المسرحي السوري فرحان الخليل: سأسعى لتقديم شخصية أبي ذر على المسرح مهما كانت النتائج
إبراهيم محمد حمزة
الفنان فرحان الخليل تجسيد صادق للحياة في الفن وللفن، لا يعيش حياتين، إنما هو مهموم برسالة، وفى سبيلها، لا يؤمن بوسائط، فالمسرح قدس الأقداس لديه، ولا بديل عنه مهما كان ترفه، من مواليد عام 1954 فى مدينة حمص السورية، لكنه يقيم فى اللاذقية، يكاد ‘سعد الله ونوس’ يكون توأمه الفني، فقد أخرج له ‘ الهزيمة عن نص منمنمات تاريخية – طقوس الإشارات والتحولات – الأيام المخمورة – يوم من زماننا- رحلة حنظلة’ كما أخرج وأعد عددا من الأعمال الهامة ربما تذكر منها قصر الأوسكريال والسيد والخادمة، كما قام بإعداد نص كاليكولا وجعله نصا موندراميا وقام بإخراجه، له مساهمات نشطة على الشبكة العالمية، ويكتب النقد فى كثير من الصحف .. محاورة فرحان الخليل متعة .. متعبة:
البحث عن شكل
ترى أن تنويعا من تنويعات ‘المونودراما’ قد شهدها التراث العربي، لكنه لم يتمسرح، وتكتب ‘التصريح الأخير لشهريار’…هل الصرخات التي أطلقها فرفور يوسف إدريس، ومن قبله الحكيم في ‘قالبنا المسرحي’ قد وجدت صدى لها في واقعنا المسرحي العربي؟ وهل في التراث العربي ما يغري الفنان المسرحي باستنطاق هذه الأشكال؟
يقول يوسف إدريس: ‘… التمثيل أيضا، كالضحك خاصية بشرية لا يمكن الاستغناء عنها’ وطالما هذه الحاجة هي من صلب حياة البشر فلما أقصيت بفعل فاعل حين جاءت الديانات السماوية وألغتها بقرار استلهم من الله، وكأن الهدف منه هو إقصاء الحس الجمعي مع العلم أن من يلغي هذا الفن يغريه دائما أن يتفرج عليه ولو سرا. ومن المعروف أن الفرجة قد تختلف اختلافا جذريا مع المسرح، فالفرجة هي ما يقدم بشكله الفردي لمجموعة تغريها هذه الفرجة، بينما المسرحة أو التمسرح هو المشاركة الجماعية لكل المتواجدين في الزمان والمكان عينه، لذا تاريخنا العربي مليء بأشكال المسرحة الجمعية من أعراس وطهور ومآتم …..، وكل هذه الأشكال تغري بالمسرحة لتكون أحد حالات الفرجة، وما فرفور إدريس إلا صوت لهؤلاء حين يقدم نقده اللاذع بطراوة الياسمين وصراخه المؤلم بشدو الشعر وكشفه السافر عن الظلم بنسمات ربيعية ما هي إلا جذور قوية لوجود هذا الفن الراقي عبر تاريخنا، وما الأركوز (الأراجوز) والسامر والحكواتي إلا حالات بدئية للمسرحة في تراثنا الشعبي، لكن وقوف الطغيان في وجه هذا التراث الفني وصلافة الدين الغاشمة وضعت حدا منيعا في تطور حركتنا الفنية ومنعنا من استلهام التاريخ وإيقاظ حالات فردية وجماعية تجعل من تراثنا منهلا غنيا للكتابة من جهة ولمسرحة هذه الكتابة من جهة أخرى، لذا كتب توفيق الحكيم مجموعة من المسرحيات وسماها ‘المسرح المقروء’ حين جعل طابعها ذهني وهو يقول في ذلك ‘إني اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن، وأجعل الممثلين أفكارا تتحرك في المطلق من المعاني مرتدية أثواب الرموز’ وكأنه أراد أن يجعل لنفسه وللقارئ معا فضاء خاصا و يجعله بعيدا عن أعين الطغيان الديني رغم ما قدمه الحكيم من أعمال ساهمت في تطوير الفن المسرحي حين أدخل العبث إلى المسرح العربي وهذا ما جعل إيمانه بأن المسرح والمسرحة لا يقف في وجهها حاملي لواء الجهل والتخلف.
ولولا الصدى الذي وصل من هؤلاء المجددين لما كان سعد الله ونوس أكد ذلك فاستلهم من التراث أعمالا مهمة وأكد على العودة إلى التراث الشعبي والنهل منه لكي نحقق مسرحنا العربي والذي لا بد أن يمتلك خصوصية مسرحية. وإذا أردنا أن نعمق الفن المسرحي المونودرامي في تراثنا فهناك العديد من الشخصيات الإشكالية والتي تستدعي البحث المونودرامي، وهذا فقط يلزمه جرأة وثبات رأي وتضحية في سبيل هذا الفن النبيل، حينها نستطيع أن نحقق فنا عربيا مونودراميا يستلهم شخصيات لها الأثر الكبير في تاريخنا لتكون رمزا ومثالا، وهل حين نكتب عمر بن الخطاب نصا مونودراميا نكون قد خلعنا عنه ثوب القداسة أم أكدنا هذا الشخصية وجودها واستمرارها رمزا مهما، وحين نستلهم من شخصية الحسين نكون قد أكدنا موضوع الإيثار والدفاع والشهادة معا، أليس كذلك.
وبهذه المناسبة أقوم الآن بكتابة نص مونودرامي عن شخصية أبو ذر الغفاري وسأسعى لتجسيدها على الخشبة بكل قواي ومهما كانت النتائج !!!.
بانوراما سوريّة
منذ أكثر من خمسين عاما بدأ اهتمام الدولة لديكم بالمسرح، عبر تأسيس فرقة المسرح القومي في أواخر الخمسينيات … فكيف ترى المسرح السوري بانوراميا بعد نصف قرن؟ وهل كانت نهضة مسرح سورية على يد رفيق الصبان وشريف خزندار اللذين درسا في فرنسا؟
لدراسة أية حالة عبر تاريخها يمكن العودة إلى الأوراق والوثائق والصور والتدوين …. أما للمسرح حالة خاصة في دراسته وقراءته فكما يقول سعد الله ونوس: ‘أن المسرح فن مدون على الريح’ فمن إذن يستطيع أن يكتب عن تاريخ الريح غير الذي دونه؟ فمن الطبيعي أن تاريخ المسرح لا ينفصل عن السياق العام لحركة المجتمع رغم أنه يبدو كغصن مقطوع يجاهد في البحث عن تربة تضمه وتحتضنه وبغض النظر عن نوع هذه التربة !
إذن المسرح فن لا يحتويه عرق أوجنس فهو فن فوق إنساني ولكي يتم احتواء هذا الفن قامت الأطر السياسية بوضعه تحت جناحيها ضمن تسميات عديدة فبدأت فكرة المسرح القومي في ألمانيا ومن ثم في روسيا القيصرية ومن بعدها روسيا البلشفية وهكذا حتى وصلت الريح إلينا نحن العرب، فكان المسرح القومي في سورية في مطلع الستينيات من القرن الماضي ظاهرة ثقافية شملت مناحي الحياة المسرحية في سورية وضمت العديد من المسرحيين الرواد وقد ضم المسرح القومي في قرار إنشائه ثلاث مسارح هم: 1 المسرح القومي . 2 فرقة الفنون الشعبية وضمت حينها فرقة زنوبيا. 3 مسرح العرائس للأطفال.
وعلى الرغم من كل العقبات كانت التجربة غنية وكانت حقيقة مطلبا فنيا مهما لكل الفنانين المسرحيين وأنتجت الكثير من العروض المهمة، وقد بلغ عدد العروض التي قدمها المسرح القومي في دمشق وحدها أكثر من 300 (ثلاثمئة) عملا مسرحيا في دمشق وحدها وفي مسرح قومي حلب أكثر من 100 عمل ومسرح اللاذقية القومي أكثر من 80 عملا ناهيك عن المسارح القومية الأخرى في المحافظات الباقية، هذا يعني أن المسرح القومي نشّط الحركة المسرحية التابعة للحكومة وأغفل بالمقابل المسرح الخاص الذي أصبح يسيء لماهية الفن المسرحي ودون رقابة وهذا لا يندرج تحت اسم الديموقراطية، فهو بالحقيقة إهمال وتغاضي ضمن محسوبيات من جهة، وضمن تفريغ الحالة الثقافية وإبعادها عن هدفها الأساسي من جهة ثانية.
وقد قدم المسرح القومي مخرجين في غاية الأهمية وأسس أعلاما للمسرح العربي وأذكر منهم في الثمانينيات: فواز الساجر وأسعد فضة وشريف شاكر وجهاد سعد وفيصل الراشد وجميع هؤلاء منهم من درس في الاتحاد السوفييتي ومصر، وبعد أن أصبح لدينا في سورية معهد للدراسات المسرحية من تمثيل ودراسات نقدية تألق المسرح السوري أكثر فقدم أسماء مهمة جدا للمسرح من ممثلين ومخرجين منهم على سبيل المثال غسان مسعود وماهر صليبي وطلال نصر الدين وأمل عمران، لكن ومن المؤسف بدأ المسرح يتراجع مع تطور أشكال الفرجة التي ساهمت في عزل الإنسان عن الحراك الفكري والثقافي ووضعته أمام خيارين إما أن يكون حبيس المنزل وإما أن يقضي نهاره في البحث عن لقمة عيشه وخاصة بعد أن تفشت الحالة الاستهلاكية لدى الناس وابتعدوا عن المسرح وكان هذا الإبعاد يندرج ضمن أطر مدروسة هدفها تفتيت الحالة الجماعية الاحتفالية، وقد ساهم بذلك المسرح القومي بإبعاد الناس عن المسرح وخاصة بتكريس النصوص الغربية التي لا تمت إلى مشاكل الناس وحاجتهم للفرجة أبدا فاعتقدوا أن المسرح للخاصة وهذا وزر يتحمله المسرح القومي، لكن بقي هناك مجموعة لا يستهان بها تحمل لواء المسرح وتسعى بكل قواها لإحياء هذا الفن النبيل وأذكر منهم جهاد سعد وماهر صليبي وغسان مسعود وعجاج سليم ومنويل جيجي وهشام كفارنة، أما البقية الباقية من المتمسرحين أغوتهم كاميرات التلفزيون من جهة وأغواهم المال من جهة أخرى وتناسوا تنظيراتهم حول المسرح وعلاقته بالناس. على الرغم أن المسرح القومي يقدم دعما ماليا لا بأس به بالقياس لما يقدم للمسرح بالعالم ولا أقول في البلدان العربية فقط، ولكن مستوى العروض المسرحية تتدنى على كل الأصعدة في المسرح القومي فأصبح الاستسهال أساس العمل المسرحي وهذا أمر غريب رغم الذي ذكرته عما يقدمه المسرح القومي من دعم! ، وكأن هناك شيء مدبر فعلا ضد الثقافة بالعموم والمسرح بشكل خاص، وعلى ما يبدو أنهم أدركوا أن المسرح يشكل خطرا وخاصة أن الصالة المسرحية هي مكان مفتوح للاحتجاج والنقاش والرفض، وهو يحفز المشاهد لإعادة النظر بأسس مجتمعه لذا ساهمت التحولات السياسية الجديدة في تهميش المسرح عالميا ونحن بالضرورة ضمن سياق هذه التحولات، وهذا يتطلب جهدا وعملا وموقفا رجوليا من القائمين على المسرح القومي الآن وإلا فقدنا ما أسسه الرواد الذين ساهموا في وضع اللبنة الأساسية في المسرح السوري بشكل عام والمسرح القومي بشكل خاص ومن أهم هؤلاء الدكتور رفيق الصبان والمخرج شريف الخزندار حيث استعين بهما كمخرجين في المسرح القومي وخاصة وهما خريجا أوروبا وبكونهما مجددين في المسرح حيث طرح شريف الخزندار في ستينيات القرن الماضي تطوير المسرح ضمن أسس علمية جديدة تعتمد على مناهج مسرحية حقيقية فسعى الخزندار حينها إلى كسر الإيهام وكانت بادرة جديدة في المسرح السوري حيث أسس حينها لمعنى التجريب المسرحي ضمن أسس التغريب كتقنية من جهة وهدف فكري إيديولوجي من جهة أخرى وأعطى شكلا ومضمونا جديدين للمسرح السوري، وأخرج مسرحية الاستثناء والقاعدة لبريخت عام 1964 واعتمد في إخراجها التجديد المسرحي وأسس بذلك لمنهج برخت في المسرح السوري كما ساهم رفيق الصبان في تدعيم الحركة المسرحية قبل أن ينضم إلى المسرح القومي فقد شكل فرقة خاصة للمسرح تضاهي حينها أي فرقة على مستوى العالم، واستعين بالصبان لإخراج أول عمل مسرحي للمسرح القومي عام 1960 وهو ‘براكساجورا’ من تأليف أرستوفانس وقام بأداء الأدوار عبد الرحمن آل رشي وحمود جبر وكوثر ماردو وآخرون، اخرج أيضا في نفس العام مسرحية ‘الخروج من الجنة’ لتوفيق الحكيم وتابع مخرجا في المسرح القومي حتى نهاية الثمانينيات تقريبا، وبهذا يكون كل من الصبان والخزندار الفضل في نقل البنى المسرحية من شكلها الاعتباطي وإعطائها شكلا وفكرا علميا ضمن رؤى فكرية منهجية.
الموت فقرا وقهرا
هل ثمة عوائق تقف في وجه المبدع السوري بشكل عام وتسلب منه حقه في الإبداع الحر؟ وما مقدار الحرية التي يمكن أن تتاح لفنان في وطننا العربي؟
طبعا وإن قلنا غير ذلك فإننا نخرج من التاريخ !! فالمسرح السوري لم يتجدد بالمعنى العلمي منذ أواخر الثمانينيات، وهو ما زال يقتات على ماضيه، فكل ما هو موجود الآن لا ينتمي إلى التجديد لا شكلا ولا مضمونا فقد خلا من الإبداع الذي يجعل المسرح يتطور، فالإبداع هو لغة تحطم الموجودات ويستعاض عنها بما هو حضاري حيث تتساوى حينها الحالة الحضارية مع الحاجات المجتمعية ولأننا لا نستطيع تحطيم الموجودات ترانا نراوح في مكاننا وكل هذا سببه مجموعة العوائق التي تقف في وجه المبدع الذي لا ينتمي إلا لإبداعه، فمن الصعب أن نعطي الإبداع مهمات الحكومات والبرلمانات، ولأن المبدع أكبر من كل هذا وذاك لا يمكن أن يكون ناطقا رسميا لأحد لذا وضعوا المبدعين في الظل ومنهم من مات فقرا وقهرا ومثال على ذلك فواز الساجر الذي قتله الفقر وسعد الله ونوس الذي قتلته حرب الخليج ألأولى قهرا حين أهدته سرطانا لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئا إلا القهر ! فالإبداع مناخه الحقيقي هو الديمقراطية والديمقراطية فقط، كما أن المبدع خارج التعقيم والفلترة الفكرية التي يصنعها الآخرون على قياسهم، الإبداع لا يمكن أن يكون على قياس أحد على الإطلاق، ولأنه كذلك لا يسمح للمبدع أن يتواجد على الساحة الفنية بينما يعوَم الانتهازيين والأبواق التي تنفخ لغيرها ويصبحون طبولا منتفخة فارغة لا تصدر إلا ضجيجا وجعجعة وتملأ ‘بطونها’ بالعطايا والهبات. وهذا يندرج على كل ساحة الوطن العربي فنيا فمن ينسى الشاعر أمل دنقل الذي قتلته يد الفقر وفرج فودة الذي قتلته يد الجهل.
فلا يمكن للمبدع أن يلاقي تربة لإبداعاته إلا في مناخ ديمقراطي حر وهذا مالا نجده في الوطن العربي وإلا لما فقدنا ناصر السعيد وغيبنا نصر حامد أبو زيد وحتى الاتهامات وصلت حد وزير الثقافة في مصر بقضايا الحجاب وما شابه من تخلف، لذا لا يمكن أن يكون للإبداع مكانا في الوطن العربي طالما هناك قيود وفرمانات تحد من الفكر وتقتل إبداعاته وتخنق حريته. وبكون الثقافة هي الحاجة الملحة اليوم لتشكيل مجتمع مدني يرتقي إلى الخلق الفكري والفني معا فعلى كل مثقف أن يناضل من أجل تعزيز الثقافة وتأكيد دورها في الحياة المدنية، لأن الثقافة لها دور ريادي وقيادي في حركة المجتمع، وقد يقول قائل: ليس هناك مثقفا قاد مجتمعا. ربما لا، صحيح، فلم يتح للمثقف أن يقود المجتمع ولكن الثقافة والمثقفين هم من يطرحوا الأسئلة الجذرية والجوهرية بالنسبة لمصير المجتمعات.
الكوميديا ودور المسرح
منمنمات تاريخية – طقوس الإشارات والتحولات – الأيام المخمورة – يوم من زماننا- رحلة حنظلة ‘هذه الأعمال التي أخرجتها لسعد الله ونوس، تؤكد اتفاقك الفكري مع خطوطه العامة التي تصور دائما الإنسان مأزوما مهزوما مطاردا، هي أعمال على أي حال تبتغى زيادة وعي المشاهد .. هل الكوميديا لا تصلح رسالة مسرحية؟ خاصة وأنت تراها ‘لا تسخر ولا تنتقد فقط وإنما تشير الى الخلل’؟
طالما أن المسرح كما أقول دائما هو وجد لخدمة الإنسان المقهور ليتخلص من قهره والمهزوم ليعيد له توازنه الداخلي والخارجي لا بالمعنى التطهيري الأرسطي بل بالمعنى التغيري البريختي وبما أن للمسرح أشكالا تحاكي الآخر وتضعه أمام مصيره فإن هذه المحاكاة تشير للإنسان الى همومه وكيف الخلاص منها. والكوميديا شكل هام من أشكال المحاكاة وقد أخذت تسمية خاصة وهي المحاكاة التهكمية وتعني علميا محاكاة عمل أدبي أو فني وطرحه بشكل تهكمي يتم التأكيد عبره على وجود خلل ما من خلال إبراز التناقض ما بين الموضوع ومضمونه، وما بين وضع الشخصية وخطابها وتصرفها، وهذا يمكن أن ينطبق حتى على نصوص سعد الله ونوس التي أخرجتها، ويمكن لمخرج آخر أن يضعها ضمن سياق كوميدي وقد لا أختلف معه لأن الكوميديا فعلا تصلح أن تكون رسالة مسرحية بامتياز فالكوميديا أكثر قربا من الناس وتستطيع أكثر وضع اليد على جراحهم لو استخدمت ضمن منظورها وسياقها العلمي المعرفي، فما السامر في مصر إلا شكل مهم من أشكال المسرح الكوميدي الذي طرحه محمود دياب في’ ليالي حصاده’ حيث نجد هذه الليالي نوعا من الكوميديا التي تتهكم على الحياة اليومية في استعادة ما جرى في النهار والحكواتي عند اللبناني روجيه عساف الذي لا يحكي إلا هموم الناس ويسخر من صمتهم ويحفزهم على التغيير والكوميديا ليست وسيلة إضحاك فقط فهي تتضمن فعلا نقديا يقترب من الهجاء السياسي والاجتماعي وهذا ما نجده في مسرحية ‘الرجل ذو الحذاء المطاطي’ للجزائري كاتب ياسين وفي مسرحية ‘الملك هو الملك’ عند سعد الله ونوس حيث تبدو شخصية الملك محاكاة ساخرة لمفهوم الملكية . إذن فالكوميديا هي من ضمن السياق المسرحي الذي يحفز الإنسان لتغير واقعه ويضعه أمام حيثيات هذا التغيير وهذا ما طرحه بريخت في مسرحية ‘آرتورو إي’ وهي محاكاة ساخرة لشخصية هتلر وكيفية التعامل مع هكذا شخصيات.
وبالنتيجة فإن الكوميديا هي أكثر التصاقا بالواقع وأكثر ارتباطا بالحياة العادية من أي نوع مسرحي، لكن اللعب مع هذا النوع المسرحي في غاية الخطورة لأن هناك شعرة تفصل بين الكوميديا والإسفاف لا يدركها إلا أصحاب الخبرة في التعامل مع هكذا نوع مسرحي فالكوميديا ليس الإضحاك شرطها ، لكن الضحك يمكن أن يتواجد في المسرح الكوميدي ولهذا يكون الحذر ضروري في العلاقة بين المسرح الكوميدي الحقيقي وبين ما هو ليس مسرحا بالأساس لأنه يصل حد الابتذال والتفاهة والضحك على الناس وليس ضحك الناس من مصائرهم حين يتلمسوها . وقد نجد هذا النوع المسف بشكل كبير في سورية كالذي يقدمه همام حوت والأخوان قنوع وحتى دريد لحام ومحمود جبر والأمثلة على ذلك كثيرة، وفي مصر أيضا مما قدمه السيد زيان وفؤاد المهندس وعادل إمام وآخرون. ولكي أضع مقابل هؤلاء معادلا مسرحيا كوميديا لا بد أن أذكر بعض الأعمال المسرحية الكوميدية الحقيقية في سورية: مثل مسرحية نور العيون التي أعدها جوان جان وأخرجها الدكتور عجاج سليم ومسرحية أوضة سورية وهي عن مسرحية أبتسم أنت لبناني ليحيى جابر وأخرجتها الشابة علا الخطيب ومسرحية ‘ميلو دراما ‘التي كتبها وأخرجها ومثلها التوأم ملص ومسرحية’ فوتوكوبي ‘التي أخرجها ماهر صليبي والأمثلة على ذلك كثيرة. ومن المؤسف أن هكذا مسرحيات لا تعمم على الوطن العربي، فلا يعمم سوى الإسفاف. كما لم تصلنا المسرحيات الكوميدية الحقيقية من مصر بل ما يصل إلينا المسف فقط وهذا ينطبق على المسرح الكوميدي في الوطن العربي عموما.
فتوى فى الإعداد
بدقة .. ما حدود عمل المعد؟ ومن منحه الحق فى تغيير وجهة النظر الأصلية للعمل؟ وهل يحق للمعد أن يحول العمل من شكل مسرحي إلى شكل آخر؟ مثلما فعلت فى ‘كاليغولا’ التي حولتها لمونودراما؟ لقد شاهدتها على المسرح القومى من عشرين عاما بطولة نور الشريف وإلهام شاهين .. فما الذى منحته المونودراما للعمل؟
الإعداد هو بالعموم عملية تعديل تجري على النص المسرحي أو القصصي والروائي حين يراد مسرحته كي نصل إلى شكل فني جديد، وذلك يتأتى ضمن مجموعة من العمليات والتي تكون بين التعديل أو إعادة الكتابة، وهذا شكل من أشكال الاقتباس وهذا ما رأيناه عند سعد الله ونوس حين اقتبس مسرحية ‘ رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة ‘عن بيتر فايس في مسرحية’ كيف تخلص السيد ميكنبوت من آلامه’، والإعداد المسرحي يمكن أن يكون قراءة جديدة، أو طرحا جديدا يقول شيئا مغايرا أحيانا، وخاصة حين يكون الموضوع أخذ شكل الأسطورة، وقد يأخذ الإعداد مسارا آخر حيث يقوم المعد بربط مجموعة من النصوص في نص واحد وسياق واحد وهذا ما يسمى الإعداد الدراماتورغي، وقد يصل الإعداد حد إعادة الكتابة كليا وهذا يتطلب مخرجا أو دراماتورغيا. وبالعموم فإن الإعداد المسرحي يأخذ شكلين وهما: الأول هو تعديل العمل الأصلي بحيث يتناسب مع الجمهور مثلا تقديم عمل مسرحي مكتوبة بالأساس للكبار يريد المخرج أن يقدمها لجمهور الأطفال، وهذا ما حصل معي في مسرحية ‘الفيل يا ملك الزمان’ لسعد الله ونوس حيث قمت بإعدادها للصغار. والشكل الثاني هو تقديم عمل مسرحي ما بتقنية مغايرة، وهذا ما حصل في مسرحية ‘كاليغولا’ التي قمت بكتابتها وبتقديمها بشكل مغاير عما كتبه ألبير كامي وما قدمه نور الشريف في مصر وجهاد سعد في سورية عندما قدما مسرحية ‘ كاليغولا ‘. حيث تناولا شخصية كاليغولا المظلمة وقمت بالبحث عن بؤر الضوء في نفسه التي قاربت على الموات وولجت هذا الضوء عبر معالم هذه الشخصية ووجدت فيها ما يوازي القسوة شيئا مغاير هو الحب، وهذا العذاب الذي أرسى بكاليغولا إلى برك الدم، حين فقد دروزيلا أخته وعشيقته معا مع العلم أن في ذلك الزمن كان يحق للخاصة الزواج من الأخوات هذا الفقد الذي جعله يطلب المستحيل فأراد القمر مقابل عشقه الذي رحل مع إنه يدرك أن لا عشقه سيعود ولا القمر سيناله . تناولت هذا الجانب لأن وكما يقول ‘فرويد’ ما من عاطفة صادقة’، فكاليغولا ليس أسوة بكل البشر لا الطغيان عنده كلي ولا الحب في داخله مطلق، فقد تناولت جانب الحب المستحيل في نفس كاليغولا عبر لغة شعرية تأخذ جانبا صوفيا في العشق واستخدمت لغتي التي تخصني بالكتابة إذا قرأت نصوصي على النت، فمثلا حين يناجي دروزيلا يقول: ‘دروزيلا أيها المرأة التي علقت على يديها اثنتي عشر قمرا وهي تغسل قمصان قلبي بماء لا يعرفه سواي’ كما أنني استخدمت لغة القرآن بهذا النص حين يقول: ‘دقت الساعة وانشق القمر’ كما أنني أعطيته طابعا حسينيا ندابا في عملية الإخراج وجعلت شخصيته أكثر قربا من المشاهد العربي في كثير الأحايين وخاصة حين يقول: ‘ما من شيء يلفظ إلا عليه رقيب عتيد’ وتقصدت النص القرآني لتأكيد الجبروت والطغيان لدى كاليغولا الذي أراد أن يقوم مقام الآلهة، كما أنني غيرت طريقة موته ففي نص كامي يقتله مجلس شيوخه، أما في المونودراما يقتل نفسه لأنه كما يقول: ‘لا يريد أحد أن يقتلني’ وحاولت أن أجيب في النص المونودرامي عن أسئلة الوجود التي طرحها كامي في أغلب نصوصه، وقد لاقى العرض بعدما أخرجته قبولا كبيرا كما لاقى نفورا كبيرا من آخرين حول لغة النص وشكل تقديمه فقد كان جريئا شكلا ومضمونا.
وأنا أقول أنه لا حدود في الإعداد شريطة أن يحافظ على اسم الكاتب ولو كان نصا مغايرا، بكون المعد حتى لو اتكأ على فكرة العمل، أو على أحد الخطوط الدرامية الموجودة في النص أو اسمه أو شخصية ما في النص أو البنية النفسية لهذه الشخصية، إذا لا قدسية لنص أمام الإبداع.
مسرح البذور والعجيان
مسرح الطفل العربي، هل أنت معي فى تدني النظر له من قبل القائمين عليه؟ – وأنت ناقد ومتابع دؤوب ما مشكلة مسرح الطفل العربي تحديدا؟ القلم أم الخشبة؟
الطفل في الوطن العربي هو مواطن من الدرجة الثالثة بعد السيد الرجل وتابعة السيد زوجته المرأة رغم كل الشعارات الفارغة التي طرحت عبر مؤتمراتهم الطفلية ورغم توصياتهم المؤتمرية التي تبقى في الدروج والخزائن ولا ينفذ منها شيء، كما أن البعض يهتم بحيواناته الأليفة أكثر من الاهتمام بالطفل، فكيف نستطيع أن ننتج ثقافة طفلية بينما القائمون على النتاج الثقافي الطفلي لا يدركون معنى الطفولة من جهة وماهية ثقافته من جهة أخرى، وهذا ما نراه ضمن اللهجات العربية التي تعني الطفل، فمثلا في الخليج يقال عنهم ‘بذور’ أو بذران وفي سورية يدعونهم بـ ‘العجيان’ ومفردها عجي ولا أدري باقي اللهجات التي تكني الطفل وكأن العربية لم تقل أطفالا، أو صبيانا وبنات. وطالما هناك أزمة مسرح للكبار في أغلب البلدان العربية فبالضرورة يكون مسرح الطفل هو حالة ترف إذا وجد بالمعنى الحقيقي، واغلب الأشكال الموجودة تأخذ إما طابع الربح المادي واستغلال الفرجة عند هؤلاء الأطفال وإما حالات متحفية لحكايات متوارثة ضمن الذاكرة الشعبية وتقدم كما توارثت تحت مجموعة من الشعارات والحفاظ على ذاكرتنا الثقافية وغالبا ما يقدمها المسرح الرسمي في البلدان العربية ومشكلة مسرح الطفل لا تكمن لا في الكتابة المسرحية ولا بما يقدم على الخشبة إنما تكمن في آلية التفكير التي تتعامل مع الطفل بالدرجة الأولى وبثقافته بالدرجة الثانية لأن كل ما يقدم له هو ضمن آلية الوعظ والإرشاد والتواصي متناسين أن الطفل حالة إدراكية عالية وإنه يعي بالفطرة أن الكذب والسرقة وما شابه هي أشياء مشينة، فيلاقي هذا الوعظ بداية في البيت من والديه وأخوته الكبار ومن ثم في الشارع من جاره الذي ينصب نفسه وصيا عليه ومن بعدها يلاقي نفس الإرشادات في المدرسة من قبل أستاذه ومثله الأعلى، فيهرب إلى المسرح ليجد ذاته في مقعده المنفرد والذي يشكل له خصوصية مهمة فيلاقي على خشبة المسرح نفس الوعظ والإرشاد الذي تركه وراءه فنرى الطفل يتجه إلى اللعب في الكرة أو في الدحل أو حتى الانحراف أحيانا أفضل له وأكثر حرية، بينما أصوات القائمين على مسرح الطفل تتعالى لكي تكون له ثقافة حضارية متناسين أن مسرح الطفل له أسس وقواعد تعتمد على علم النفس التربوي والذي فرد له الفلاسفة مجلدات كي نستطيع أن ننشئ جيلا حضاريا ليبني بلاده بشكل راق.
ولكي ننشئ مسرح طفل حقيقي ما علينا أولا إلا أن ننسف الذاكرة الطفلية والتي لا ترى في الذئب إلا المكر والخديعة، ألا يمكن أن يكون الذئب يوما كائنا جميلا ونبيلا، ولما يبقى الأرنب مظلوم دائما ولماذا ليلى تخاف الذئب، لما لا ننسف الخوف من أساسه عند الطفل، ولما سندريلا دائما قليلة الحيلة وتنتظر الساحرة كي تفكر عنها وتعمل بدونها ؟ هي مجموعة من الأسئلة التي يجب الوقوف عندها والرد عليها بجرأة وصدق أعلى . فمسرح الطفل في الحقيقة هو فن أولا وقبل أي تحديد آخر، فإذا كان من الضروري أن نجعل مسرح الطفل هو أداة لتكريس القيم النبيلة فمن هو الذي يحدد نبل هذه القيمة وعدم نبل تلك، لذا بداية علينا أن نبحث عن أناس قائمين على إمكانية تحديد ما يريده المسرح الطفلي العربي وكيف يجب أن نقدمه آخذين بعين الاعتبار الجانب الجمالي والتقني بعد الجانب القيمي. لكن واقع الحال في مسرح الطفل يشير إلى غياب رؤية واضحة حول مجموعة السلوكيات والملامح البشرية التي ينبغي أن نقدمها للطفل، بوصفها أنماطا تربوية سيتأثر الطفل بها، بل يقلد سلوكها أيضا، كما أن المسرح الطفلي دائما لديه الرغبة في تبسيط الأشياء والأفكار ومنح الشخصيات سمات هشة أحيانا، والاتكاء على الخيال الذي يتجاوز قوانين المنطق، وقد أفضى بتلك العروض غالبا إلى شكل من أشكال التسطيح والسذاجة والاستسهال، وبهذا يتم تجاوز اللعبة المسرحية الطفلية وفعلها الدرامي بدأ من النص ومرورا بالإخراج وانتهاء بالأداء التمثيلي، وقد يضاف على ذلك أن أغلب العروض لا تمد الطفل معلومات مفيدة أو خبرة حياتية حضارية وغالبا هكذا عروض لا تتعرض إلى هموم الطفل التي يواجهها، ونحن ندرك أن هناك أشكالا من الخطر تواجه الطفل العربي، وهي أخطار اجتماعية تربوية لما لا نتصدى لمواجهتها بجرأة عبر مسرح الطفل، من أهمها الضرب الذي يتلقاه الطفل في البيت والمدرسة معا، حالات الاتجار الطفلية وتشغيل الأطفال. التحرش الجنسي، الجوع والمرض والأمية التي يعانيها أغلب أطفال الوطن العربي، لماذا مسرح الطفل لا يطرح هكذا هموم تواجهه بشكل يومي. هذه مهمة المسرح الطفلي برأيي، وكما قلت أن الأزمة تكمن في آلية التفكير ومجموعة الصيغ التي نحقق بها هذه الآلية.
وأخيرا: تحلم بالعدالة والحرية .. وترى ذلك حلما بسيطا .. فهل هناك حلم أكبر من ذلك لفنان حقيقي؟
لو تحققت لي العدالة والحرية، وهذا أراه حلما بسيطا ومتواضعا حينها أسمح لنفسي أن تحلم بالحب وهذا مطلب شرعي لكل إنسان، وحين يتحقق الحب أكون قد وضعت قدمي على بداية طريق الإبداع وهذا مطلب في غاية الصعوبة أمام الكم الهائل من التابوهات التي تقف في وجه تحقيق العدالة والحرية، حيث تلاقي جيوشا من الجهل قد شرعت حرابها لقتل الحب، وتنفتح بذلك سجونا لاعتقال الإبداع …. لذا دائما أحلامي هي بسيطة وبسيطة جدا.
القدس العربي