مذنبون أمام المعرفة
بلقيس الكركي
‘أنتَ لم تفهمني يوماً واحداً طوال حياتنا!’، تقول المرأة لزوجها بعد زواج امتدّ أربعين عاماً، وبعد أن أوشكا على الطلاق. يقول هو لأخرى: ‘زوجتي لا تفهمني، ولا أولادي، ولا من أسمّيهم أصدقائي، ولا أحد ô أنا وحيد ô أتفهمين عليّ؟’ تُسِرّ هذه الأخرى لصديقتها: ‘الغبيّ! يحسَبُ أنّه يفهمني’. يقول هو لصديق ‘مثقّف’ يوشك على الهجرة: ‘هذا أفضل لك. في هذا البلد لن يفهمك أحد’. يصرخ ابنه المراهق في وجه والديه وأختَيه: ‘أنتم لا تفهمونني!’ ويُكسّر ما تيسّر له قبل الخروج. تقول أخته لأختها: ‘يجب ألاّ يصل الأمر إلى أخي المجنون، فهو لن يتفّهم الأمر أبداً’. تُسِرّ لعاشقها المحروم مثلها: ‘كم تفهمني…’. تركُن أختها -مشروع الشاعرة – إلى غرفتها وتكتب: ‘وأنا كذلك لا شيءَ يفهمني’، ثم تمحوها ‘لأنّ أحداً لن يفهم التناصّ الجميل هنا’. ‘المثقّف’ يزور العائلة بعد فترة قصيرة من السفر: ‘عدتُ لأنّ الغرباء لم يفهموني.’ تقول له البنت الشاعرة: ‘الغربة مصير الذين يفكّرون ويقرؤون لأنّ هذا العالم الجاهل لن يفهمهم. قرأتَ المتنبّي بالطبع؟’. يتزوّجان لأنهّا ‘تفهمه’ ولأنّه ‘يفهمها’، يوشكان على الافتراق لأنّها ‘لا تفهم’ حاجته للخصوصيّة، ويفترقان فعلاً حين ‘لا يفهم’ أنّ الآخر الذي كانت معه ‘مجرّد صديق’…
يبدو أنّ لنا، بني آدم، قدرة مدهشة على أن نكون مأفونين لا نفهم شيئاً، واهمين، ومزيّفين. فالكلّ ـ بلا استثناء تقريباً – يبدو لنفسه في مرآته فاهماً إيّاها والآخرين، ضحيّةَ سوء فهمهم له، غيرَ مذنب في حقّ نفسه أو في حقّهم أو ـ قبل هذا كلّه ـ في حقّ الفهم والمعرفة. أظنّ – وأنا أيضاً واهمة بالفهم – أنّ الذنب الأخير هذا، أعني ذنوبنا في حقّ المعرفة، هو جوهر المشكلة البعيد، والذي بسببه نعيش هذه المشاهد السخيفة كلّ يوم.
طبعاً السخف هذا ‘مفهوم’ بالنظر إلى أنّ البشر يبحثون غريزيّاً عن الحياة ويتّخذون ما تيسّر من حقيقة سريعة وسيلةً للاستمرار فيها بالطريقة التي يُهيّأ لهم أنّها أفضل. أما العكس، أي جعل البحث عن الحقيقة غاية غريزيّة باتّخاذ ما تيسّر من حياة وسيلة لها، فهذا استثناء لا نستطيع دعوة العالم إليه. وهو على أيّ حال ـ أي العالم ـ لن يكون يوتوبيّاً إذا ما اكتظّ بغير المذنبين في حقّ المعرفة: إذ كيف سيربّي من يشكّون في أنفسهم ـ بل وفي أنّهم موجودن حقّاً – أجيالاً تتناسل، كيف سيعملون وينتجون؟ ماذا سيقول من هو كهؤلاء عن نفسه وطموحاته في مقابلة عمل مثلاً؟ ‘أبحثُ عن الحقيقة’؟؟ هل سيكون العالم أجمل بلا كلام عاطفيّ مجّانيّ، فيما لو أصبح العشّاق غير مذنبين في حقّ المعرفة؟ لو استبدل عاشق غير مذنب بـ’أنت جميلة’ كلاماً أقلّ ذنباً من مثل ـ
‘شيء ما فيكِ اليوم تحديداً ـ رغم أنني غير متأكّد من أنّه فيكِ لا فيّ ـ يجعلني أشعر بما قد يجوز لي أن أسمّيه مؤقّتاً إحساساً (على أن أعود لاحقاً لمحاولة فهم معنى الشعور والإحساس) أظنّه في اللحظة الحاليّة ممتعاً إيجابيّاً لأنّك هنا ووصالك محتمَل، وإلاّ لكان ربّما مؤلماً سلبيّاً لو كنتِ غائبة ورأيت صورتك مثلاً. لا لا آسف، الفصل بين اللذة والألم هكذا متعسّف، فقد تكون الحاجة ألماً لذيذاً، أم إنّ هذا عزاء المحرومين وإذن لا مشكلة في اللغة ولا تعسّف في الثنائيّات؟ أعود إلى الموضوع. لا أعرف إن كان عادلاً أن أرجع الإحساس هذا لصفاتك أو ‘جمالك’ بين قوسين أكثر من حرماني وقلّة خبرتي بالنساء، ولا أعرف إن كان لما يسمّى الجمال علاقة مباشرة بالرغبة وإذن يستحيل له أن يكون موضوعيّاً – وطبعاً هذا لا يعني أن كلّ ما هو غير موضوعيّ متعلّق بالرغبة، فأنا قد أصف أمّي بالجمال من باب الانحياز لا الرغبة، وهذا أيضاً موضوع خلاف – وهذا لأنّني غير متأكّد من طبيعة اختلاف إدراكنا لـ’جمال’ من نرغب فيهم جسديّاً من البشر عن إدراكنا لـ’جمال’ الطبيعة مثلاً. لا بدّ من العودة إلى داروين وكانط قليلاً. لا بل كثيراً. بالمناسبة، هل تعلمين أنّك لو عشتِ قبل ألف أو ألفي عام لاعتبرك الناس ‘قبيحة’؟’
ـ هل سيعود هذا ‘عشقاً’ أصلاً؟ وهل سيكون العالم أجمل لو استبدلنا بـ’أحبّك’ بكلّ ما تنطوي عليه غالباً من مغالطات لا تحصى واتفّاقات متوهَّمة حول معانيها، مونولوجاتٍ تذكّر العاشق بجهله أكثر من رغبته؟ كيف يعيش الناس بلا أفكار جاهزة وأجوبة سريعة وكلام مجّانيّ غير مفكَّر فيه، بلا ذنوب في حقّ المعرفة؟ كيف ستستمرّ دون المذنبين الحياة (وإن كانت مجنونة غالباً، مليئة بالزيف والغباء)؟
بالطبع ليس لأحد أن يصادر على الآخرين، مهما بدوا له مغفّلين غير قادرين على التفكير أو غير راغبين فيه، حقّهم في الوجود، وحريّتهم في قول ما يريدون (على افتراض أنّهم من الفئة الأولى عند راسكولنيكوف/دوستويفسكي: فئة الحاضر التي تحافظ على الجنس، لا فئة الغد التي تحاول أفكاراً جديدة كي تدفع العالم باتّجاهها). لكن للفئة الثانية هذه الحقّ في أن تعترض، على الأقلّ، على ادّعاء الأولى الفهم والمعرفة من غير أن تفهم أنّ ‘المعارفَ في أهلِ النُّهى ذِمَمُ’ كما يقول المتنبّي، أي أنّها عهدة وأمانة عند أصحاب العقل. وإذن من حقّ هؤلاء – بل واجبهم – كشفُ المواطن المشوّهة في نسخ المعرفة التي يتخّذها أغلب الناس أساساً لادّعاء كلّ منهم فهم نفسه والعالم أكثر من الآخرين، أو ـ وهذه تتكرّر كثيراً – فهمه الآخرين أكثر مما يفهمون أنفسهم هم، أو لتحميلهم وحدهم ذنب تعاسته أو فشله أو إساءة فهمه. لكنّ المصيبة الكبرى تكمن في أنّ الجميع يدّعون السلامة من التشوّه المنطقيّ والمعرفيّ، وفي أنّ البعض يذهب في ادّعاء هذه السلامة حدّ اعتبار نفسه من الفئة الثانية، التي تفكّر وتنقد، وكنوع من التمويه، نراهم يتحدّثون عن حماقات ‘سابقة’ نجمَت عن سذاجات ‘سابقة’ سببها قلّة الفهم ‘السابقة’، لأنّهم في الحاضر يفهمون ويعرفون ويفكّرون في كلّ ما يقولون ويفعلون. وقد أصبح يندر جدّاً ـ حدّ الاستحالة – أن نرى أحداً وقد راوده احتمال قلّة فهمه أو محدوديّة عقله أو ضحالة ثقافته، بل كنوع من الهجوم المضادّ، يكون غالباً على استعداد لتسمية من يعرف من أصحاب ‘الجهل المركّب’، أي الذين لا يعرفون ولا يعرفون أنّهم لا يعرفون، وهو الداء الذي يستثني كلّنا نفسه منه وهو واثق مرتاح البال. أما الحالات التي نرى فيها من يعترفون بجهلهم، فأغلبها تواضع مفتَعَل يروم انتزاع الإعجاب بصاحب العقل الذي يعرف قيمة نفسه جيّداً. هل يعقل أنّنا في معظمنا من ‘أهل النّهى’، نعرف و’نفهم’ حدود معارفنا وقيمة أنفسنا؟ لو كان ربعُنا كذلك لما كان العالم مغفّلاً هكذا: كم نحن حقّاً مزيّفون.
قد تكون المشكلة هي في سوء فهم مفهومَي الفهم والمعرفة أصلاً، وبالتالي في الاستهانة بهما والاستهانة بمتطلّباتاهما، وأوّلها القراءة الحقيقيّة والتفكير الذي لن يترك صاحبَه يهدأ إن كان له أن يسمّى ‘تفكيراً’ حقّاً. فإذا كانت زيادة علم الإنسان تزيده علماً بجهله، فإنّ قلّة عِلمه تزيده وهماً بمعرفته بلا شكّ. لكي نفهم لا بدّ أن نقرأ ونفكّر، وكي نفكّر لا بدّ أن نسأل عن كلّ شيء ـ هذا الدرس يحفظه الجميع. لكن غياب التطبيق بالمطلق في كلّ ما حولنا من قول وفعل يعني أن الدرس لم يُفهم أصلاً، وهذا يفسّر مظاهر السخف والفوضى واللامنطق الكارثيّة اليوميّة. ليست المشكلة أن تقول العاشقة المكبوتة لعاشقها المكبوت ‘كم تفهمني’، وليس لأحد أن يصادر على الآخرين العشق، بل المشكلة هي في افتراضها أنّ هناك شيئاً معقّداً غير الحرمان بحاجة لأن يفهمه ذلك العاشق العبقريّ، الذي قد يتّخذ بدوره كلامَها شهادةً على سِعة فهمه، ويظنّها السبب في رغبة عاشقته – صاحبة الشخصيّة المعقّدة والتقييم السليم – به. المشكلة ببساطة هي أنّهما لم يفكّرا للحظة واحدة ـ وهو ما تفضحه اللغة بسهولة ـ وهذا ما يجعل ‘كم تفهمني’ لا تطاق لسذاجتها. لكن الحقّ معها طبعاً في أن لا ترغب بأن يصل الأمر إلى أخيها ‘غير المتفهّم’، رغم أنها لم تفكّر في أنّ تحوّلاتٍ تاريخيّة كثيرة أثمرت عن بقاء التخلّف المسؤول عن ‘عدم التفهّم ‘ هذا. ولأنها لم تفكّر، فقد تمنع – حين تكبرُ – ابنتهَا من أن تعيش عشقاً مماثلاً في مراهقتها فتعاني هذه الأخرى من ‘عدم تفهّم’ أمّها وأبيها وأخيها. ومن يدري، فقد تُقتل الابنة في جريمة بطلها أخٌ يعاني هو الآخر من سوء الفهم، فيكون سببها الخفيّ ذنوبنا المتراكمة في حقّ التفكير، والفهم، والمعرفة. أقول ذنوبنا وأقصد الأفراد، خاصّة الذين يلومون وينتجون أجيالاً تلوم مفاهيم تجريدّية على ما نحن فيه: كالمجتمع، والتقاليد البالية، والتاريخ، وحتّى مفاهيم الجهل والتخلّف ذاتها ـ موضوع المشكلة ـ من غير أن يكون هناك مذنب واحد أو متخلّف واحد إلى جانب القاتل – إذا اعتبر مذنباً أصلاً- بما في ذلك الأمّ التي عشقت من قبل و’لم يتفهّمها’ أخوها ‘المجنون’ وتزوّجت من أنجب وإيّاها قاتل أخته، رغم أنّ ذنب هذا الأخير أو ذنب قاتل هابيل عموماً ليس أقلّ أبداً من ذنب كلّ مَن عقولهُم كيديه: ملوّثة بالدماء لكثرة ما أهانت المنطق وشوّهت المفاهيم وآذت المعرفة.
كذلك ليست المشكلة في إحساس ‘المثقّف’ بأن أحداً في بلاده وبلاد الغرباء لا يفهمه، فالإحساس الصادق بالغربة ـ مهما كان مبتذلاً ـ كغيره من المشاعر، حقّ لا يحقّ لأحد إنكاره أو تحريم التعبير عنه. لكنّ المشكلة هي في ظنّه أنّه يفهم العالم وأحواله جيّداً، وأنّ تحديده لأسباب اغترابه وتقييمه لقيمته الحاليّة أو المحتملة قياساً إلى أهل الأرض دقيق إلى حدّ كبير. أي أنّه ببساطة لا يفكّر كثيراً ، وهو ما يفضحه تحديده ‘الدقيق’ أو تقييمه شبه الواثق ذاته. وهو بهذا لا يختلف عن المراهق الذي يعتقد أنّ أهله هم المذنبون في عدم فهمه وفي غربته، بغضّ النظر عن صدق إحساسه بالظلم الواقع عليه. وكذلك ليست المشكلة في عدم قدرة الزوجين على التواصل وعدم رغبة أحدهما في الاستمرار، بل المشكلة هي في افتراضهما أنّ ‘سوء الفهم’ هو المشكلة: في افتراض كلّ منهما أنّ لديه ما هو جدير بمحاولة الفهم، وأنّ ما يفهمه من نفسه هو الأقرب إلى الحقيقة، وأنّ زوجه لو فهم ما يريد منه فهمه لرغب فيه بجنون ولرجاه أن يستمرّا معا إلى الأبد، وإلاّ يكون مذنباً ظالماً. مصدر ‘سوء الفهم’ إذن، أنّ أيّاً منهما لم يتعب نفسه في التفكير بقصد الفهم والإفهام، وهذا هو وحده ذنبه الكبير الذي لا يعرفه.
أما الشاعرة التي حمّلت الجمهور مسؤولية سوء فهم تناصّها ‘الجميل’ ـ قبل أن يقرأ القصيدة ـ فليست المشكلة في إعجابها بما كتبت، فهي حرّة فيما تفعل أو تحبّ، لكن المصيبة هي أنّها تثق بذائقتها ـ إن كانت تعرف معنى الذائقة – وهذا ما يصدر غالباً عمّن لم يفكّروا يوما في مفهوم الجمال، وشروط صناعته، وتأثير ظروف تلقّيه فيه. والشاعرة هذه قد وصلت في ذنوبها حدّ افتراض أنّ لديها ما يجعل ‘سوء فهم’ العالم لها ما كان لدى المتنبّي، وهو ما تظنّ أنّه أعجب ‘المثقّف’ ‘الغريب عن العالم’ فيها. وهكذا تزوّج العبقريّان بعد أن جمعتهما أوهام كثيرة: منها وهم الاختلاف والتميّز، ووهم بأنّ هذا الأخير هو بلا شكّ سبب إحساسهما المشترك بالغربة (إن كان صادقاً أصلاً؛ فقد يكون مصدر الإحساس محض تقليد لبيت امرئ القيس ‘أجارتنا إنّا غريبان ها هنا/ وكلّ غريبٍ للغريب نسيبُ’ أو لغيره مما يحلو للكثيرين ادّعاؤه وتقمّصه وانتهاكه). وطبعاً لن يكون إلاّ كارثيّاً زواج لا طرف فيه يفكّر حقّاً: فليست المشكلة في أنّ زوجته الشاعرة – التي ‘لا شيء يفهمها’ – ‘لم تفهم’ حاجته للخصوصيّة، بل في أنّه لو أرادها حقـّاً لما عاد إلى بلاده، ولما تزوّج ابنة صديقه، أو لفكّر أو عرف أو فهم أنّه لم يتزوّج من تفهم مثل هذه الحاجة (إن كانت موجودة أصلاً، فالإنسان قد يكذب على نفسه بسهولة حين يكون مزيّفاً). وكذلك ليست المشكلة في أنّ ‘المثقف’ ‘لم يفهم’ أنّ صديق زوجته مجرّد صديق، بل في أنّها – طالما أنّ لها عقل المتنبي كما تفترض- لم تفكّر في أنّ من تزوّجت ليس مؤهّلاً لأن يفهم أنّ رجلا آخر قد يكون ‘مجرّد صديق’ لزوجته الشاعرة (إن كان هذا الأخير مجرّد صديق حقّاً، وكأنّ الفرق بين الصداقة والحبّ سهل التحديد والتمييز هكذا). لو كان التفكير جزءاً من خطواتنا وأنفاسنا ووجودنا، لما كان كلامنا هكذا: نصفه يكشف عن جهل، ونصفه الآخر عن وهمنا بالفهم، وتفضح كلّ كلمة نقولها خطايانا التي لا تغتفر أمام الفهم والمعرفة.
ليس المطلوب بالطبع أن يعرف الناس – ولا أن يعتنقوا – آراء نيتشه في الصمت، الذي اعتبره ردّ فعل عقلانيّاً على محدوديّة القدرات التعبيريّة للغة، وردّ الفعل الأمثل ضدّ ‘ثرثرة’ الحياة اليوميّة. ليس مطلوباً أن يسمع الجميع نصيحته بأن ‘على الإنسان أن يتكلّم فقط حين لا يمكن له أن يصمت’، ولا أن يكونوا مثل ‘أكثر الناس صمتا’ كما قال نيتشه عن زرادشت وكما تخيّل سقراط، ولا أن يأبهوا كثيراً لقوله إنّ الصمت ضروري كي يبقى المرء فيلسوفاً لأن ‘كلّ كلمة هي حكم مسبق.’ ليس هذا مطلوباً – ولا ممكناً – لأنّ معظمنا بحاجة للكلام والآخرين إذا ما اختار الحياة على ما اختاره سقراط. لكنّنا أجرمنا في حقّ الفهم والمعرفة (واللغة بالطبع) حدّ أنّ ثرثراتنا المليئة بـ’سوء الفهم’ المزعوم أصبحت عائقا أمام الحياة ذاتها وأمام احتمالها. لقد أصبحنا كمن يتخبّطون في ظلام دامس يعجّ بالفوضى والضوضاء والضجر والابتذال لأكثر الأشياء نبلاً (كالفهم، والعشق، والاغتراب). وإذا لم تحدث معجزة تجعلنا نكفّر عن بعض هذه الخطايا والذنوب (وكلّها في حقّ المعرفة، إذ ‘ليس ثمّة ظلام، بل جهل’ كما في مسرحيّة ‘كوميديّة’ لشكسبير)، فإنّ هذه المهزلة ستستمرّ إلى ما لا نهاية، وتعاقبنا عليها كلّ يوم أثينـا، ربّة الحرب والمعرفة.
كاتبة من الأردن
القدس العربي