صفحات العالمما يحدث في لبنان

الدولة الفاشلة ومجتمعات الشتات

سليمان تقي الدين
عشية الحرب الأهلية (1975) كان النقاش السياسي في لبنان يدور بين رؤيتين: الأولى تعتبر أن اللبنانيين هم بصورة أساسية جماعات طائفية، وأن «الصيغة»يجب أن تضمن دور هذه الجماعات مع أرجحية للطائفة المسيحية، لأن الكيان وجد بأحد أسباب وجوده لإعطائها الضمانات والحرية في محيط إسلامي. رفضت المارونية السياسية الانفتاح على مطالب المسلمين في تطوير علاقة الشراكة بذريعة أن السلاح الفلسطيني يخل بالتوازن الوطني، فكان الشعار المعروف «الأمن والسيادة قبل
الإصلاح». ونكاد اليوم نجد فريقاً من اللبنانيين يكرر الموقف نفسه معتبراً ان الشراكة في السلطة لا تستقيم في ظل وجود «سلطة السلاح»، ولو أنها هذه المرة في يد فريق طائفي لبناني مباشرة وغير مستعار.
أما الرؤية الثانية التي سادت قبل الحرب فقد كانت تعتبر أن الشراكة المتوازنة في السلطة المركزية هي شرط لتوحيد الموقف الوطني من القضايا الأخرى ولا سيما الموقف من السلاح الفلسطيني ومعالجته بحيث ينضوي تحت سقف الشرعية اللبنانية وحصر مفاعيله في الصراع مع «إسرائيل» وتعطيل وظيفته في الداخل اللبناني.
الحقيقة التاريخية التي يجب الإشارة إليها أن هذا الصراع بدأ بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967 وانطلاق ظاهرة المقاومة خارج لبنان أصلاً. لكن ترتَّب على هذا الحدث الإقليمي قراءة مختلفة، إذ وجد البعض في هزيمة العرب مناسبة لأخذ الكيانية اللبنانية في منحى انعزالي، ووجد البعض الآخر في المقاومة ورد الفعل العربي في الشارع لا سيما تظاهرات (9 و10 يونيو ـ حزيران) دعماً لجمال عبد الناصر، وظهور جماعات يسارية وغيرها مناسبة لاندماج لبنان في مواجهة التحدي الصهيوني الجديد. وقد تعزز هذا الموقف منطقياً بالعدوان الإسرائيلي على مطار بيروت في رأس سنة 1968 وعلى الجنوب لاحقاً مع الاجتياح النوعي الأول في أواخر صيف 1972.
الأزمة الوطنية التي انفتحت آنذاك كانت بين الإسلام السياسي والمسيحية السياسية، ولم تكن «الحركة الوطنية» طرفاً أساسياً فيها. فلقد انتعشت أحزابها في الأزمة ونمت تتغذى من المعركة الوطنية والاجتماعية ومن وسائلها الحديثة في التأطير والتنظيم. لكن إزاء هذا الانشقاق الوطني ـ الطائفي وجدت أن النظام السياسي اللبناني يعيد إنتاج الحروب الأهلية ولا بد من برنامج إصلاحي يعمق الطابع السياسي الاجتماعي للصراع ويؤمن وحدة الدولة والكيان، فكان برنامج آب 1975.
في مشروع «الحركة الوطنية» كانت هناك رؤية ثالثة اعتراضية تزعم ان اللبنانيين ليسوا مجرد طوائف بل هم مواطنون يمكن أن توحدهم مصالحهم الاجتماعية واتجاهاتهم السياسية التي تنامت آنذاك بأفق وطني تحرري وتقدمي واخترقت البنيات التقليدية كلها في جميع الطوائف. المسألة الاجتماعية شملت أوسع الفئات اللبنانية والقطاعات، وقضية فلسطين استقطبت أوسع التيارات وأوسع التأييد. فشل مشروع الإصلاح والتغيير لكن عناوينه وقضاياه ظلت المخرج الوحيد للتسوية واستعادة وحدة الدولة والمؤسسات. في اتفاق «الطائف» اندرجت كل البنود الإصلاحية التي أجابت عن الحاجات اللبنانية المتنوعة. أجاب «الطائف» على الخوف والغبن والمشاركة والهوية والحرمان ودولة القانون ووضع تصوراً متكاملاً انطوى على سلة شاملة متكاملة. لكن الحرب الأهلية الباردة لم تتوقف بعد «الطائف» فلا البعد الإقليمي (الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي والعلاقات المميزة مع سوريا) استقر على قواعد ثابتة، ولا البعد الداخلي الإصلاحي جرت ترجمته في خطة لإعادة بناء الدولة وفق تلك الخطوات التي رسمها وصارت جزءاً من الدستور. كان «الطائف» تسوية سياسية لكنها تحولت إلى دستور. لم يبقَ من «الطائف» أي شيء تجب العودة إليه. كل مرجعية «الطائف» يجب أن تقرأ من نصوص الدستور الذي يتشاطر البعض في التمويه عليها. بل إن من يستشهدون بالدستور يجتزئون نصوصه وبنوده والتكامل في ما بينها والمؤسسات التي يفترض وجودها. يخلطون عمداً بين الترتيبات الانتقالية وبين الأهداف النهائية. تقوّت المؤسسات الطائفية بدل أن تتراجع. نشأت تقاليد لا دستورية عمقت الطابع الشخصاني للمؤسسات بدل أن تتعزز الروح المؤسساتية التي تعني روح الجماعة وغلبة الصالح العام. بدأنا بظاهرة الترويكا وانتهينا بالنقاش لمن تكون حصة الثلث المعطل. نتحدث عن المناصفة ونسعى إلى تفكيكها من باب آخر. كل هذه ترهات لأننا لم نضع خارطة طريق لتطبيق الدستور.
الأولويات الأساسية والمداخل المفاتيح لم نتعامل معها بمعانيها وجديتها: إعادة النظر بالتقسيم الإداري وربطه بقانون انتخاب تمثيلي لجميع اللبنانيين. التنمية المتوازنة واللامركزية الإدارية لخفض منسوب الصراع السياسي على السلطة المركزية فضلاً عن توسيع مفهوم المشاركة الشعبية ومعالجة الامتيازات والحرمان في المناطق. وهناك الكثير مما يقال عن تحويل المؤسسات الدستورية إلى سلطات تنظمها القوانين، في الرئاسات ومجلسي النواب والحكومة والمؤسسات القضائية. هذا «الطائف» لم يكن يوماً على جدول أعمال الطبقة السياسية المسيطرة التي لم تقتنع يوماً بإمكان بناء دولة في ظل النزاعات الإقليمية. تصرفت بجميع فروعها على قاعدة اقتطاع أكبر قدر من السلطة واحتفظت لنفسها بأوسع هامش من وضع اليد على أقاليم جغرافية ـ طائفية وإدارتها أو مرافق هامة وجعلت منها ملاحق وإقطاعات. وقد تساوت كل القوى والجماعات في هذا السعي وفي هذا النهج وما تزال. كل ما يطرح الآن من أفكار ومشاريع يصب في خانة تعزيز النظام الطائفي وتثبيت الامتيازات فيه. ليس مهماً نيات هذا الفريق أو ذاك ومدى التزامه السياسي في الصراع الإقليمي. لن تكون وطنية من دون دولة حاضنة لجميع مواطنيها ومؤمِّنة لمصالحهم وحقوقهم المتساوية. ما يغيب في كل الخطاب السياسي والسلوك والشعارات والبرامج هو حضور اللبنانيين بهمومهم وقضاياهم الإنسانية. المنتصر دائماً هو رؤية الطوائف إلى لبنان وليس رؤية المواطنين. ما يغلب في التعامل مع «الطائف» أو الدستور هو حصص الجماعات لا حقوق الأفراد. لقد بات من الصعب أن تشارك جماعة موقفها الوطني أو السياسي إذا كنت تنتمي إلى جماعة أخرى. هي نفسها لا تريد أن تَخترق أو تُخترق. بعضها لا يشترط عليك الولاء السياسي فقط بل يدعوك إلى وليمة أديولوجية كاملة. السياسة تتمذهب ليس فقط بالتحالف بل بالالتزام العقائدي. تفيض الساحة اليوم بالعقائد لأن السياسة بالمعنى الانساني غائبة تماماً. العقيدة تقتل السياسة لأنها ترسم حدوداً يصعب التفاعل بينها على قاعدة المصالح المرسلة للمجتمع. عدنا اليوم إلى الحديث عن «مجتمعات طائفية» وعن «أمنها فوق كل اعتبار». تتمة المشهد اللبناني «السلاح» لأنه حاجة وجودية. «ديموقراطية السلاح» المتنامية في جميع البيئات الطائفية أكثر مما يتصور المتصورون. دولة الطوائف الفاشلة هي الطريق إلى مجتمعات الشتات.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى