أزمة السياسة تحكم كل الأزمات
علي محمد فخرو
انعقاد مؤتمر مؤسسة الفكر العربي في بيروت كان يجب ألا يقتصر على تحري الأسباب المباشرة لبقاء الكتاب العربي في وضعه الحالي الصعب المتخلف المأزوم، بل كان عليه أيضاً أن يفتش عن ظاهرة أسباب الأسباب. الأسباب المتعلقة بالنواقص فيما يتعلق بالطباعة والنشر والتوزيع، وكذلك المتعلقة بأمية وفقر القارئ وغيرها من أسباب فرعية مباشرة لا تنفصل عن الأسباب الحقيقية المفصلية التي من ورائها. وهذه الأخيرة هي أسباب وعوامل سياسية بحتة. في قلب أزمة الكتاب العربي إذن تكمن أزمة السياسة، وفي قلب أزمة السياسة تكمن أزمة الدولة العربية التي هي بدورها محكومة بأزمة شرعية أنظمة الحكم.
دعنا ندخل في بعض من التفاصيل لنظهر ما نعنيه، إن أحد أسباب ضعف انتشار الكتاب العربي هو قلة عدد القراء، وعدد القراء محكوم بموضوع انتشار التعليم ونسبة الأمية في المجتمعات العربية. ولما كان موضوع التعليم، مدى انتشاره ومستوى وقدرات خريجيه، هو من مسؤوليات الدولة الأساسية، فإن وجود الأمية التي تقود إلى ضعف الإقبال على القراءة هو إذن بسبب تقصير الدولة وعجزها عن القيام بمسؤولياتها، فأن تسمح دولة عربية لنفسها بأن تكون نسبة الأمية حوالي خمس وثلاثين في المائة في مجتمعها، وترتفع النسبة إلى خمسين في المائة بين نسائها، فإنها في الواقع هي السبب الرئيسي وراء أزمة الكتاب في تلك الدولة.
وينطبق الأمر على الجانب الاقتصادي من موضوع أزمة الكتاب. فالدولة العربية التي تؤدي ممارساتها إلى انتشار الفقر، وبالتالي عدم قدرة الفقراء على شراء الكتاب، والذي بدوره يؤدي إلى عدم الإقبال على تأليف الكتاب العربي الجيد والمفيد والمبني على جهد بحثي رصين وفكري عميق، وهو أيضاً جزء من أزمة الكتاب.. هذه الدولة هي أحد أسباب تواجد المشكلة.
هناك جوانب أخرى، من مثل مدى انتشار المكتبات العامة والمؤسسات الثقافية وإسناد الأم المتفرغة القادرة على تشجيع أطفالها على القراءة وغيرها كثير، تشير كلها إلى مدى تشابك السياسة بهذا الموضوع المعقد. هل يعني ذلك أن الدولة العربية هي وحدها المسؤولة عن أزمة الكتاب العربي؟ أبداً، ذلك أن المسؤولية الحقيقية هي في النهاية مسؤولية المجتمع المدني العربي بأفراده ومؤسساته. فالشعوب والمجتمعات التي تسمح بقيام دولة لا تخدم مصالحها ولا تكون تحت رقابتها ومساءلتها هي في النهاية المسؤولة عن هذا الوضع الثقافي العربي المفجع.
نستطيع تقديم المقترحات التفصيلية القطاعية إلى المؤلفين والناشرين والموزعين، وحتى القراء العرب. لكنها ستكون مقترحات لحلول محدودة تعالج أعراض المرض وليس أسبابه الحقيقية. والواقع أن هذه النتيجة المحدودة التي لا تؤدي إلى حلول جذرية وإنما تعالج الأعراض تتوصل إليها الغالبية الساحقة من المؤتمرات العربية مهما كان موضوع المؤتمر الذي يبحث، ذلك أن الإشكالية السياسية العربية تجبّ كل الإشكاليات الأخرى وتهيمن عليها، وأصبح عدم حلها حلاً معقولاً وسبباً في بقاء كل الإشكاليات الأخرى دون حل حقيقي.
ليست الأمة العربية، في تكوينها السوسيولوجي والذهني والعاطفي، أمة رافضة للقراءة وللانفتاح على عوالم المعرفة والإبداع، ولا هي بطبعها تكره حرية الفكر والتعبير كما يدعي البعض. فتاريخها، إبان فترة تألق حضارتها، يقول العكس من ذلك. لكنه التخلف السياسي الذي انزلقت فيه المجتمعات العربية عبر العصور، والذي لا يزال يحكم ساحات السياسة في كل الأرض العربية، تخلّف الفلسفة السياسية وعلى الأخص في ما يتعلق بالقيم والأسس التي يجب أن تحكم العلاقات في المجتمع، هذا التخلف عكس نفسه بصورة مذهلة على كل جوانب الحياة العربية الحضارية وفرخ الأزمات.
الخليج