محاكمة جمال مبارك
عبد الحليم قنديل
ربما لا يصح لأحد ـ عاقل ـ مجرد طرح اسم جمال مبارك لتولي منصب الرئاسة في مصر، فهذه جريمة كاملة الأوصاف، واغتصاب علني مباشر للسلــــطة والثروة في بلد عظيم منكوب.
لا نتحدث هنا ـ فقط ـ عن صحيفة الحالة السياسية لجمال مبارك، فليس له من قيمة سوى أنه ابن الرئيس، ولو لم يكن كذلك، ربما ما التفت إليه أحد، ولا جرى إقحامه في الحياة المصرية بصورة فجة غليظة القلب، وفرضه على الأسماع والأبصار، وتزوير الدستور على مقاسه، وجعله شريكا فعليا في ‘رئاسة مزدوجة’ مع الأب، وطرح اسمه لتوريث الرئاسة رسميا بتعيينات إدارية تنتحل صفة الانتخابات (!).
و’الجناية السياسية’ ليست وحدها عنوان الجريمة في قصة جمال مبارك، فتأييد توريثه للرئاسة ـ صراحة أو ضمنا ـ عار أخلاقي قبل أن يكون عارا سياسيا، وعطب في الضمير قبل أن يكون خللا في التفكير، وفساد في الذمة، وخيانة للأمة.
ربما السبب في صحيفة الحالة الجنائية لجمال مبارك، وهي أسوأ بمرات من صحيفة حالته السياسية، وكما لا يصح السؤال عن تأييد توليه للرئاسة من عدمه، فإن الطلب الذي يصح ـ بسند القول والممارسة ـ هو محاكمة جمال مبارك، والآن وليس غدا بعد أن تكون الفأس وقعت في الرأس، فهو يستحق المحاكمة العاجلة من ثلاثة وجوه على الأقل، أولها: يخص ثروته وثانيها: عن انتحاله لصفات دستورية وتنفيذية ليست له، وتجعله في وضع سارق الصفات، وثالث وجوه المحاكمة المطلوبة يتعلق بمسؤوليته المباشرة عن بيع أصول مصر وتجريف ثروتها الانتاجية والريعية.
وفي التفاصيل بعد العناوين، فلا أحد يعلم ـ بالضبط ـ كيف تكونت الثروة الشخصية المليارية لجمال مبارك، وفي مصر قانون موقوف عن العمل اسمه: من أين لك هذا؟ وقد جرى تحنيطه في إدارة لاحول لها ولا طول اسمها ‘الكسب غير المشروع’، وتكتفي بتلقي إقرارات الذمة المالية لموظفي الدولة حتى منصب الرئاسة، وبالطبع لا يوجد ـ حتى لدى هذه الإدارة الشكلية ـ إقرار ذمة مالية لجمال مبارك، فهو ليس موظفا رسميا بعد، بينما دوره الفعلي يفوق أدوار كافة الموظفين الرسميين، وما نطلبه ـ بالدقة ـ شيء غاية في البساطة، فجمال مبارك يتحدث كثيرا ـ كالببغاء ـ عن إتاحة المعلومات وضمان الشفافية، ونحن لا نطلب سوى أبسط مبادئ الشفافية، وهو أن يقدم جمال مبارك إقرارا بذمته المالية، على أن ينشر في وسائل الإعلام، ويكون قابلا للطعن عليه ممن يعرف، والنكتة المصرية المشهورة تتحدث عن جواب عبثي لمصادر ثروة جمال مبارك، وتنقل عن مبارك الأب قوله : أن ثروة الابن المليارية بدأت من مصروف جيبه الشخصي، والنكته ـ كما هو ظاهر ـ أقرب إلى الكوميديا السوداء، فقد ولد جمال مبارك بلا ملعقة ذهب في فمه، ولد لأب كان يعمل ضابطا بالقوات المسلحة، ولا يملك سوى راتبه المحدود، وأدخل ابنه الأصغر إلى مدارس التعليم الأجنبي، فقد تعلم جمال مبارك في مدرسة مسز دوللي الإبتدائية، ثم في مدرسة سان جورج الإعدادية، وحصل على الثانوية الإنكليزية، وتخرج في الجامعة الأمريكية بالقاهرة قبل أن يصبح الأب رئيسا، والتحق منذ العام 1987 بالعمل في فرع بنك ‘أوف أمريكا’ في مصر، ثم انتقل للعمل مديرا لفرع البنك نفسه في لندن، وهناك تكونت الخميرة الأولى لثروته المليارية، وليس من مصروف الجيب المدرسي (!)، وهنا قد نذكر باعتراف مبارك الأب نفسه، وفي حوار صحافي منشور أجراه مكرم محمد أحمد نقيب الصحافيين المصريين الحالي ورئيس تحرير ‘المصور’ الأسبق، جرى الحوار بالقرب من أواسط التسعينيات، وفيه سأل مكرم عن نية الرئيس لإقحام ولديه علاء وجمال في السياسة، وقتها نفى مبارك ما أشيع عن نيته، وقال : أن ولديه مشغولان بالبيزنس، وقال ما هو أوضح عن جمال مبارك بالذات، قال : إنه يكسب كثيرا من عمله في بنك ‘أوف أمريكا’، وأنه يشتري ديون مصر لصالح البنك، وضرب مثلا بدين مصري لصالح الصين اشتراه جمال مبارك، وقصة شراء الديون معروفة، وملخصها أن يقوم وسيط ـ بنك أو غيره ـ بشراء الدين من صاحبه بنصف قيمته أو أقل، ثم أن يتسلم أصل الدين كاملا من المدين، والمكسب هنا بعشرات الملايين وبمئاتها، والمدين هنا ـ باعتراف الأب ـ هو الدولة المصرية، والتي تورط مسؤولوها في تسهيل مهمة جمال مبارك بشراء الديون، أي أن أصل ثروة الابن مشكوك في مشروعيتها باعتراف الأب نفسه، وقد أسس الابن بالخميرة الأولى لثروته شركة ‘ميد انفستمنت’ المسجلة في لندن، وبرأسمال قدره مائة مليون دولار لا غير، وبعد سنوات من عودته إلى مصر، فقد قدرت ‘بيزنس ويكلي’ ثروة جمال مبارك الشخصية بحوالي 750 مليون دولار، وهو ما يبدو الآن رقما متواضعا قياسا إلى التضخم الفلكي لثروته، فقد دخل أو أدخل إلى مجالس إدارات بنوك أجنبية كبرى كالبنك العربي الأمريكي والبنك العربي الأفريقي، ثم كانت القفزة الكبرى بأن أصبح عضوا في مجلس إدارة مجموعة ‘هيرميس’ المالية الدولية، وهذا هو النزر اليسير المعروف من حكاية ثروة جمال مبارك، ربما الأخطر فيما يجري من وراء ستار، والذي جعله مليارديرا وشريكا من الباطن لمليارديرات كبار بالقرب من العائلة، ونحن نتحدى جمال مبارك أن يقدم إقرارا علنيا بثروته إلى الرأي العام، وبيان ما إذا كان يدفع ضرائب، أو أن الضرائب ـ وغيرها ـ هي التي تنتهي إلى جيبه وإلى حسابات البنوك السرية.
الوجه الثاني لطلب محاكمة جمال مبارك ظاهر بغير التباسات، فليس للابن ـ الموعود بالتوريث ـ صفة دستورية تشريعية أو تنفيذية إلى الآن، ومع ذلك فهو يمارس ـ فعليا ـ صلاحيات تفوق صلاحيات كل الذين لهم صفات، فهو ينتحل صفة الرئيس أحيانا، وينتحل صفة رئيس الوزراء في أغلب الأحيان، يذهب إلى خارج البلاد في زيارات رسمية وشبه رسمية، ويترأس اجتماعات يحضرها رئيس الوزراء والوزراء، ولا معنى هنا للتذرع الساذج بمنصبه الحزبي، وكونه واحدا من أمناء العموم المساعدين بالحزب الحاكم، فالأمين العام للحزب الحاكم نفسه ـ صفوت الشريف ـ لا يتاح له عشر ما يتاح لجمال مبارك، والدنيا كلها في علاقة الصفات الحزبية بالصفات التنفيذية تختلف مدارسها، ففي بريطانيا ـ ونظم على مثالها ـ يكون زعيم الحزب الحاكم هو نفسه رئيس الوزراء، وفي أمريكا لا صفة تنفيذية تعطى لرئيس الحزب الحاكم، و لا يكاد أحد يعرف اسمه، أما في مصر فلدينا رجل واحد، هو نفسه رئيس الحزب الحاكم ورئيس الجمهورية ورئيس المجلس الأعلى للشرطة ورئيس المجلس الأعلى للقضاة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، واسمه الآن ـ فيما يعلم الكل ـ هو حسني مبارك وليس جمال مبارك، وليس لأحد آخر في الحزب الحاكم صفات رسمية أو مجازية، إلا أن يكون قد جرى تعيينه وزيرا أو رئيسا للوزراء، أو رئيسا لمجلس الشعب أو لمجلس الشورى، ولم يصدر ـ فيما نعلم ـ أي قرار بتعيين جمال مبارك في أي منصب تشريعي أو تنفيذي إلى الآن، لكنه يعمل على طريقة ‘ابني بيساعدني’ التي تحدث عنها مبارك الأب عفويا في حوار لقناة ‘العربية’ جرى بثه في كانون الثاني (يناير) 2005، والتي حولت مقام الرئاسة الرفيع إلى ‘محل كشري’، وخولت لجمال مبارك فرصة انتحال الصفة التي تحلو له ومتى أراد، فمرة يكون في وضع الرئيس، ومرات يكون في وضع رئيس الوزراء، ودائما في وضع ‘منتحل الصفات’ خروجا على أبسط مبادئ القانون والدستور، ويقوم بزيارات رسمية خارج البلاد، وإلى مهبط الوحي في ‘البيت الأبيض’ نفسه، يتحدث الصحافي الأمريكي الشهير بوب وودوارد في كتابه ‘خطة الحرب’ عن أول زيارة سرية لجمال مبارك إلى البيت الأبيض، وعن لقائه بالرئيس الأمريكي السابق بوش ونائبه ديك تشيني قبل أسابيع من حرب غزو العراق، وعن نقله لرسالة من أبيه تعرض استضافة الرئيس العراقي السابق صدام حسين في لجوء سياسي للقاهرة، جرى العرض بغير طلب من صدام ورفضته واشنطن، وفي 11 و12 ايار (مايو) 2006 جرت الزيارة السرية الثانية، ودخل جمال مبارك وقتها من الباب الخلفي للبيت الأبيض، والتقى بوش وتشيني وستيفن هادلي وكوندوليزا رايس، وجرى النقاش عن الداخل المصري، وعن طلب دعم أمريكي لتوريث الرئاسة، ثم انتقلنا من السر إلى العلن في 2009، وصحب مبارك الأب ابنه في زيارته الأخيرة لواشنطن، وبالتواقت مع لقاء أوباما في البيت الأبيض، أي أنه جرى انتحال صفة الرئيس لجمال مبارك أو نائب الرئيس، ودون أن يصدر قرار رسمي إلى الآن.
الوجه الثالث لطلب محاكمة جمال مبارك هو أفدح الوجوه، فقد صار ـ بالممارسة الفعلية ـ شريكا في الرئاسة، ومنذ أن جعلوه رئيسا لما يسمى ‘لجنة السياسات’ في أوائل سنة 2002، وانتقل إليه ـ حصريا ـ ملف إدارة الاقتصاد، ومع ترك ملف الأمن للرئيس الأب، وملف الخدمات للرئيسة الأم، وكان قرار تعويم سعر الجنيه المصري ـ في كانون الثاني (يناير) 2003 ـ أول تجليات الدور الجديد لجمال مبارك، وقد نزل القرار بسعر صرف الجنيه المصري إلى النصف، ونزل بقيمة الموجودات المصرية كلها إلى النصف، ثم كان اختيار أحمد نظيف رئيسا للوزراء ـ في تموز (يوليو) 2004 ـ قرارا خالصا لجمال مبارك، وسيطر رجال جمال مبارك على المجموعة الوزارية الاقتصادية كلها، وهو ما يعني المسؤولية الفعلية المباشرة لجمال مبارك عن قرارات بيع الأصول وشركات القطاع العام، والتي تدافعت بشدة في السنوات الأخيرة، وانطوت على جرائم إهدار مال عام بمليارات الجنيهات.
وقد نفهم حرص مبارك الأب على البقاء في الرئاسة، فهو يعرف أنه لا اختيار أمامه إن ترك القصر سوى أن ينتقل لقفص الاتهام، والمطلوب ـ الآن ـ وضع جمال مبارك في قفص الاتهام قبل أن يفلت من العقاب بتولي منصب الرئاسة.
كاتب مصري
القدس العربي