في الاستبداد المصري
ساطع نور الدين
لا تتوقف البكائيات على وضع مصر ونظامها ومجتمعها، وعلى اللغز المحير الذي يطرحه احتمال غياب رئيسها العجوز حسني مبارك، وحجم التغيير الذي يمكن أن تشهده بعد رحيله، والذي يمكن أن يكون له أثره على العالم العربي كله، حسب تقدير الكثيرين ممن يتمنون الزعامة المصرية أو يخشونها.
السؤال مشروع، لانه ينطلق من قوانين الطبيعة التي لا تؤمن الخلود للرئيس مبارك، ولا توفر الجمود لذلك الحشد من المنتظرين لحظة الوراثة، التي يبدو ان اهم ما فيها هو ذلك التحول الجوهري الذي طرأ في السنوات القليلة الماضية على الوعي المصري للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتي ظلت على مر تاريخ بلاد النيل مبنية على قدر كبير من التسلط من جهة والتسليم من جهة أخرى.
وهي بهذا المعنى حقبة استثنائية في تاريخ مصر، لا يمكن اختزالها بتلك الفوضى العارمة التي تسود المجتمع المصري ومكوناته الرسمية والخاصة، والتي تقترب من حد التسيب الذي أدى ويؤدي كل يوم إلى خسائر بشرية ومادية جسيمة في مختلف قطاعات العمل والإنتاج، كان يمكن تفاديها بالقليل من النظام العام والكثير من التكافل الاجتماعي المهدّد بأشكال شتى لم يعرفها المصريون من قبل.
لكنها ليست حالة مشينة كما يحلو لاعتقاد البعض أن يصفها ممن يريدون لمصر ان تظل على صورة ومثال فرعوني تقليدي: حاكم يأمر وجمهور يذعن. ثمة ثقافة اجتماعية وسياسية جديدة تتكون لدى المصريين تعبر عن توق تقليدي قديم الى التوقف عن الركوع للصنم بل وتحطيمه، والبحث عن مسار مختلف لتنظيم العلاقة مع الدولة وتحديدها. وهو ما يمكن ان يسمى نوعاً من أنواع الحداثة، التي تعادل حسب المعايير المصرية الانقلاب المضاد على جميع الحكام الذين حكموا تلك البلاد على مدى ستة آلاف سنة او يزيد.
ليس من المعيب للحاكم المصري الحالي ولا للجمهور أن تسقط صفة القداسة او العظمة التي ظلت تربط بينهما. وليس من الخطأ أبداً ان يتحول الاعلام والشارع المصري الى منصة انتقاد يومي قاس للرئيس وعائلته ومحيطه، والى قاعدة لتقويض الاشكال التقليدية للسلطة ذات التكوين الاستبدادي، لا سيما منها الشكل الأمني.. خصوصاً أن العنوان هو الفساد والفراغ على مستوى القمة. ومهما كانت كلفة هذا السلوك الشعبي الجارف، فإنه أفضل بكثير من أن يعود المصريون يوماً للرقص على ايقاع زعيم اوحد، او التبخير لصوابية رأيه وذكاء سياسته، كما هو حاصل في بقية الدول العربية التي لا تزال تنام على صور واقوال زعماء لا تفصل بينهم وبين الجنون سوى شعرة.
يريد البعض من المصريين والعرب أيضاً زعيماً مصرياً قوياً، يبطش ويقمع الحريات ويوقف عجلة الاقتصاد التي لا تدور حوله ويعطل السياسة التي لا تبشر بحكمته، ويتولى قيادة الامة كلها، كما فعل كثيرون من اسلافه، الى مستقبل مشرق بشمس العروبة التي استعارها الاسلاميون ولن يردّوها قريباً، قبل أن يتأكدوا من نشر اشعتها اللاذعة في كل بلـد عربي.. عدا مصر التــي تكتــشف هذه الأيام، ولو بكلفة باهظة، سبل التخلص من جميع اشكـال الاستبداد.
السفير