عالم خال من الأسلحة النووية!
د. طيب تيزيني
عهدت البشرية، في مختلف أطوارها، مراحل من التأزم الخطير كادت تُدخلها في صراعات ما كان لها أن تتوقف إلا بنهايتها. لكن طبيعة الأسلحة التي احتكمت إليها، لم تكن قد دخلت مرحلة الإفناء الجماعي الكلي. ولذلك، كانت كلما مرت بمثل تلك الوضعية \”الحرجة\” في تاريخها، استعادت مشاعر الرعب مع اعتقادٍ بأن نهايات أو نهاية العالم قد اقتربت بل دخلت حيز الواقع. وحين كان فريق من أولئك البشر يحاول التبصّر فيما يحدث، يصل إلى أن السبب الكامن وراء ذلك يتمثل في ما تصنعه كثرتهم أو قلتهم، من أدوات تدمّر الحياة. ولم يكن الوعي البشري قد دقّق في أمرين حاسمين على هذا الصعيد، يتمثل أولهما في أن أدوات الإنتاج والعمل يمكن أن تمارس، كذلك، وظيفة السلاح إما للهجوم وإما للدفاع. فاقترن -على هذا النحو- اعتقاد بأن التقدم على صعيد المجتمع إنما هو تدمير لهذا الأخير نفسه. واختلط الموت بالحياة، واللااستمرارية بالاستمرارية.
بتلك الكيفية نشأت مقاومة لـ \”التقدم\”، مع نزوع متعاظم للحنين نحو الماضي والعودة إلى \”بساطته\”، اعتقاداً بأن السبب في ذلك يكمن في التقدم التقني، وليس في من يتملكه لصالحه. من هذا الموقع برز الأمر الثاني، الذي تجلى في أن مجموعات اجتماعية بعينها أخذت تبرز كمدافع عن ذلك \”التقدم\”، وعن النتائج التي يُفضي إليها ويمكن توظيفها في خدمتها (أي المجموعات المذكورة). وبتعبير آخر، راح يتضح أن السلاح ليس شأناً تقنياً خالصاً يوضع في خدمة الناس في حياتهم اليومية، ومن شأن ذلك أنه أظهر أن الوظيفة الاستعمالية الاستهلاكية ليست هي الوحيدة، التي ينجزها جسم معدني مدبَّب وحاد. فمع هذه الوظيفة، برزت شيئاً فشيئاً وبقوة متنامية وظيفة أخرى هي القتل والردع والتدمير.
ضمن هذا السياق ومع خطوتين اثنتين أخرييْن، اكتملت البنية الوظيفية للسلاح، الذي هيمن في العالم، وأصبح سيّده. أما الخطوة الأولى فتجلت في تحول الأسلحة إلى خدمة نُظُمٍ اقتصادية وسياسية، تُحكم قبضتها على السلطة والثروة الوطنية والشبكات الإعلامية، التي تصنع الرأي العام من طرف، وتمثل امتداداً عسكرياً في الخارج للمشاركة في حروب ارتزاقية أو احتلالية…إلخ، من طرف آخر، تذهب عائداتها ومكاسبها لذوي السلطة والثروة في الداخل، وتخلق بؤساً وفقراً وأحقاداً. وتبرز الخطوة الثانية التي تفصح عن نفسها في سباق التسلح، بعد أن يكون السلاح قد أصبح مندمجاً بالخطط الاقتصادية الوطنية.
وسوف يبلغ الصراع بين المعسكرين السابقين مداه الأقصى، إلى درجة أن إنهاءه أو إضعافه أو إخراجه من دائرة أخطار التدمير العالمي، كان قد مرّ بطريق شكَّل مفارقة هائلة في تاريخ العالم الحديث: أنْ يطور المعسكران أسلحتهما الأكثر خطراً وفق ما توصلا إليه بصيغة المبدأ العسكري الاستراتيجي الشهير، \”مبدأ توازن الرعب\”. وعلى هذا الأساس، انطلقت حركة تسلّح هائلة من كلا الفريقين، دون أن يُعفي ذلك الفريق الغربي خصوصاً، من التبعات التي يتحملها عسكرياً وأخلاقياً حيال ذلك.
وإذا كان ضحايا الحروب وشعوبهم يلاحظون ما يتعرضون له سواء في حروب محلية أو إقليمية أو عالمية، فقد كانوا يبحثون عن طرق وحلول تنقذهم منها، خصوصاً أنهم وضعوا أيديهم على حقيقة فظيعة ومرّة، وهي أن مُشعلي الحروب ينجون -في حالات كثيرة- من ويلاتها، في حين أنهم هم كانوا من يدفع الأثمان الباهظة. فكانت أصوات شعوب ومجموعات من السياسيين والمناضلين قد راحت تطالب بتدمير وسائل التدمير. وتحول هذا الهاجس إلى مشروع فلسفي وسياسي وأيديولوجي واقتصادي اجتمع عليه أعداد متنامية من البشر. وبقدْر ما كانت بعض الإدارات الليبرالية في أوروبا وأميركا تسعى إلى تكريس الحروب في العالم، خصوصاً بصيغة ما راح يندلع منها بعد الحربين العالميتين المدمرتين، فقد كانت هنالك مخاطر أخرى لاندلاع حروب من نمط جديد يهدّد الجميع، القاتل والقتيل، نعني الحروب النووية، التي عاشت البشرية طرفاً منها في هيروشيما وناجازاكي.
من هنا إذن، كان ظهور المشروع العالمي الداعي إلى تحريم تلك الحروب. ففي هذا السياق، تبرز الخطورة العظمى لأي حدث عسكري نووي في العالم، بقدْر ما تبرز الأهمية لأية دعوة لتحريم الحروب المذكورة من قِبل أية دولة في العالم، فكيف إذا كان الأمر متصلا بالولايات المتحدة الأميركية! وبهذا، فإن دعوة أوباما الراهنة إلى إنجاز تلك المهمة الكونية، تبرز بمثابتها منطلقاً باتجاه تاريخ جديد للعالم، يقوم على السلم الدائم. وإذا كان فوكوياما قد بشر بنهاية التاريخ لصالح النظام العولمي السّوقي، فإن أوباما يطرح -على الضدّ من ذلك- مشروعاً لتأسيس عالم خال من الأسلحة النووية. ومن شأن هذا أن يفرض نفسه على كل دول العالم، بما فيها إسرائيل، وأن يشجع على إعادة توزيع الثروة بين الشمال والجنوب.
الاتحاد