أوهام أوسلو وما فعلته بالفلسطينيين
ماجد كيالي
ما الذي تبقى من اتفاق أوسلو بعد مسيرة 16 عاما؟ وماذا عن الآمال أو بالأصح الأوهام التي عقدت عليه؟ وما الذي فعله هذا الاتفاق بالفلسطينيين؟ تلك فقط عينة من الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح في كل عام، وبمناسبة الذكرى السنوية لعقد هذا الاتفاق في البيت الأبيض الأميركي (13 سبتمبر/ أيلول 1993).
محصلة التجربة
وتنبع شرعية هذه الأسئلة من واقع تجربة أوسلو ذاتها التي أكدت أن محصلة هذا الاتفاق لم تكن لصالح شعب فلسطين وقضيته، فها هي المستوطنات تنتشر كالفطر في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فبعد أن كان عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية (بما فيها القدس) يبلغ 180 ألفا، وصل الآن إلى حوالي خمسمائة ألف، مع كل ما يستتبع ذلك من قضم للأراضي، لأغراض البني التحتية والطرق الالتفافية، كما للاعتبارات الأمنية والمائية، ومع كل ما يستتبع ذلك من تضييق على حياة الفلسطينيين وقطع التواصل بين تجمعاتهم، وتصعيب إمكان قيام دولة لهم.
وقد أضيف لمعضلة الاستيطان معضلة الجدار الفاصل الذي تواصل إسرائيل بناءه في أراضي الفلسطينيين، والذي يحصر التجمعات الفلسطينية في دوائر شبه مغلقة، ويتغلغل في أراضيهم، ويقطع التواصل الطبيعي بينهم.
فوق ذلك فإن مكانة إسرائيل كدولة تمارس الاحتلال، ومكانة الضفة والقطاع كأراض محتلة، تشوّشت في العالم، بحيث تحرّرت إسرائيل، بمعنى ما، من صورتها كدولة محتلة، ومن مسؤولياتها كدولة احتلال، من دون أن تنتزع سيطرتها الاستعمارية في هذه الأراضي.
أما الكيان الفلسطيني (المنقسم بين الضفة والقطاع حاليا) فيبدو وكأنه بمثابة دولة، مع وجود رئاسة وحكومة ومجلس تشريعي، ومع علم ونشيد وفضائية ورقم دولي، ومع انتخابات وموازنات وأجهزة أمن وموظفين وشرطة مرور(!)؛ وهو واقع مخادع يغطي على خضوع الفلسطينيين للاحتلال، ويحجب واقع سيطرة إسرائيل على حياتهم.
ممر أم خيار؟
إضافة إلى ذلك يمكن القول بأن طريق أوسلو لم يكن ممرا إجباريا للقيادة الفلسطينية، بل إنه كان خيارا سياسيا لها، اتخذته بدراية أو من دونها، بناء على أوهام عشعشت في أذهانها عن إمكان قيام دولة فلسطينية، في غضون سنوات معدودات.
كما أنها اتخذت هذا الخيار لتعويم مكانتها المتآكلة، بحكم التغيرات الدولية والإقليمية العاصفة، التي حدثت في مطلع التسعينيات، وتمثلت بالتداعيات الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وحرب الخليج الثانية.
والقصد القول هنا بأن الفلسطينيين كانوا يمتلكون خيارا آخر، للتكيف مع عملية التسوية (وليس ضدها)، من مثل ترك الأمور لوفد فلسطينيي الداخل (الذي كان يترأسه حينها د. حيدر عبد الشافي رحمه الله)، وتجنيب قيادة المنظمة، التي تمثل كل الفلسطينيين وكل قضية فلسطين، عبء هذه المغامرة وتبعاتها غير المأمونة والخطيرة؛ وشاهدنا على ذلك أن القيادة فرّطت بالمنظمة، ولم تستطع بناء كيان السلطة بشكل ناجز، بحكم القيودات والتملصات الإسرائيلية في عملية التسوية.
وربما أن وفد الداخل كان يمكن أن يحصّل أكثر من وفد المنظمة في المفاوضات، لتحرره من أية ضغوطات خارجية. وبفرض عدم تمكنه من ذلك، فإن أي اتفاق مجحف كان يمكن يعقده فلسطينيو الداخل، ما كان ليشكل التزاما بالنسبة لقيادة المنظمة، ما يبقي الأفق السياسي مفتوحا أمامها، لتحصيل المزيد من الحقوق.
الثمن الباهظ للاتفاق
أيضا، ثمة معطيات تفيد بأن الفلسطينيين كان يمكن أن يحصلوا على أكثر مما حصلوا عليه، نتيجة تسرع قيادتهم، ومراهناتها الخاسرة، بسبب سعيها تعويم وضعها، في وجه محاولات تهميشها واستبعادها؛ وكان الثمن لذلك باهظا وعلى حساب شعب فلسطين وقضيته، وعلى حساب مكانة المنظمة، التمثيلية والرمزية.
ويستنتج من ذلك أن القيادة الفلسطينية كانت تملك الفرصة لتقليص الإجحافات والثغرات والمخاطر المتضمنة في اتفاق أوسلو، الذي جاء على شكل مجموعة نقاط مطاطة وغامضة وملتبسة. فهذا الاتفاق، مثلا، لم يبتّ بعدم شرعية الاستيطان في الأراضي المحتلة، ولم يعرّف أراضي الفلسطينيين في الضفة والقطاع باعتبارها أراضي محتلة، ولم يصدر عنه شيء يوضّح ماهية التسوية أو المآل النهائي لها، ولم يستند إلى أية مرجعية دولية أو قانونية.
وفوق كل ذلك فقد جرى في هذا الاتفاق مرحلة عملية التسوية إلى مرحلتين: انتقالية (ومدتها خمسة أعوام) لإقامة حكم ذاتي انتقالي، والثانية نهائية، يتم فيها التفاوض على القضايا الأساسية للصراع (وهي تتعلق بمستقبل قضايا اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والترتيبات الأمنية). بمعنى أن هذا الاتفاق أجّل القضايا الأساسية (وهذه ثغرة أساسية)، لصالح مجرد إقامة كيان انتقالي.
وبناء على هذا الاتفاق جرى أيضا تقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مناطق أ، ب، ج(!)، وكل ذلك يثبت أن القيادة الفلسطينية تورطت وورطت شعبها في هذا الاتفاق وتفاصيله المتعرجة والملتبسة.
وبديهي أن القيادة الفلسطينية فعلت ذلك بناء على وهم مفاده أن الحكم الذاتي الانتقالي سيفضي، بعد مرحلة انتقالية قدرها خمس سنوات، إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة (في الضفة والقطاع) عاصمتها القدس الشرقية، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين، مع إمكان إنشاء نوع من علاقات التعاون الاقتصادي التي تساهم في تحقيق الاستقرار والازدهار الاقتصادي بين إسرائيل ودول المنطقة، عموما، إلى الدرجة التي تمكّن، وبمساعدة الدول المانحة، من تحويل الأراضي المحتلة إلى “سنغافورة” أو “هونغ كونغ” في الشرق الأوسط!
طبعا، لم يحدث أي من هذه الأمور، وقد تكشفت هذه الطروحات عن أضغاث أحلام وعن تهويمات أو رغبات ذاتية، تعشعش في رؤوس أصحابها. فبعد ستة عشر عاما، على اتفاق أوسلو، ليس ثمة سيطرة فلسطينية تامة في الضفة والقطاع، وفقط فإن إسرائيل انسحبت من ما مجموعه 40% من أراضي الضفة، المحاطة بالمستوطنات وقوات الجيش وبأطواق أمنية.
والنتيجة أن الفلسطينيين لم يحصدوا سوى خيبات الأمل، وأن الأوهام التي داعبتهم لم تكن إلا أضغاث أحلام، وها هم بعد هذه السنوات الطويلة لم يتمكنوا حتى من تحقيق الحكم الذاتي الناجز، كما لم يستطيعوا مجرد تجميد الاستيطان.
ما فعله الاتفاق بالفلسطينيين
وفي الواقع فإن اتفاق أوسلو فعل كثيرا بالفلسطينيين، فهو غيّر حركتهم السياسية، ونظامهم السياسي، وشوّش طابع قضيتهم، وأدخلهم في ملهاة السلطة وصراعاتها، وحملهم مسؤوليات الاحتلال، وقوض شرعية مقاومتهم.
هكذا انتقلت الحركة الوطنية الفلسطينية من حيز الصراع مع إسرائيل إلى حيز التعايش معها، ومن هدف التحرير إلى هدف إقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع، ومن حيز الكفاح المسلح لاستعادة الحقوق إلى حيز المفاوضات لأجل ذلك.
ومع توقيع اتفاق أوسلو (1993)، وإقامة السلطة في الضفة والقطاع، بات يمكن التأريخ لمرحلة جديدة في مسيرة النظام الفلسطيني، بعد المرحلة السابقة التي تمثلت بإقامة منظمة التحرير، ككيان معنوي موحد للشعب الفلسطيني. وفي هذه المرحلة ازداد ثقل الداخل على حساب الخارج، وأدى ذلك إلى تراجع دور المنظمة وتآكل مكانتها التمثيلية، لحساب السلطة في الداخل.
وقد فاقم من ذلك وجود قيادة المنظمة في الداخل وتحولها إلى قيادة للسلطة؛ فالرئيس الراحل ياسر عرفات (وبعده محمود عباس) هو رئيس المنظمة والسلطة وقائد فتح. وبالمحصلة فإن تورّط قيادة المنظمة باتفاق أوسلو أدى إلى تهميش المنظمة بل وتغييبها، لصالح مجرد سلطة ناشئة في كنف الاحتلال، حيث خسرت الساحة الفلسطينية الأولى ولم تنجح في الثانية، ولو بالحد الأدنى، كونها لم تستطع إحداث التوازن المناسب بين متطلبات الكيان الجديد (السلطة)، وبين الحفاظ على الكيان القديم (المنظمة)، ولا بين تمثيلها لفلسطينيي الداخل وفلسطينيي الخارج من اللاجئين (الذي دفعوا من دمهم وعمرهم ثمن النهوض الوطني الفلسطيني المعاصر)، لاسيما أن كل ذلك يحصل قبل إنجاز هدف التحرر الوطني، أو قبل اليقين من إنجازه.
وفي كل ذلك بدت القيادة وكأنها فرّطت بجزء كبير من مواردها وقواها (أي بثقل الفلسطينيين في الخارج وبمغزاه السياسي)، بشكل مجاني، كمثل أي قيادة “عالم ثالثية” تقوم بهدر مواردها بطريقة مزاجية وعبثية. ويمكن التأكد من ذلك ليس بالشعارات الاستهلاكية والترويجية وإنما من واقع انعدام الصلة العملية بين المنظمة والفلسطينيين في مناطق اللجوء والشتات، وتغييبهم عن المعادلات السياسية، في ساحة فصائلية تفتقد لأصول المشاركة السياسية الفعلية، من حيث المبنى والمعنى.
إضافة إلى كل ما تقدم فقد تحرر النظام السياسي الفلسطيني من شروط وقيود النظام الرسمي العربي، لكنه في المقابل وقع في إسار الشروط والمحددات الإسرائيلية، والدولية، بواقع اعتمادية الكيان الفلسطيني الناشئ على الموارد الخارجية التي تأتيه من الدول المانحة.
نتيجة لكل تلك المحددات والتحولات فقد اعتورت النظام الفلسطيني في حقبته “الأسلوية”، عديد من الثغرات والسلبيات، من مثل افتقاد القيادة الفلسطينية لأي هامش مرونة في إدارتها لصراعها التفاوضي مع إسرائيل؛ فهذه القيادة لم تعد تستطيع الذهاب بعيدا في صراعها ضد إسرائيل بالعودة إلى حيث كانت، أي إلى زمان الكفاح المسلح، لأن ثمن ذلك سيكون باهظا (وهو ما حصل إبان مواجهات السنوات الثماني الماضية)، وهي أيضا لا تستطيع الولوغ كثيرا في مسايرة الإملاءات الإسرائيلية، لأن ذلك سيقوض شرعيتها في الشارع الفلسطيني.
وفي تلك المرحلة تنامى نوع من التخوف في أوساط اللاجئين الفلسطينيين على حقوقهم التاريخية، وعلى مكانتهم في العمل الفلسطيني، فمنظمة التحرير التي تعبر عنهم وتوحدهم وتشكل هويتهم تكاد تدخل في طي النسيان، ومشروع التسوية، في شروطه ومعطياته السائدة، لا يأخذ حقوقهم وأوضاعهم بعين الاعتبار، الأمر الذي عزز، أيضا، من مخاوف الفلسطينيين على وحدتهم ومستقبلهم كشعب.
ويمكن أن نضيف إلى كل ما تقدم انقسام الساحة الفلسطينية، في حقبة أوسلو، بين تيارين وقيادتين ومرجعيتين تتمحور الأولى من حول حركة فتح والثانية من حول حركة حماس (وهو الذي تمظهر مؤخرا بانقسام النظام الفلسطيني بين حكومتي الضفة وغزة).
استنتاجات
بالمحصلة فقد أدت كل هذه المحددات والتطورات إلى خلق ممهدات تحول جديد في النظام الفلسطيني، تتميز بالسمات التالية: أولا، تراجع دور حركة فتح في العمل الوطني، وانحسار مكانتها في المجتمع الفلسطيني، على خلفية إخفاق مشروعها في التسوية والانتفاضة، وما شاب صورتها كسلطة، وهو ما تم التعبير عنه بخسارتها الانتخابات التشريعية (2006) لصالح حركة حماس، وانهيار وضعها في قطاع غزة بعد هيمنة حماس عليه بالقوة (2007).
ثانيا، انقسام النظام السياسي الفلسطيني، بين حركتي فتح وحماس، ونشوء نوع من كيانين متصارعين ومتناحرين (في الضفة بقيادة فتح وفي غزة بقيادة حماس).
ثالثا، تحول حركة فتح إلى حركة سلطة، على حساب طابعها كحركة تحرر وطني. وقد استنتجت فتح بأن محاولاتها السابقة للمزاوجة بين المقاومة والمفاوضة لم تفلح، ولذلك فهي وطّنت نفسها (كما جاء على لسان محمود عباس قائدها ورئيس السلطة والمنظمة) لاستعادة الحقوق الوطنية بالمفاوضات باعتبارها الطريق الوحيد لذلك.
رابعا، وصول الحركتين الرئيستين (فتح وحماس) إلى مقاربة واحدة (بعد التجربة السابقة) مفادها القبول بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع، والتحول نحو التهدئة مع إسرائيل؛ وإذا كان هذا الأمر ليس جديدا على فتح، فهو جديد على حركة حماس، التي نمت شعبيتها على أساس برنامج التحرير ونهج المقاومة.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن الطريق التفاوضي الذي شقته القيادة الفلسطينية، بالإجحافات المتضمنة فيه، وبطريقة إدارته، جلب الكثير من الكوارث على شعب فلسطين، وضيّع صدقية قضيته، وأضعف من حركته الوطنية.
الجزيرة نت