“من تمّك لـِ بواب السما”
سركيس نعوم
قال رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان رداً على سؤال في مقابلة اجرتها معه الزميلة “الحياة” في نيويورك ونشرتها قبل ثلاثة أيام: “يكنّ السوريون كل المحبة للبنان ولديهم ارادة ثابتة وصادقة في ان يدير لبنان شؤونه وينفذ الاستحقاقات السياسية والدستورية. ليست لديهم نية العرقلة ابداً، كما ليست لديهم نية التدخل في الشؤون اللبنانية لأن طبيعة العلاقات بيننا وبين السوريين اصبحت مبنية على الثقة، ونحن في حاجة الى إثبات جدارتنا في تشكيل الحكومة”. وقال رداً على سؤال آخر: “صحيح ان هناك بعداً اقليمياً لأن مشكلات لبنان تأتَّت عن اضطراب الوضع الإقليمي”. ونفى رداً على سؤال ثالث “ان يكون هناك دور سوري او ايراني سلبي في الوضع اللبناني الراهن”. وعندما سئل عن حقيقة ما قال في ظل العجز عن تشكيل الحكومة في لبنان أجاب: “أصعب شيء في تأليف الحكومة كان الاتفاق السياسي على حكومة الوحدة الوطنية، وهذا تمّ. اذ لو ارادت هذه الدول عرقلته لكانت تدخلت لمنعه… الخلاف في لبنان أصبح على تفاصيل توزيع الحقائب والاسماء. لا اتوقع ان تتدخل الدول في هذه التفاصيل او انها تعلم تحديداً ما هي هذه التفاصيل وما اهميتها”. ثم أنهى حديثه عن الشق الحكومي من المقابلة بالقول رداً على سؤال: “ان لبنان لم يشكل حكومة بارادة داخلية حقة منذ 30 سنة. كانت هناك ضغوط او ظروف ما: وجود سوري وحروب اهلية واحتلال اسرائيلي. الآن تشكل الحكومة في ظروف عادية من غير ضغط ومن دون وجود اي تأثير خارجي في لبنان”.
ما مدى دقة ما قاله الرئيس ميشال سليمان في الاجوبة المنشورة اعلاه؟
اقل ما يقال فيها ان مضمونها ليس “دقيقاً”. فاللبنانيون على تنوع انتماءاتهم يعرفون ان سوريا تحب بلادهم كثيراً لانها تعتبرها، وهذا موقف ثابت على رغم كل كلام مخالف، جزءا من بلاد الشام سلخه الانتداب الفرنسي عنها، ولانها تعتبر ان ادارتها لها، ولو على نحو غير مباشر، من شأنه مساعدتها في خضم الصراعات المتنوعة في الشرق الاوسط وهم يشكرون لها حبها هذا لكنهم يتمنون ان تكون ترجمته مساعدة فعلية لهم كي يعيدوا بناء دولتهم. ويتمنون ايضاً ان تحترمهم سوريا بقدر ما تحبهم. علماً انهم يعرفون في قرارة انفسهم ان ممارسات قادتهم والزعماء وانسياقهم هم وراءهم افقدهم الاحترام الذي عنه يتحدثون.
واللبنانيون انفسهم يعرفون ايضاً ان تأكيد عدم وجود نية للتدخل او للعرقلة ليس “دقيقا” بدليل ان زعماء كبارا لهم قالوا من زمان ولا يزالون يرددون ان لا حل لأزمة الحكومة في لبنان ولأي أزمة أخرى إلا بتفاهم السين – سين، أي السعودية وسوريا. وقد أثبتت التطورات الداخلية ويا للاسف صحة أقوالهم هذه. وأضافوا اليها أقوالاً جديدة مثل تأثير العلاقة بين الالف والالف، اي ايران واميركا، على وضع لبنان او التطورات المحتملة مستقبلاً في علاقات السين والالف، اي سوريا وايران والسعودية وايران فضلا عن ان “الاتفاق السياسي على حكومة الوحدة الوطنية” اتى من خارج الحدود. اما التأكيد ان العلاقة اللبنانية – السورية صارت مبنية على الثقة فغير “دقيق” ايضاً. واول من يعرف ذلك رئيس الجمهورية و”زميلاه” في رئاسة المؤسسات الدستورية والنواب والوزراء والاحزاب والطوائف والمذاهب والشعوب. الجملة الدقيقة الوحيدة في كلام سليمان عن هذا الموضوع كانت: “نحن في حاجة الى إثبات جدارتنا في تشكيل الحكومة”. ومن قال ان اللبنانيين جديرون بالمحافظة على وطنهم وباقامة علاقات أخوّة متكافئة مع أشقائهم؟
اللبنانيون يعرفون اخيراً ان قول سليمان “ان مشكلات لبنان تأتَّت عن اضطراب الوضع الاقليمي” صحيح لكنهم يعرفون ان نفيه استنادا الى ذلك تأثيراً ايرانياً او سورياً سلبياً في لبنان، وقوله ان التأثير الخارجي السابق (وجود سوري – حروب اهلية – احتلال اسرائيلي) لم يعد قائماً لأن الحكومة تشكل في ظروف عادية… يعرفون ان ذلك ليس “دقيقاً” بل ليس في محله. فالظروف في لبنان ليست عادية (انقسامات طائفية ومذهبية واستغلال عربي واقليمي ودولي لها). وقد تسبب ذلك بأكثر من نزاع كاد ان يتطور حرباً اهلية. وهذه الظروف لا تزال مستمرة، كما ان الوضع في المنطقة مضطرب في ظل المواجهة بين سوريا وايران من جهة ومصر والسعودية والاردن واميركا وبعض المجتمع الدولي من جهة أخرى. ولبنان ساحة لهذه المواجهة وشعوبه وقود لها.
الى ذلك كلّه، قد يكون ما قاله وزير خارجية مصر احمد ابو الغيط للزميلة “الحياة” في حديث نشر امس تأكيداً إضافياً لعدم دقة نفي الرئيس سليمان اي تدخّل خارجي في لبنان. اذ أجاب رداً على سؤال: ما المصاعب التي تثير قلق مصر؟ بقوله: “التأثيرات الخارجية التي تمنع تشكيل الحكومة (في لبنان). ولن اكشف اكثر من ذلك”. وسئل عن المتدخلين: ايران؟ فاجاب: “ربما”. وسئل ايضا: سوريا؟ فأجاب: “سوريا لديها اهتمام تاريخي واستراتيجي بلبنان نعترف به. والدور السعودي داعم على أوسع نطاق. ونحن نسعى الى تشكيل حكومة لبنانية في أسرع وقت(…)”.
طبعاً يعرف الرئيس ميشال سليمان ذلك كله ولهذا فان السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا اكد في مقابلة صحافية اموراً غير دقيقة؟
الجواب قد يكون واحداً من ثلاثة: الأول، رغبته في اظهار مسؤولية اللبنانيين عما حل ويحل بهم، وذلك صحيح (طوباوية مطلقة). والثاني، حرصه على اظهار لبنان امام العالم في وضع افضل من الذي هو فيه. اما الثالث، فهو رغبته في تسليف سوريا وايران موقفاً ايجابياً منهما، وذلك بغية تحقيق أمرين: اولهما، حصوله على ثقتهما الكاملة التي بدا منذ انتخابه انها مهتزة. وثانيهما، تسهيل مهمته رئيساً للجمهورية.
اي جواب هو الاكثر انطباقاً على الواقع؟ لا احد يعرف. لكن كل هذه الاجوبة تؤكد في طياتها تدخلاً حاول جاهداً ان ينفيه. علما ان اللبنانيين، ونحن منهم، نقول له تعليقاً على نفيه: “من تمّك لـِ بواب السما”، او لـِ “دَيْنِة ربنا” كما يقول آخرون.
النهار