الدور التركي في المنطقةصفحات العالم

حلف بغداد معكوساً

سركيس أبو زيد
تتجه الأنظار في المنطقة والعالم إلى تركيا، التي زارها الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد، تلبية لدعوة حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان. وقد جرت مباحثات بين الجانبين السوري والتركي خلال الزيارة، بالتوازي مع انعقاد لقاءات إقليمية مهمة في تركيا، وخصوصا بعد ترجيح عقد لقاءات التفاوض بين إيران ومجموعة الست في تركيا، وتأكيد الرئيس الأسد على التمسك بالدور التركي في أي تفاوض غير مباشر مع إسرائيل، ومع استمرار الاجتماعات المتصلة بالأزمة السورية العراقية. والدور الذي تقوم به تركيا له أبعاد إقليمية ودولية، ويعكس التقارب الاستراتيجي بين أنقرة ودمشق، ومن آفاقه نلخص ما يلي:

أولا: الدور التركي الذي احتفل به الشارع العربي خلال حرب غزة، سبق أن اكتشفه الرئيس بشار الأسد منذ توليه رئاسة الجمهورية قبل تسع سنوات، حيث باشر البناء التراكمي لجسور الثقة والتفاعل مع القيادة التركية، وحصد نهجه الاستراتيجي نتائج كبرى، تبدو اليوم ظاهرة للعيان في المنطقة.
العلاقات التركية السورية انطلقت من وضع متوتر يشبه الحرب الباردة بين الجارين منذ عقود طويلة وصفت فيها الاستراتيجيات الأميركية تركيا بأنها الفك الشمالي لمحاصرة سورية، وهي اليوم تحصد ثمار أسلوب الأسد في جعل مناطق الجوار الحدودية المشتركة بين البلدين جسور تواصل سكاني، وشراكات اقتصادية وأمنية وعسكرية نامية، تقوم على التكافؤ والتبادل.
الرئيس الأسد أدار مبادرته نحو تركيا بمنهجية جديدة، تقوم على مخاطبة المصالح المشتركة وتحفيزها، وعبر التمسك بثقافة الحوار واحترام الاختلاف لتعزيز المساحات المشتركة بين البلدين، ولتحرير العلاقات الثنائية من المواقف المسبقة والتصنيفات الديماغوجية العقيمة في العلاقات بين الدول.
ثانيا : شكل الموقف التركي من الغزو الأميركي للعراق، محطة أولى إستراتيجية في توثيق التقارب، وانطلاق مرحلة مهمة من التنسيق بين سورية وتركيا على قاعدة الموقف التركي الرافض لاستعمال الأراضي التركية كممر للقوات الغازية، وحيث تفاهم الجانبان على مفهوم مشترك للأمن الإقليمي، انطلاقا من تفاعلات الحرب الأميركية، ومن نتائج احتلال العراق والمخاطر التي تهدد كيانات المنطقة في ظل اندفاع خطة الفوضى والحروب الإثنية والعرقية والمذهبية التي حركها غزو العراق واحتلاله. تعززت الرؤية المشتركة بين البلدين انطلاقا من التمسك بوحدة العراق واستقراره.. ومن مبدأ حل مشكلات المنطقة بتفاهمات إقليمية خارج إطار التدخلات والحروب.
ثالثا : البناء السوري على الثقة المشتركة بين أنقرة ودمشق، شهد تحولا سياسيا كبيرا لتعظيم الدور التركي من خلال الوساطة في المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل، وهو ما اختارت به تركيا دورا حقق لها رصيدا عربيا وإسلاميا ودوليا بظهورها في موقع الدفاع عن مفهوم التسوية الشاملة والعادلة للصراع العربي الإسرائيلي، وخارج منطق الانحياز الأعمى لإسرائيل نتيجة لعضويتها في الحلف الأطلسي الذي تورطت دول عديدة من أعضائه في دعم حربي إسرائيل الكبيرتين اللتين قادتهما إسرائيل ورعتهما إدارة جورج بوش ضد لبنان وقطاع غزة.. وكان الموقف التركي منهما متضامنا مع الشعبين اللبناني والفلسطيني ومقاومتهما. وقد وظفت تركيا علاقاتها الدولية في تعميم النظرة المشتركة السورية التركية التي تعتبر المقاومة ضد الاحتلال والعدوان عملا مشروعا، وترفض التصنيفات الأميركية والدولية لحركات المقاومة كمنظمات إرهابية.
أبدى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان استعداد بلاده لمعاودة دورها وسيطاً في مفاوضات السلام غير المباشرة المعلقة بين إسرائيل وسورية. وقال: «بدأت المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل، لكن حرب غزة أوقفتها، وأتمنى ألا تتوقف وتعاد الأراضي السورية إلى سورية ويلغى هذا الواقع».
وأضاف أنه «على رغم توقف هذا العدوان (على غزة) لم تفلح جهود الإغاثة للمتضررين، إذ لايزال اكثر من مئة ألف في العراء من دون مأوى، ذلك أنه لم يسمح حتى الآن إلا بدخول الغذاء والدواء، ولاتزال الأبواب موصدة أمام جهود إعادة إعمار غزة». وأشار إلى أنه «عندما تفتح أبواب الإنسانية تفتح أبواب غزة».
وشدد على أن «دمشق تضطلع بدور المفتاح في مسألة السلام في الشرق الأوسط، ومساهمتها مهمة لتحقيق السلام في المنطقة، ويجب أن تسهم إيجاباً في هذه المرحلة». ولاحظ أن «في الشرق الأوسط نقاطاً حساسة نحاول أن نضطلع فيها بدور إيجابي في هذه المرحلة.. ان سورية وتركيا تمتلكان رؤية مهمة جداً حيال قضايا المنطقة، وتستطيعان إسداء النصائح إلى الآخرين في هذه القضايا».
رابعا: أقامت سورية جسور التواصل بين تركيا وإيران وحفزت لدى البلدين الجارين التحرك على خطوط الشراكات النفطية والمصالح الإقليمية بعد نشوء بدايات التعاون الإقليمي في مجموعة جوار العراق وتبادل الزيارات التي كرست حالة جديدة بين طهران وأنقرة وتحت عيون دمشق وبتحفيز مستمر منها. واليوم تتخطى العلاقات الإيرانية التركية موروثا كبيرا وضخما من الحساسيات والتعارضات وتدخل منظومة التعاون الإقليمي الثنائي في جميع المجالات، وصولا للثقة الإيرانية بصلاحية تركيا كمضيف للحوار مع المجموعة الأميركية الدولية حول الملف النووي والقضايا الإقليمية والدولية التي تضمنتها رزمة المقترحات الإيرانية مؤخرا.
خامسا: استثمر الرئيس الأسد على رصيد سورية التاريخي في العلاقة مع الجالية الأرمنية التي احتضنتها سورية، وقدمت لها رعاية خاصة منذ العام 1970، وعلى العلاقة المتقدمة مع جمهورية أرمينيا لبناء جسر حوار وتواصل بين تركيا وأرمينيا الوارثتين لمشكلات عميقة ومتراكمة منذ مطلع القرن الماضي، وشكل الدور السوري الهادئ والبعيد عن الأضواء عنصر التحفيز الرئيس للتطورات التي بدت مفاجئة في شراكات وعلاقات اقتصادية وسياسية نامية بين تركيا وأرمينيا.
سادسا: من أجل تطويق محور الشرق الأوسط، ودور تركيا – إيران المتنامي، يسعى الرئيس أوباما إلى تحريك التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي. وتشير المعلومات إلى أن الولايات المتحدة تريد دفع المفاوضات بين إسرائيل وكل من الفلسطينيين وسورية ولبنان في آن واحد، وترى أن المسار اللبناني هو الأسرع للحل.
والتقديرات تشير إلى أنه سيكون في الإمكان التوصل إلى اتفاق اسرائيلي – لبناني على نحو أسرع من المسارين الآخرين، بدعوى أنه «لا خلافات حقيقية» بين الدولتين، وإنما تنحصر الخلافات «فقط» في ترسيم الحدود في مزارع شبعا وقرية الغجر.
وتفيد المعلومات ان الأميركيين يخططون لإطلاق عملية سياسية تشمل مفاوضات في ثلاثة مسارات، فلسطيني-إسرائيلي، وسوري-إسرائيلي، ولبناني-إسرائيلي من خلال عقد مؤتمر دولي لم تتم بلورة شكله حتى الآن، ولكن تجري دراسة لإمكان دعوة زعماء الدول العربية، وربما زعماء الدول الإسلامية أيضا إليه.
ويبدو أن الرئيس الأميركي باراك أوباما مستاء من زعماء الدول العربية المعتدلة، التي لاتزال ترفض تنفيذ خطوات «تطبيعية» مع إسرائيل. وتستهدف الإدارة الأميركية إنشاء حلف إسرائيل وعرب الاعتدال لمواجهة «حلف بغداد» جديد. حلف بغداد القديم تشكل في أواخر الخمسينيات برعاية بريطانية أميركية وضم إسرائيل – تركيا – إيران – العراق.
العلاقة التركية السورية هي اليوم في مرحلة صعود، وتحمل معها ملامح وضع استراتيجي جديد عبرت عنه كلمة الرئيس الأسد في طهران، عندما طرح فكرة المجموعة المشرقية التي تضم إيران والعراق وسورية و تركيا. وهذه المجموعة المهيأة للتشكل والتحول إلى كتلة صاعدة وقوية في المنطقة والعالم.. لذلك يبدو، وبكل وضوح، أن استهدافها من خلال إثارة الخلاف بين دمشق وبغداد هو تعبير عن معناها الاستراتيجي الذي يحاكي منطق التاريخ والجغرافيا.
دمشق وطهران وأنقرة وبغداد كانت عواصم الإمبراطوريات التي حكمت الشرق، وكان لها نفوذ كبير في العالم القديم على مدى آلاف السنين. واستراتيجية إحياء هذا الشرق بقواه الحية، وبهويته الحضارية، وموارده الطبيعية والبشرية القادرة على تغيير المعادلات ووجه المنطقة التي رسمت معالمها مع وعد بلفور قبل حوالي مئة عام.

كاتب من لبنان
أوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى