صفحات العالمما يحدث في لبنان

«صُنع في لبنان»

فواز طرابلسي
كان يكفي أن يشد الرئيس الأسد الرحال إلى مناسبة أكاديمية في العربية السعودية وترجيح أن يزور العاهل السعودي دمشق قريباً، لكي يدب النشاط والتفاؤل لدى فريقي الحكم ـ السيادي والوطني، الأكثري والأقلي ـ وتعود الحياة إلى أوصال تشكيل الحكومة. فكيف إذا أضيف دعم رئيس وزراء فرنسي وتأييد نائب رئيس أميركي إلى نسمة التقارب بين سين وسين!
ومع أن التنسيم الإقليمي لا يزال في أوله، وتتضارب مؤشرات نجاح التقارب بين سين وسين، وأثر ذلك في كل الأحوال على فريقي المعادلة اللبنانية، فكأنما بسحر ساحر، ثمة من ينبئنا بالعودة إلى معادلة 15+10+5 وسحب الاعتراض على توزير مرشح ساقط في الانتخابات وانتقال المشاورات حول تشكيل الحكومة من التطاحن حول من يسمي مَن في الوزارة وحول توازع الحقائب السيادية والخدمية إلى التداول في السياسات. ويسجل للتيار الوطني الحر أنه تقدم بمشروع سياسي للبحث هو دعوته إلى تطبيق اللامركزية الإدارية التي نص عليها اتفاق الطائف والدسـتور. قد يقول بعض الخبثاء إن الدعوة تأتي كأنما لدعم مطالبة التيار بوزارة الداخلية. مهما يكن من أمر، فتطبيق اللامركزية الإدارية يأتي ضمن مهمات تطبيق البنود غير المطبقة من اتفاق الطائف. وهو يفتح المجال للبحث في تطبيق البنود الأخرى المتعلقة بإلغاء الطائفية واستحداث مجلس شيوخ.
في مقابل التفاؤل السائد، ثمة من يعترض تحديداً باسم «صنع في لبنان». يدعو الدكتور سمير جعجع إلى أن تشكّل الأكثرية حكومتها وأن تختار هي ممثلي الأقلية على اعتبار ذلك مطابقاً للدستور. ولما كان كل ما في السياسة المصنوعة في لبنان يندرج تحت عنوان الشيفرات، يريد البعض أن يقرأ في شعار الدكتور جعجع «صنع في لبنان» التعبير عن التصلّب الأميركي والمصري، على افتراض أنهما الطرفان المتضرران من الاتفاق بين سين وسين.
الغريب في أمر المنطق الأكثري الذي يدعو إليه الدكتور جعجع أمران. الأول أن الرجل سليل المدرسة الكتائبية التي وضعت التشاركية مبدأ أساساً للنظام اللبناني وناهضت العددية ولا تزال ودافعت عن إلغاء الطائفية، بالسلاح والقول والقلم، باسم خصوصية لبنان الذي هو في تعريفه ذاته «بلد الأقليات الدينية المتشاركة». أضف إلى هذا أن الدكتور جعجع هو نفسه صاحب مشروع اعتماد نظام فيدرالي للبنان، لم يتراجع عنه علناً على ما نعلم، وهو مشروع قائم على تعريف حصري للبنانيين بمن هم جماعات طائفية. أي أن المشروع الفيدرالي يناقض كل العناصر والمبادئ الجمهورية والديموقراطية والأكثرية في الدستور.
والأمر الثاني والأغرب عند الدكتور جعجع أنه يتجاهل أن المبدأ الأكثري هو شطر من الدستور لا الدستور كله. صحيح أن الدستور يقول بحكم الأكثرية البرلمانية الصادرة عن الأكثرية العددية في مجلس النواب وأنه يعتمد آليات التصويت في مؤسسات الحكم. على أن الدستور ذاته يواجه هذا المبدأ الجمهوري الديموقراطي القائم على حقوق الأفراد والمواطنة، بتشريعه حقوق الجماعات. فيدعو إلى «التوزيع العادل» لمناصب الحكم بين الطوائف، ويحمي التعليم الديني الخاص، أي الطائفي، ويتخلى للطوائف والمذاهب عن التشريع في الأحوال الشخصية، ويقول، ولو مؤقتاً، بمبدأ المناصفة في مقاعد مجلس النواب ومجلس الوزراء والإدارة بين المسيحيين والمسلمين، إلخ.
وللاقتصاد أيضاً حصته من «صنع في لبنان». فمنذ أيام، أعلن أحد مصانع السيراميك اللبنانية إفلاسه. وهذه ضحية جديدة، صنعت في لبنان، لسيطرة المستوردين على السوق الداخلية ولنهج يعلن الرئيس المكلف الالتزام به هو نهج الانصياع لأوامر صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية في إلغاء الحمايات عن الزراعة والصناعة المحليتين باسم «تنمية القدرات التنافسية للصناعة الوطنية في الأسواق الخارجية». وهكذا، في هذه البدعة المصنوعة هي أيضاً في لبنان، يحق للولايات المتحدة أن تحمي أسواقها، وتنمّي «قدرات صناعتها التنافسية في الأسواق الخارجية» بفرض الرسوم الجمركية المرتفعة على الصلب الأوروبي وعلى الأقمشة الواردة من بنغلادش، ناهيك عن السيارات اليابانية. ولا يحق للبنان فرض روزنامة زراعية أو رسوم حمائية دعماً لصناعته الوطنية بل أنه ألغى رسومه الجمركية سلفاً منذ مطلع مهلة السنوات العشر التي تسمح بها منظمة التجارة العالمية!
والذي «صنع (حقاً) في لبنان» في هذه الآونة الأخيرة هو هذا الخبر. خلال الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، دخلت إلى المصارف اللبنانية ودائع بقيمة 14 ملياراً من الدولارات يقال لنا إنها تنتظر الانفراج السياسي للبدء بالاستثمار في المجالات الاقتصادية.
ما دامت هذه الودائع قد تدفقت إلى لبنان بالرغم من أزمة تشكيل الحكومة، فما الحكمة من الانتظار إلى ما بعد تشكيل الحكومة لكي تبحث لها عن مجالات للاستثمار؟ ازاء هذا الفيض من الأموال، وما سوف تولده من فوائد وأرباح، تستطيع المصارف منذ الآن المبادرة إلى إلغاء قسم من ديونها على الدولة. أو هي تستطيع التوظيف في القطاعات الإنتاجية أو زيادة نسبة تسليفاتها للقطاع الزراعي بحيث تتجاوز الواحد أو الاثنين في المئة من مجموع تسليفاتها. أو أن تخصص قسماً من التوظيفات للقطاع الصناعي من أجل تعزيز «قدرته التنافسية» على ما يرغب رئيس حكومة تصريف الأعمال بعد أن تسلم الأمانة في مضمار السياسة الاقتصادية من الرئيس المكلف.
هل يدخل هذا الهمّ مثلاً في المشاورات لتشكيل حكومة «صنع في لبنان»؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى