في الكم الضامن والديمقراطية المستقرة ..
بدر الدين شنن
في اليوم العالمي للديمقراطية بالذات ، الذي جرى الاحتفاء به منذ أيام ، شارك السيد محمود الأبرش ، الحامل لصفات الدرجة الأولى من المسؤولية في النظام السوري ، فهو رئيس مجلس الشعب ” البرلمان ” وعضو في القيادة القطرية وعضو في القيادة المركزية ل ” الجبهة الوطنية التقدمية ” ، شارك بالمناسبة بمداخلة لافتة ، في حوار حول طاولة مستديرة في مجلس الشعب حول الديمقراطية ، لخص فيها سياسة النظام على مستوياته التي يشارك فيها السيد الأبرش ، في مسألة الديمقراطية وقانون الأحزاب ، ودور الجبهة ، فقال ، ” لاحاجة لإصدار قانون أحزاب في سوريا .. والجبهة تعد تجربة رائدة في تنفيذ الديمقراطية المستقرة في سوريا ” . وفي غضون ذلك صرح السيد هيثم سطايحي عضو القيادة القطرية للحزب ، أن تعداد حزب البعث يبلغ ( 5 ، 2 ) مليون عضواً . وتابع قائلاً ، ” أن الكم رصيد مهم نضمن به موقعنا القيادي ” .
لم يصدر بعد ذلك عن أية جهة رسمية أو حزبية ما يعدل أوينفي ما جاء على لسان السيدين الأبرش والسطايحي ، باعتبار أن ماطرحاه يعتبر تراجعاً واضحاً على أعلى مستوى عن وعود الإصلاح ، التي طرحها النظام سابقاً ، وعن وعود بقانون أحزاب كررها الرئيس الأسد مرات عدة في مقابلات مع بعض الصحف العالمية وفي خطب وتصريحات محلية . كما يعتبر تجاوزاً لمفاهيم سياسية في بنى الدولة وفي مسائل الحريات والديمقراطية ، التي يزعم النظام أمام العالم ، أنه على قناعة تامة بها ، وأنه بصدد السعي الحثيث لبلوغها ، إنما حسب ” الخصوصية المحلية ” وحسب ما تسمح به الظروف التي تمر بها البلاد لاسيما ” الضغوط الخارجية ” التي تشكل حسب زعمه المعوق الأساس لأي خطوة داخلية باتجاه الإصلاح ، الذي يتضمن فيما يتضمن إصدار قانون للأحزاب .
لكن يبدو أن ” حليمة ” لاتتخلى عن عاداتها القديمة . ففي المناقشات التي دارت في أول السبعينات من القرن الماضي حول إعداد الد ستور وميثاق الجبهة ، أصر ممثلو حزب البعث على اعتماد عبارة ” أن حزب البعث يقود جبهة وطنية تقدمية ” دون ” ال ” التعريف ، حتى لايمنح الد ستور وميثاق الجبهة الشرعية للأحزاب التي ستنضم إلى الجبهة . وكان ذلك سبباً من الأسباب الهامة التي دفعت حزب الاتحاد الاشتراكي إلى الإنسحاب من الحكم ، حيث نرى االآن ، بعد نحو أربعين عاماً على التجربة الجبهوية المحرومة من ” ال ” التعريف ، وتجربة النظام عامة المحصنة بحالة الطواريء والأحكام العرفية .. نرى كيف يجري تعزيز وتأكيد التمسك بنفس المنطق السبعيني للإستئثار بالحكم ، تحت غطاء ” ديمقراطية الجبهة المستقرة ” .. ونرى أنه ماتزال مفاهيم كم الحشد الأمني تتغلب على مفاهيم العقل السياسي الحضاري المتمدن ، لتوفير مقومات غير ديمقراطية لاستدامة النظام .
والسؤال هنا ، على ماذا بنى السيد الأبرش في حديثه عن تجربة الجبهة ووصفها بالتجربة الرائدة في تنفيذ الديمقراطية المستقرة ؟ هل بنى على جهل المواطن في الجيل الراهن لميثاق الجبهة وآليات عملها .. أم على عدم قدرته على كشف تعارض الميثاق مع أبسط مباديء الديمقراطية بتكريسه أكثرية ثابة لحزب البعث في قيادة الجبهة ؟ أم أنه بنى على الخواء السياسي في المجتمع ، الذي قد يمرر ، إلى حد ما ، مثل هذا التجهيل للمواطن ؟ .. على أية حال ، لم يكن اعتبار تجربة ” الجبهة الوطنية التقدمية ” تحت قيادة أكثرية الثابتة بنص دستوري وميثاقي تجربة رائدة في تنفيذ الديمقراطية المستقرة ، لم يكن لصالح تحسين صورة النظام ، ولالصالح الدلالة على تطوير الفكر في ” الحزب القائد ” . فتجليات ” الديمقراطية المستقرة ” لم تظهر في التطبيقات المؤمنة بالكامل بحقوق الإنسان ،وباحترام التفاعلات السياسية والاجتماعية والمساواة أمام الد ستور والقانون ، بل ظهرت في التدابير والإجراءات الأمنية ” المسقرة ” على حصار حرية وحقوق المواطن بحالة الطواريء والأحطام العرفية . لقد جاء هذا الاعتبار بمثابة إضاءة لحقيقة نوايا وتفكير أهل النظام في الشأن السياسي الداخلي ، ما يملي على المعنيين بالتغيير الوطني الديمقراطي ، أن يأخذوا ، جديا” ً بعين الاعتبار ، أنه حتى قانون أحزاب تحت سقف النظام .. بات بعيد الاحتمال .. وربما بعيد المنال .
واستطراداً ، لابد من من السؤال أيضاً ، على ماذا بنى السيد سطايحي قناعاته ” أن الكم رصيد مهم لضمان الموقع القيادي ” ؟ .
إن التجربة الذاتية لحزب البعث تثبت عكس ذلك . فأغلبية الكم في الحزب ، لم تضمن الموقع القيادي لما سمي ب ” القيادة القومية اليمينية ” ، ولم تضمن الموقع القيادي ليسار الحزب المسمى ب( 23 شباط ) . وإلاّ لما حدث انقلاب 23 شباط 1966 وانقلاب الحركة التصحيحية 1970 .
وفوق كل ذلك .. وقبل كل ذلك .. إن ماضمن ويضمن الموقع القيادي لحزب البعث في الدولة والمجتمع منذ انقلاب 8 آذار 1963 ، حسب الذاكرة السياسية والتاريخية .. هو القمع المشرع عن حالة الطواريء والأحكام العرفية ، وليس الكم العددي الذي لايضمن نجاح مرشحي الحزب وحلفائه في انتخابات ديمقراطية حرة على أي مستوى تمثيلي في البلاد .
بيد أنه .. حسب التجارب التاريخية لابد من الإشارة إلى أنه ، يمكن للكم أن يلعب دوراً ما أحياناً .. لكن النوع الكمي ، الذي يحمل مهمات ا ستحقاقات تاريخية .. تحرر وطني .. تغيير وطني ديمقراطي .. تحولات اجتماعية تقدمية .. هو الأهم والأكثر ضماناً للموقع القيادي للقوى والأحزاب على مستوى المجتمع والدولة .
اللافت في هذا السياق ، أن الطروحات الأخيرة للمسؤولين المذكورين في النظام ، أنها تأتي ما بعد الإنفراج النسبي الحاصل في علاقات النظام الخارجية الإقليمية والدولية . وقد كان هذا الإنفراج رهان بارز في أوساط معارضة انبنى على أن مثل هذا الإنفراج سوف يفسح في المجال لإنفراج سياسي مواز لصالح المعارضة في الداخل ، بل لازال هناك من يتمسك بهذا الرهان . إلاّ أن حساب الحقل لم يطابق البيدر . فبعد ما حصل عليه النظام من إنفراج يسعى لتوسيعه ، ليس بحاجة لإعادة النظر بحساباته الداخلية لصالح خصومه المعارضين ، فهم في نظره ، ليسوا بحالة ذات وزن تؤمن لهم حضوراً يشترط حوراً مكافئاً معه . وقوى الخارج لايهمها سوى مصالحها ، التي وحده النظام قادر على تأمينها .
ربما هيثم سطايحي ، إلى حد ما ، مصيب في مفهوم الكم لتأمين رصيد مهم لضمان الموقع القيادي ، ولو مؤقتاً .. وترجمة ذلك على الضفة المقابلة للنظام .. أن الكم الشعبي المعارض هو وحده الذي يضمن الموقع القيادي المعارض .. ويضمن انتصاره .