي الأمريكي جون كنث جالبريث، الذي رحل منذ عامين، في الخامسة والتسعين.
لم يكتب جالبريث حرفاً عن الخلطة العربية البذيئة بين الحزب والشركة، بل عن أسواق أكثر استقامة وشفافية، بالرغم من كل ما فيها، أي عن الأصل الأمريكي والغربي. ولكننا لا ننتهي من كتابه الصغير، إلا وعلى شفاهنا صيحة شهرزاد: ‘فأين هذا من الفوضى التي يئن تحتها كل عربي ليس لصاً أو حاكماً؟!’.
يكشف جالبريث، عن تحورات النظام الرأسمالي، الذي أثبت أنه مثل فيروس انفلونزا الخنازير الذي يستخدم الآن لترويع المروعين سلفاً.
يتحول الاستغلال ويجدد أشكاله من القنانة أكثر الأشكال عرياً، مروراً بالإقطاع والرأسمالية إلى ‘اقتصاد السوق’ المصطلح الأكثر مراوغة واحتيالاً، حيث يوحي بسيادة كائن جديد ليس صاحب رأس المال ولا العامل، في الحسبة الاقتصادية التقليدية.
يوحي المصطلح بأن السيد المفترض الآن هو المستهلك، لكننا عندما ندقق فيه النظر لا نرى إلا العبد القديم في أرض السيد، ليس بوضوح علاقة القنانة، بل عبر عملية احتيال تبدو بريئة ظاهرياً على الأقل، من هنا جاء عنوان الكتاب الممتع ‘الاحتيال البريء’ الذي ترجمه د. محمد رضا علي العدل، وقدمه د. محمود عبدالفضيل، وأصدرته دار (سطور) بالقاهرة.
‘ ‘ ‘
‘اقتصاد السوق’ المصطلح الذي يتكلم عنه الزعماء السياسيون والصحافيون المحترفون وغير قليل من الأكاديميين، هو أكثر المصطلحات خلواً من المعنى، وكان هذا هو المطلوب، لقطع الاتصال مع مصطلح الرأسمالية، الذي صار مثقلاً بالمعاني السلبية، حتى لم يعد يشير إلى ‘نظام’ بقدر ما يشير إلى قلة متحكمة في رأس المال والسلع، تطغى على العمال بضعفهم التفاوضي، وعلى المستهلكين بقلة الخيارات في ظل نظام الاحتكار الذي بلغ مداه في عشرينيات القرن العشرين.
من هذا الاستغلال، صاغ ماركس وإنجلز وعد الثورة، في أعظم الأعمال النثرية تأثيراً في التاريخ، ومنذ نهـــاية الحرب العالمية الأولى صار التهديد واقعاً في أوروبا التي صارت كلمة الرأسمالية فيها تعني سلطة الملكية والقهر الهائل للعمال. وأدت الأزمات الاقتصادية المتتابعة إلى ترسيخ الاعتقاد بأن الرأسمالية ليست مستغلة فحسب، بل قادرة على تدمير نفسها. وشهدت أمريكا منذ بداية القرن العشرين اندفاعا واسعاً نحو التشريع لكبح المجتمع المالي.
وكان لا بد من مخرج لتجديد النظام الرأسمالي من خلال الإجراء المخادع، الذي حلت بمقتضاه المؤسسة الكبرى محل المستثمر الفرد أو العائلي، فلا تصبح هناك سلطة شخصية تسلب العامل حقوقه، بل كيان غير بشري، يديره مجلس مديرين. وبخلاف هيمنة المؤسسات الشخصية المثيرة للقلق في السابق (كارنيجي للصلب، روكفلر البترول، ديوك للتبغ) أصبحت هيمنة الكيانات الاقتصادية الكبرى مقبولة على مؤسسات مهمة كالمؤسسة العسكرية والإدارة المالية والبيئة، ويوماً بعد يوم تزداد الهيمنة لأن هذه الكيانات لديها الميل الذاتي للتمدد، لأن سلطة رؤساء القطاعات فيها تقاس بعدد المرؤوسين تحت كل منهم.
وأصبح إنتاج تلك الكيانات الكبرى جزءاً من الناتج المحلي، وهذا احتيال آخر، يساهم في تقديم مقياس مضلل للنجاح الاقتصادي.
المغالطة التي ينبه إليها كنث جالبريث، كانت ولم تزل موضوعاً للخلاف بين مفكرين مصريين مثل محمود عبدالفضيل وبين المستشرقين الجدد في الإدارة المصرية الذين يدللون على رخاء كذب، بزيادة الناتج المحلي، المتضمن أرصدة سمسرتهم في الأرض والعقارات، بينما الحقيقة تقول بتلازم زيادة معدلات الفقر مع زيادة نواتج السمسرة.
‘ ‘ ‘
لم تحقق تسمية ‘اقتصــــاد السوق’ حيــــاداً مزعوماً فحــســـب؛ بل تشير نظــرياً إلى سيادة المستهلك على ما يجب إنتاجه وتسويقه.
وهذا تحايل آخر؛ حيث لا توجد مؤسسة كبرى تطرح إنتاجاً وتتركه يواجه مصيره من خلال خيارات مستهلك حر، كما يريد المصطلح أن يقول، لكنها تدفع بالمنتج الجديد بعد أن تكون قد خلقت الحاجة إليه خلقاً من خلال الدعاية، بحيث تصبح الديمقراطية الاقتصادية مصطنعة، مثلها مثل الديمقراطية السياسية. في الحالة الأولى المستهلك حر نظرياً، لكنه يشتري ما يقرره الإعلان المدفوع من جيبه أساساً، مثلما تقرر له الدعاية السياسية اسم المرشح الذي سيختاره بكل حرية!
ربما يكون المواطن العربي الذي أنضجته نار الاستبداد أقل عرضة للتأثر بالدعاية السياسية. كما أن معظم أنظمتنا تستسهل اللعب في صناديق الانتخابات على اللعب في الدماغ. لكن المستهلك العربي صار في مصيدة الدعاية التجارية المنفلتة من أية رقابة.
وليس هناك من دليل على قوة السيطرة من خلال خلق الحاجات أقوى من أرقام المشتركين في الهواتف المحمولة في البلدان العربية الأكثر فقراً، التي لا تدعى للحديث على راحتها إلا من خلال هذا الفخ التكنولوجي!
وقد تدخل صناعة الرغبات في باب الاحتيال البريء، لكن صناعة الصفقات الكبرى التي نعرف، لا براءة فيها على الإطلاق، حيث تباح الخطط الاقتصادية للدولة أمام البعض، كي يقوموا بعمليات البيع والشراء في الوقت المناسب، ليصنعوا من الملاليم مليارات يخنقوننا بها، لكننا لا نعدم بين الحين والحين، رؤية أحدهم مشنوقاً بحبل ملياراته الفاسدة، ولا شيء في أيدينا أكثر من الانتظار والتضرع إلى الله أن ينصرهم على بعضهم البعض!
القدس العربي