صفحات العالمما يحدث في لبنان

من واشنطن: ريح البلاد العجز عن الحرب والسلم وترتيب الحجج

بلال خبيز
اين رمتنا الدنيا؟ صباح الخير واشنطن. صباح الخير والأروقة الدامسة. تعقيدات السياسة الأميركية التي لا يمكن للمبدئيين فك طلاسمها. ايها الداخل إلى هذا الرواق، اترك مبادئك خارجاً. التمسك بالمبادئ حجة الخائف والمهدد. الذين لا يتهددهم شيء لا يهتمون لها. نحن فقط نرفع شأنها على أكتافنا، لأن الخوف عندنا شائع ومألوف كحوادث المرور. لهذا نحب التمسك بالمبادئ. لم يبق لنا غيرها. لا سلطة كانت لنا وفقدناها ولا عزوة كانت تدافع عنا واعرضت. نتمسك بالمبادئ لأننا نظن ان العدو نفسه يستطيع تفهمها. إذاً لو قصفت الطائرات بيتك فيمكنك ان تعتبر نفسك ضحية. وما دمت لست ضابطاً في جيش فأنت مدني، ومن حق المدني ان يكون ضحية. من حقة ان يعترض على سياسات بلاده، ومن حقه ان يكون ضحيتها او ضحية اعدائها. لكنك في هذه الأروقة الدامسة تفقد قدرتك على البيان. ستجد من يسألك: هل شجعت يوماً اعمال مقاومة الاحتلال؟ لو قلت نعم، وانت حتماً فعلت، سيجيبك: إذاً كيف تدعي انك ضحية في بلد يدخل في صراع مكشوف مع عدوه؟ هل كنت تظن ان العدو لن يرد وانه لا يملك اسلحة مؤذية؟
تخرج من الرواق إلى الهواء الطلق، هواء واشنطن الدبق. تقول لنفسك، لقد خسرت امتيازك كضحية. إنما هل اختبر القاطنون في هذه المدينة محنة العيش كضحايا؟ هل ثمة ما يهددهم حقاً؟ نتانياهو يخطب على الشاشة، الرجل يعرف كيف يكذب. كارل كراوس كان يقول: الصحافي هو من يستطيع ان يستعرض خطاباً طويلاً في قضية لا تملك من مقومات القضية ما يقيم اودها. كارل كراوس مات وعاش الصحافيون بعده. نذكره اليوم كلما المت بنا ملمة. لكنه مات وعاش الصحافيون. نتانياهو يخطب: هو ضحية. لماذا لم يستعمل قوة جيشه الهائلة للدفاع عن مواطنيه؟ لا أحد يسأله. هو ضحية والناس تصفق لإجادته وضع نفسه في موقع الضحية. تكتشف ان الضحية ليست أكثر من خطابها. حين تجيد ترتيب حججها تنتصر وتستحق امتياز الضحية. انت لست كذلك، ولو قلت انك لا توافق على ما يقوله احمدي نجاد، فلن يكون هذا الاعتراف كافياً لسلخك عنه. تقول انك لم تنتخبه كما انتخب الشعب في اسرائيل نتانياهو، وانك لا توافق على سياساته، وأفكاره التاريخية خصوصاً. لكنك لن تنجو من محرقته. انت لست ضحية إلى ان تثبت أنك كذلك.
البعض يستسهلون: هذه هي العنصرية. الاميركيون، الساسة منهم خصوصاً متحاملون على العرب والإيرانيين عنصرياً وينحازون لإسرائيل. لكن الامر ليس بهذه السهولة. البعض الآخر يستسهل العبور من الجهة الثانية: لو نجحنا نحن العرب، او المسلمين، في مخاطبة الشعب الاميركي باللغة التي يفهمها، لاستطعنا ان نحول في التوجه الاميركي عموماً، وان نجعل أميركا تنحاز إلى صفنا. ايضاً الامر ليس بهذه السهولة. لقد اجتهد الجانبان زمناً. لكن الحال هي الحال. رتب حججك على النحو المناسب، ستصبح ضحية. نسق خطابك على نحو يوضح وجهة نظرك سينحاز الساسة الأميركيون إليك. نفعل كل هذا ولا يحدث شيء. المتفقهون في السياسات يقولون لك: إنها لعبة مصالح يا حمار. (إنه الاقتصاد يا غبي). تسأل نفسك ايضاً عن اي مصالح يتحدثون؟ لماذا يجد المواطن الاميركي المولود يهودياً نفسه مرتبطاً بملف شائك يبعد عن مكان ولادته وعيشه الوف الأميال؟ ولماذا لا يجد المواطن الاميركي المولود مسلماً او عربياً نفسه مرتبطاً بملف مماثل يتصل بأصوله المواطنية واصول اجداده؟ الجواب سهل: اميركا منحازة لإسرائيل. لكننا نعرف ان المواطن الاميركي المولود يهودياً لا يجد رقيباً على باب بيته يسأله ان يهتم بإسرائيل. المسألة ليست بالسهولة التي كنا نظنها. مرة أخرى تبدو القضية قضية ترتيب حجج.
فلأرتب حججي: انا من بلد يعاني مجاورته لإسرائيل. ويعاني ايضاً من مجاورته لسوريا. لطالما كانت العلاقات بين لبنان وسوريا غير طبيعية. اما العلاقة بإسرائيل، فكانت على الدوام علاقة صراع ودم. هذا بلد لا يستطيع اهله ولو ارادوا اقامة سلم مع اسرائيل. وفي الوقت نفسه لا نستطيع ان نحتمل كلفة الحرب معها. قد نقاوم وقد نقاتل، لكننا محكومون دائماً بقدرتنا المحدودة على الصمود. وهذا بلد لا يستطيع مجابهة سوريا، لكنه ايضاً لا يستطيع احتمال موجبات العلاقات الطبيعية معها. في النتيجة يعجز لبنان عن ان يحارب من يجب ان يحاربه وان يسالم من يجب ان يسالمه. وعليه يصبح السؤال واضحاً: ما السبيل إلى ابقاء الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية متوترة من دون ان ندخل في الحرب؟ ومتى يفترض العدو ان الحدود المتوترة لا تفرض عليه فتح النار واشعال الأخضر واليابس، ومتى يعتبر ان مثل هذا التوتر لا يستوجب اعلان الحرب؟ المسألة ليست في يدنا. وفي الخلاصة، في ما يخص علاقتنا بإسرائيل نبدو بالنسبة للمقيم في اروقة واشنطن مجرد معتدين على أمن إسرائيل.
طيب لا بأس. اسرائيل عدو تاريخي ووجودي بالنسبة للبنان، وعلينا ان نوطن النفس على تقبل الحروب وأكلافها الباهظة.
ماذا عن سوريا؟ العلاقة مع سوريا مكلفة ايضاً. البلد مرة أخرى محكوم بأن لا يعلن العداء لها، لكنه ايضاً لا يستطيع تحمل تبعات العلاقة الطبيعية معها. سوريا التي تقع هذا الموقع بالنسبة للبنان، تعرف انها تستطيع إعلان الحرب عليه، وتعرف ايضاً انه لن يرد بالحرب عليها. نحن محكومون بالسلم مع سوريا، من دون ان نستطيع احتمال كلفة هذا السلم، ومحكومون بالحرب ضد إسرائيل من دون ان نستطيع احتمال كلفة الحرب عليها. هنا في اميركا يسألونك: وفق اي منطق تفترض ان لبنان لا يستطيع إعلان الحرب على سوريا، ولماذا لا يقوى على مخاصمتها؟ وتجيب نحن بلد صغير وثانوي وليس في وسعنا معاداة محيطنا الطبيعي. الرد حاضر ناضر: طيب لماذا تهددون إسرائيل، وهي صاحبة الجيش الأقوى والإمكانات الهائلة؟ تجيب إنها عدو تاريخي! لقد انتصر نتانياهو علينا بضربة قاضية: يقول: العرب لا يريدون السلام، ونحن نريده. نحن ندافع عن أنفسنا، ولو كان العرب والمسلمون اقوى مما هم عليه لأزالوا اسرائيل من الوجود. الخلاصة: لن نسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي. ونحن لا نعرف كيف نجيب.
لكن هذا كله يقع في الشأن اللبناني تحديداً. ربما يكون اللبنانيون اعجز من ان يساهموا في السياسة بالقدر الذي يساهمون فيه بالدم. لهذا يجب ان لا يتعجب احد إن ادعت سوريا انها هي وحدها من يحق لها التفاوض عن لبنان في هذه المسألة. ليس للبنان رأي في الصراع، وهو ليس مخيراً، وتالياً نحن نملك مفاتيح الحل والربط، في السياسة اولاً، وفي الأمن في ما بعد.
ايضاً لقد انتصر علينا النظام السوري بضربة قاضية. النظام السوري حتى الآن لم ينجح في هزيمة اسرائيل عدوه، لكنه من دون شك قادر على الانتصار على لبنان.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى