حكومة كل لبنان
بول شاوول
يتمنى اللبنانيون أن تتألف حكومة تُعبّر عن آمالهم وارادتهم ومصالحهم واحلامهم، بعد جولة الاستشارات (الثانية) التي أجراها الرئيس المكلف سعد الحريري، تلك الاستشارات العمومية والمتكررة مع بعض الأطراف، والمنفتحة على الاقتراحات لا سيما المعقولة والايجابية التي تساعد على إنجاح تأليف حكومة عتيدة تكون حكومة دولة لبنان.
ونظن ان الانتخابات الشفافة التي جَرَت وانبثقت عنها أكثرية وأقلية واسفرت عن تكليف الحريري مهمة تأليفها، والتباينات التي ظهرت والتناقضات والتنوعات والاختلافات والخلافات، كانت دليلاً ساطعاً على ان النظام اللبناني (برغم هناته ونواقصه) ما زال يتمتع بعافية وقوة واستمرارية لا تجدها لا عند الأنظمة الشمولية، ولا عند أنظمة الحزب الواحد أو البؤرة الواحدة. نظامنا وبرغم حاجة قانون الانتخابات إلى تعديل (يخدم ديموقراطيته) يتحرك، (وبرغم كل شيء) تحت سقف دستور، اجمع عليه اللبنانيون وجاء تحت دستور الطائف. فهذا الدستور هو دستور الدولة اللبنانية الكلية، وهو ما زال سارياً. وبحكم سريانه، لا بدّ من أن الجميع، أطرافاً وفرقاء ان يخضعوا له. ونظن أن الاستشارات الأولى والثانية انما تمت تحت سقف الدستور، سواء من حيث تكليف رئيس الجمهورية سعد الحريري التأليف، أم قيام هذا الأخير بواجباته الدستورية عبر الاستشارات غير الملزمة.
تبقى تمايزات ما. وتآويل ما. واصطلاحات ما، ترتبط بالظروف، أو بالحالات أو بالأمور الواقعة الراهنة، وكذلك بالمواقع الاقليمية وغير الإقليمية، من حيث الحضور، أو وسائل الدفع، لتكون في مواقع تسهيل الأمور لا تعقيدها، واحترام ارادة الناس لا إهمالها، والتوازنات المرعية من خلال اللعبة الديموقراطية. فحكومة الدولة الدستورية. تعني حكومة كل اللبنانيين. وتعني حكومة كل لبنان، باعتبار الدستور هو لكل لبنان، وليس لفئة دون الأخرى.
واحترام الدستور هو احترام اللبنانيين كشعب يعيش في ظل جمهورية محددة “الحدود”، والمعالم والقوانين والنظام والكيان وتالياً السيادة وعندما نقول حكومة كل لبنان، لا نعني لبنان من هنا، أو من هناك، بقدر ما نعني لبنان الشعب. والحكومة عندما تكون منبثقة كمجلس النواب عن الشعب، تكون حكومة بلا استثناء، سوى ما تميزه التجربة اللبنانية من هوامش حية، ومن ديموقراطية غير متوفرة لا في الجوار الاسرائيلي الغارق في لعبة القتل والعنصرية، والفارض، دولة يهودية صافية نقية بعرقها (نتذكر الدولة النازية بعرقها الآري الصافي النقي)، ولا في الجوار القريب حيث الأنظمة هي التي توفاها الله عندما سقطت بين براثن الدكتاتورية والشمولية والمذهبية والبيروقراطية والمخابرات والأجهزة، بحيث بات “النظام” الشكلي اقرب الى اللانظام المعنوي، خصوصاً عندما يقع اسيراً في قبضة أقلية عسكريتارية او غير عسكريتارية. ونظن أن النظام اللبناني الراهن، وعلى الرغم من كل الشوائب والأخطاء هو نظام قابل للحياة لأنه نظام المرونة، ونظام الشعب والانتخابات الحرة، والصحافة الحرة والتعبير الحر (المفقودة كلها عند من يبشر بموت نظامنا وهو يقصد في لاوعيه موت نظامه) والاقتصاد المفتوح بحذر، والانماء المتنامي برغم الحروب (40 عاماً) والمعارك والوصايات النهّابة الجشعة، والدليل خروجه من الأزمة الاقتصادية العالمية (ومن الأزمات الأمنية: قاتل الله من اثارها وافتعلها!) معافىً واقوى وموضع ثقة وتقدير واحترام من العالم كله… ما عدا بالطبع من لا نعرف حتى الآن ما هو نظامه الاقتصادي الهجين.
من هنا يأتي تأليف الحكومة كجزء من حيوية النظام (وكذلك كجزء من ازماته: النظام الذي يعي ازماته يتطور. اما النظام الجديد الذي لا يعي سوى سلطة اهل النظام وأربابه.. فهو ساقط لا محالة) وكجزء من التبادلية، مهما شابها من عراقيل، وتدخلات، وانتهاكات، تعود أولاً وأخيراً الى ان الحكومات السابقة منذ 40 عاماً، كانت حكومات الآخرين، وأدوات الآخرين وفرضيات الآخرين.
من هذه الزاوية بالذات نرى الى كل ما جرى منذ اشهر بعد تكليف الحريري بأنه (رغم التهويل والتهديد واشكال التعجيز..) مجالاً لاختبار جديد للدستور والدولة وللبنان. ونظن ان كل ظاهرة هي اختبار جديد لكل ذلك. فالأنظمة تتطور عبر اختباراتها وتصحيح اخطائها، وتعزيز مساراتها الديموقراطية، فالحريري كلف نتيجة وجود اكثرية انتخابية. وهذا ليس بقليل في العالم الثالث المكتظ بالانقلابات وبيعات 99,99 (المزيفة اصلاً) حيث السلطة هي التي تنتخب الشعب وليس العكس. والواقع، ولأن الشعب اللبناني انتخب اكثريته، وانتخب تكليف الحريري، فيعني ان هذا الشعب قادر على حماية استحقاقه وعلى الدفاع عن حكومة تكون مجسدة لعناوينه واحلامه واختياراته. وهذا ما قاله الرئيس المكلف مرات، حيناً بطريقة مباشرة وحيناً بطريقة غير مباشرة. فهو يأتي الى رئاسة الحكومة من موقع القوي (والقوة للشعب وليس للسلاح أو الفرض وهي أسلحة الضعيف عندما يريد ان يلغي وجود القوي!). وهو يأتي من ارادة الملايين؛ ولا من جهاز فوقي، او من نظام تحتي… واذا كان الرئيس المكلف الذي صبر صبر ايوب، وعانى جلجلة الاتصالات والشروط والمطالب والعقد… قد أظهر مرونة، او قدم “تضحيات” او واجه اشكال التصلب بهدوء فلأنه يتصرف كرجل دولة مسؤول عن مصلحة البلد، وعن الدستور وعن اللعبة الديموقراطية انه يحمي بسلوكه هذا، انجازات الشعب وارادته والكيان والجمهورية؛ وعندما يتمسك بالدستور ميزانياً لا يعلوه ميزان، وقاعدة فوق كل القواعد فلأنه مسؤول (مع الآخرين) عن هذا الدستور الذي يمسك الجمهورية والدولة والمصير.
ذلك لأنه يعرف جيداً ان مبادلة التعقيد بالتعقيد والتصلب بالتصلب، والعناد بالعناد، والتهديد بالتهديد والوعيد بالوعيد والشارع بالشارع والسن بالسن، فيعني ان يستغل “صيادو الخراب” ذلك لخربطة الأمور واحداث الفتن، ولا سيما العدو الصهيوني الذي هاله وضع لبنان الاقتصادي الجيد، ونجاح موسمه السياحي، ونموه المرتفع باطراد. انه هاجس المسؤول. اذ من غير الجائز ان يتصرف من يعتبرون أنفسهم مسؤولين بغير مسؤولية، أو يحولوا “المسؤولية” الملقاة على عاتقهم الى لامسؤولية والثقة التي اولاها اليهم الناس (ناسهم على الأقل) الى لاثقة، وخيبة.
معنى ذلك، وفي الوقت الراهن وفي ظل الظروف المحلية والاقليمية والعالمية الراهنة، قد يكون من الصعب اللجوء الى لعبة عادلة متصلة بالديموقراطية بقدر ما يبدو اللجوء الى الكلية السياسية بكل الأطراف، الى المشاركة في الحكومة، تحت عناوين “حكومة وحدة وطنية” أو “حكومة وفاق وطني” أو “حكومة جامعة”.. لكنه يجب الا يعني ذلك تفسيراً بالضعف والخوف من جانب الأقلية أو أطراف أخرى، لتستفحل شروطهم وتستنفر شهواتهم الاستئثارية او نسبهم الى انفسهم انتصارات وهمية. واذا اعتبرنا ان الرئيس المكلف قد قام بكل واجباته الدستورية وجسد حقه الدستوري بالاستشارات غير الملزمة، فهذا يتطلب من الآخرين الذين يكررون المطالبة بحكومة وحدة وطنية، ان يكونوا فعلاً ساعين الى وحدة وطنية لبنانية، (لا الى وحدة اقليمية، وحدة مصالح بين الدول الخارجية على حساب وحدتنا)، والى المشاركة في حكومة “كل لبنان” وكل الدستور وكل الاستقلال وكل الدولة وسيطرتها على كل الأرض، وكل الديموقراطية بحيث تكون حكومة واحدة، متضامنة في مواجهة كل التحديات؛ لا حكومة في حكومات، أو حكومات في حكومة، أو لا حكومة في لا حكومات، أو لا حكومات في لا حكومة. بمعنى ان تكون حكومة واحدة مستقلة أولاً وأخيراً بقراراتها، وضمن صلاحياتها.
حكومة تفعيل لا حكومة تعطيل، فتكون منبراً للاشتباكات ويكون الشارع حكومات بديلة تلغي الحكومة المركزية. اذ لا يمكن فريقاً ان يشارك في حكومة ويكون ضدها ويعمل ضدها ويحرك الشارع ضدها ويتهم زملاءه بالاخطاء، أو يهددهم بالقوة، بعيداً عن محاسبة مجلس النواب. هذا ما نريده ويريده اللبنانيون من “حكومة كل لبنان” التي تذوب فيها الأقلية في الأكثرية من دون فقدان تمايز الاثنتين؛ وتتمازج فيها الارادات المتبيانة بعيداً عن اثلاث أو ارباع معطلة، هرطقة بائسة لا مكان لها إلاّ حيث الحكم الشمولي يعطل ارادة الشعب، والمؤسسات. فحكومة كل لبنان لا تعني منع حق الاحتجاج، والنقد، والمحاسبة والمحاججة، والمقارعة بقدر ما تكون إطاراً تتنوع فيه الآراء والأفكار، والمشاريع، تحت سقف المصلحة الوطنية الشاملة. وحكومة كل لبنان، لا تعني في المقابل ان تصادر فئة ما، قرار الجميع وتهدد وتخرج على لعبة التبادلية ضمن الوزارة وتبحث عن شرعية أخرى وذرائع أخرى، تعيد الازمات الى حدودها العبثية فتكون عندها حكومة جزء من لبنان، أو بعض لبنان، أو بعض الأقاليم، أو بعض الدول. ولذلك، نفهم من حكومة كل لبنان ان تكون لبنانية في ادارة البلاد، وخصوصاً القرارات المصيرية فلا تكون حكومة شرعية بلا قرارات و”حكومات” خاصة برانية وغير معلنة تتمتع بكل القرارات الاساسية والمصيرية من قرارات المشاريع الاقتصادية، الى قرارات الحرب والسلم، الى قرارات هيمنة الدولة على كل الأراضي اللبنانية، الى قرارات المحكمة الدولية و1701…. وعندها بالذات قد نجد انفسنا امام مرايا محدبة لا نميز فيها من هو الحاكم ومن هو المحكوم، ومن الذي يقرر ومن الذي لا يقرر. ومن الذي يدير البلاد ومن لا يديرها.
حكومة لبنان يعني أن تحكم من لبنان. وللبنان. ومن اجل لبنان. ان تكون تحدياً جديداً للديموقراطية. وللسيادة. والمؤسسات ولهذا لا يمكن اعتبار أي حكم أو حكومة أو مؤسسة شرعية إلا شرعيتها الوطنية قبل كل شيء وبادارتها الشفافة، وبانتمائها العميم. فالمشاركة في السلطة هي مشاركة في صنع الانتماء واستمراراً في تأسيسه وتعميقاً لجذوره وليس العكس. المشاركة لا تكون بهذا المعنى، سوى اعلان باعتراف بالكيان وبالديموقراطية والمؤسسات وفصل الصلاحيات وحتى النظام (ما دام لم يتغير). المشاركة هي التبادلية والتعادلية؛ اذ لا يمكن ان يطالب فريق بالمشاركة فلا يشارك سوى بشروط الاستئثار سواء خارج الحكومة أو داخلها، او بمفاعيل الفرض، أو باستنفار ما لا ينسب الى الحوار والتفاعل. وعلى هذا الاساس لا يمكن ان تكون حكومة تشاركية اذا لم تتم “التعادلية” والمساواة، في الفعل، والموقف والمسؤولية بحيث تكون داخل الحكومة شيئاً وخارجها شيئاً آخر. والتشاركية الحقيقية لا تكون انفراداً. او سلطة مستقلة داخل السلطة الشرعية. ونوازع هجينة من ضمن تجانس معقود. هذا ما نريد ان نفهمه من حكومة كل لبنان. وحكومة كل الدولة. وكل الأرض. وكل الشعب. ترى أيكون حلماً ام وهماً: الا يستحق اللبناني حكومة يحسها طالعة منه وعائدة اليه، يحس انه يشارك في قراراتها وكأنه فيها؛ فتنتفي “الفئوية” داخلها وكذلك “الكانتونية” و”التجزيئية” بحيث يرى اللبناني، في حال انقسامات او تعثرات داخلها، وارتباطات واصرار على الافراز، القائم لا سيما في السلوك والقرارات، وكأنه ينتمي الى جزء من الحكومة والى جزء من لبنان فيها، فتكون عندها حكومة مقسمة داخل الحكومة، او حكومات “مُكَنتنة” تعمق التفسخ في القاعدة، تعميقها التمزق في وحدة البلد والمؤسسات؛ عندها يمكن الكلام على جُزُر حكومية تسمى باسماء المرجعيات الخارجية او الداخلية، اي حكومة تعزيز الاختراقات. وعندها لا يكون لشعار حكومة لبنان سوى الذريعة لاستلاب السلطة نفسها، وتناتشها، وكأنها لبلد آخر أو من بلد آخر، بل وكأنها غنيمة، أو فريسة، لا يحسب فيها سوى المصالح النسبية أو الفردية، وعندها تتعزز كل ظواهر الأمر الواقع المتراكمة من أربعة عقود: اولها الاغتراب السياسي والوطني، وثانيها تفتيت الدولة، وثالثها سيادة الافراز المذهبي، وتنامي الكانتونية، وتزايد النفوذ الخارجي، وعودة لبنان مجرد نظام حماية عند هذه الدولة أو تلك، ثم يستمر ساحة لكل الناس ما عدا أهله.
على هذا الاساس نفهم “حكومة كل لبنان” كما يريدها الرئيس المكلف، وكأنها حكومة خروج من الأزمات الداخلية المرتبطة بالخارج أو الأزمات الخارجية المرتبطة بالداخل؛ وكأنها حكومة الشعب اللبناني بانتساباته التعددية لا حكومة انظمة أحادية. حكومة الاعتراف بالدستور اللبناني، لا حكومة الاداء بالدساتير الأخرى. حكومة الاقتصاد اللبناني الكلي المتنامي لا حكومة الاقتصادات المنفردة والمستقلة. حكومة القرار اللبناني الجامع في القضايا الكبرى لا حكومة تبحث عن قراراتها خارج نظامها وبنيتها. حكومة المسؤولية الوطنية المشتركة لا حكومة تفتيت المسؤولية. حكومة تبحث عن مخارج لتطوير النظام الى ما هو افضل بحس لبناني شامل، وبانتساب لبناني “نهائي” وليس ضمن تجارب ونماذج جاهزة، سواء كانت علمانية ام مذهبية أو دينية.
فهل تكون لدينا حكومة مختلفة وريادية بعد انتخايات نيابية مختلفة وريادية. وبعد جهود ونضالات شعبية مختلفة وريادية؟
هذا ما يمكن ولو نسبياً تحقيقه في حكومة “كل لبنان” او لا يستحق اللبنانيون حكومة تسمى باسمهم، حكومة تنطق باسمهم. حكومة تؤمن مصالحهم، وأحلامهم. وتخفف معاناتهم وتفرج كربهم المعيشي ومصاعبهم الاقتصادية وهواجسهم الوطنية وتعزيز ايمانهم بهذا البلد العظيم.. القابل للحياة والتطور والتفوق.. عكس ما يتمناه بعضهم وخصوصاً اسرائيل!