الإعلام العربي وكراهية “الآخر”
د. عمّار علي حسن
تناولت في المقال السابق الأركان العامة لمبدأ “قبول الآخر” من النواحي السياسية والاجتماعية والفلسفية، وانتهيت إلى أن إعلاء هذا المبدأ منوط برافدين أساسيين هما التعليم والإعلام، لما يعلبانه من دور حيوي في تشكيل العقول وبناء النفوس وصياغة المعارف والقيم والتوجهات..
ومن نافلة القول إن الحوار وقبول الاختلاف في الرأي يمثل أساس العمل الإعلامي وروحه، وذلك على المستوى النظري، وهذه مسألة قد لا يلتفت إليها العديد من الإعلاميين كثيراً، ولكنها تعبر عن حقيقة جلية لا يمكن تجاهلها ولا إغفالها، بأي حال من الأحوال.
ومن حيث المبدأ فإن للإعلام بأنماطه ووسائله المتعددة دوراً بالغ الأهمية في بناء الإنسان عبر تعزيز انتمائه الوطني وتثقيفه وتعريفه بحقوقه وواجباته في الميادين كافة، وكذلك في بناء المجتمع من خلال الارتقاء بالرؤى والتصورات التي تساعد الناس على أن يصبحوا قيمة مضافة في عملية التنمية وانصهار الجماعة الوطنية والالتفاف حول مشروع قومي للدولة. ويمثل الإعلام المنبر الجماهيري الأضخم للتعبير عن آراء المواطن وهمومه وعرض قضاياه وشكاواه، بل إن وسائل الإعلام الحديثة، في ضوء حرية تدفق المعلومات وعصر السماوات المفتوحة، باتت هي أبرز الأدوات لانتقال الثقافات وتبادل الخبرات بين مواطني مختلف الدول في شتى بقاع المعمورة. وعلى المستوى المحلي باتت وسائل الإعلام في بعض الدول تؤدي دوراً يفوق دور الأحزاب السياسية وجماعات المصالح، بل لقد بات بعضها يتجاوز قدرات البرلمان ذاته في الرقابة على أداء الحكومة.
وحتى تتحقق هذه الغايات أو تلك الأهداف فمن الضروري أن نقف على مدى التزام الإعلاميين بالمعايير المهنية والأخلاقية، ودرجة إسهام البرامج التدريبية الإعلامية في تعزيز عنصري الموضوعية والمسؤولية جنباً إلى جنب مع الحرية، باعتبار هذا يشكل المدخل الصحيح لأي انطلاقة إعلامية تحقق الأهداف الإيجابية لعملية الاتصال.
فالعلاقة بين الحرية الإعلامية، وفضائها الأكبر المرتبط بحرية التعبير، وبين شروط الموضوعية والمسؤولية الملقاة على عاتق الإعلام، يجب أن تستند الى قاعدة مفادها أن الإعلام الحر هو الذي يصنع المجتمع الحر، والإعلام المسؤول هو الذي يقدم الحقائق والمشكلات دون مواربة، ودون التعبير عن مصالح فئوية أو طبقية، ويلتزم بالشروط القياسية للعمل الإعلامي السليم.
وعند هذا الحد يعتبر ترسيخ فكرة “قبول الآخر” إحدى المهام الأساسية لوسائل الإعلام، وهي مسألة يمكن تحقيقها من خلال حزمة من الإجراءات العملية، تبدأ بالقوانين العامة التي تحكم حركة المجتمع، ثم القوانين الخاصة التي تسير وفقها المؤسسات الإعلامية، حكومية كانت أو خاصة، ثم مدونات السلوك التي يجب أن تضعها كل وسيلة إعلامية لتمنع أي تفلت أو انتهاك أو اختراق يؤدي إلى الكراهية، والسجال العقائدي، والتشرذم الاجتماعي.
وحتى نقترب أكثر من هذه المسألة، منتقلين من التنظير إلى الواقع العملي، نجد أن هناك ثلاث قضايا رئيسية تحتاج من الإعلام إلى التفات وتركيز، حتى يسهم بطريقة خلاقة في ترسيخ مبدأ “قبول الآخر”، أولاها هذه التي تتعلق بالتمييز على أساس النوع، أي بين الرجل والمرأة. والثانية ترتبط بالاحتقانات الاجتماعية في العالم العربي، والتي تتم على أساس الخلفيات الدينية والمذهبية والعرقية والطبقية. والثالثة تتمثل في التفاوت الموجود بين الريف والحضر، وهي مشكلة تعاني منها المجتمعات العربية من دون استثناء، ولكن بدرجات متفاوتة.
فعلى أساس النوع لا يزال الإعلام العربي عاجزاً عن وضع جدول أعمال متماسك ومتناغم وإيجابي عن قضية العلاقة بين الرجل والمرأة، يرسخها تحت طائلة التكامل بين الطرفين، وليس الصراع بينهما، ويوسع من دائرة الاهتمام بـ “تمكين المرأة” لتتعدى انشغال ومصالح النخبة النسوية وتصل إلى توصيف وتشخيص أحوال النساء العاديات، من بين الفلاحات والعاملات والموظفات اللاتي يشغلن المواقع البيروقراطية الدنيا، وهن نساء منسيات إلى حد كبير في مختلف البرامج الإعلامية، لاسيما تلك التي تعالج قضايا المرأة. وعلاوة على ذلك يسقط الإعلام العربي إلى حد كاسح في استخدام جسد المرأة في اصطياد القارئ والمستمع والقارئ والمطالع، ويبلغ هذا الأمر أقصى حدوده في الإعلانات التي تلعب على الغرائز في أغلب الأحوال، ولا تستحي من أن تشيئ الإنسان.
أما بالنسبة للقضية الثانية فنجد أن الإعلام العربي لم يعالجها على الوجه الأكمل، أو بالطريقة التي تقود إلى الانصهار أو الاندماج الاجتماعي تحت راية “الدولة الوطنية”. فالإعلام إن لم يكن قد خلق كل هذه المشكلة، فإنه قد ساهم أحياناً في تفاقمها، بل إنه في بعض الأحيان خلق بعض المشكلات من عدم، بفعل تحيز بعض الإعلاميين وقلة كفاءتهم المهنية، وغياب أو ضعف الأطر التي تحدد وتحكم فلسفة الوسيلة الإعلامية، سواء كانت صحيفة أو مجلة أو قناة تلفزيونية أو إذاعة أو موقعاً إلكترونياً.
وهناك مثلان بارزان في هذا الشأن، الأول يطرحه الإعلام العراقي، الذي وقع في فخ تغطية الأحداث الدامية التي أعقبت الغزو الغربي للعراق على أساس طائفي. فقد كان بعض الصحفيين المنتمين إلى المذهب الشيعي، يتناولون الأحداث من وجهة نظر طائفية بحتة، ويقع الآخرون المنتمون إلى المذهب السني في الخطأ ذاته، الأمر الذي عزز الانقسام الاجتماعي، ونال من ترابط الدولة العراقية المعاصرة. وقد طغى هذا الاتجاه حتى تدخلت الحكومة وألزمت الإعلاميين بـ “ميثاق شرف صحفي” يفرض عليهم تغطية متوازنة، تتحرى الدقة، ولا تجافي المسؤولية السياسية للإعلامي في الحفاظ على “الوحدة الوطنية”.
ويتوفر المثل الثاني في الإعلام المصري، الذي يسقط بعضه في المبالغة والتحيز، أثناء تغطية الأحداث الطائفية، ويخلط بين ما هو طائفي وما هو غير ذلك. فكثير من المنازعات التي تثار بين المسلمين والمسيحيين تحال أسبابها إلى خلفيات اجتماعية بحتة، ومع ذلك يتناولها الإعلام بوصفها قضية طائفية. فكم من مرة وقع خلاف بين فلاح مسلم وزميله المسيحي على مناوبات الري مثلا، وهي مسألة متكررة بين الفلاحين المسلمين مع بعضهم بعضاً، وفيما بين الفلاحين المسيحيين أيضاً. وعلى رغم هذه الخلفيات تتسابق وسائل الإعلام على تصوير ما جرى على أنه نزاع عقائدي. ويصر بعض الإعلاميين على تعميق هذا الاتجاه الخاطئ في إطار المنافسة الشرسة على القراء والمشاهدين.
وفي الوقت نفسه يعجز الإعلام العربي عن بلورة رؤية عميقة ومتكاملة عن معالجة الاحتقانات الطائفية وأشكال التمييز على أساس الدين والعرق واللغة والجهة والطبقة، وتبديد الصور النمطية المتبادلة بين مختلف الطوائف والفئات والشرائح الاجتماعية.
وتجور المدينة على الريف في الإعلام العربي. فالأولى قضاياها حاضرة، وتغطيتها غزيرة، بينما يعاني الثاني من تجاهل فاضح. وقد يعود هذا في جانب منه إلى أن إيقاع الحياة في المدينة أسرع، والصراعات الاجتماعية التي تنشب فيها أكثر حدة وأغزر وقوعاً، ومن ثم فإنها تنتج أخبارا بلا هوادة، والخبر هو المادة الأولى والأساسية للإعلامي. ولكن هذا لا يبرر إطلاقاً هبوط درجة تغطية أوضاع الريف إلى هذا الحد المزري، لاسيما من زاوية الدور الذي يلعبه الإعلام في التنمية بمختلف أشكالها وأنماطها. وبالإضافة إلى هذا فلا يزال الإعلام العربي، في الغالب الأعم، غير قادر على تجاوز الصور النمطية المغلوطة عن الحياة في الريف وطبيعة البشر هناك.
وهذه القضايا الثلاث هي مجرد نماذج دالة على كراهية الآخر أو التحقير منه في الإعلام العربي، الذي أصبح بعضه عالة على البرامج الرامية إلى الدمج الاجتماعي، وقبول “الآخر” بدلا من أن يكون وسيلة ناجعة في تحقيق هذه الغاية المهمة والنبيلة، التي يصبو إليها كل غيور على مستقبل زاهر وآمن ومستقر لوطنه.
الاتحاد