«حياة الديموقراطية وموتها» لجون كين: هل الديموقراطية هي الأفضل؟

حسن عجمي

ينسف جون كين في كتابه «حياة الديموقراطية وموتها» بعض الأفكار التقليدية المسيطرة ويقدّم تحليلات جديدة لمفهوم الديموقراطية وتاريخها. نرصد هنا أطروحاته الأساسية ونتساءل: لماذا نحن العرب نرفض الديموقراطية وحقوق الإنسان؟
تسيطر على أدمغتنا فكرة أن الديموقراطية قد نشأت في اليونان القديم زمن سقراط وأساتذته وتلاميذه وأنها اختراع يوناني بل غربي بامتياز. لكن جون كين يوضح لنا أن هذه الفكرة كاذبة. بالنسبة إليه وكما أظهر البحث التاريخي العلمي، نشأت الديموقراطية في الشرق الأوسط وتحديداً في سوريا والعراق وإيران، ومن ثم امتدت إلى الهند وإلى الفينيقيين إلى أن وصلت إلى أثينا. هذه الديموقراطية هي ديموقراطية التجمع أو المجتمعين. في هذه الديموقراطية يحق للعديد من الأفراد أن يجتمعوا في اجتماع علني وأن يحكموا أنفسهم على ضوء قوانين يتفقون عليها. بالنسبة إلى ديموقراطية المجتمعين، يتمكن العديد من المواطنين من تنظيم أنفسهم كمتساوين في الحقوق والواجبات والمكانة. ديموقراطية التجمع هي حكم الذات من قبل أفراد متساوين: فالحكم لم يعد في أيدي الآلهة أو الطغاة (John Keane: The life and Death of Democracy. 2009. Simon & Schuster).
يميز كين بين أصناف متنوعة من الديموقراطية التي نمت في أزمنة مختلفة. فبالإضافة إلى ديموقراطية التجمع توجد ديموقراطية التمثيل وديموقراطية الرقابة. لقد ظهرت ديموقراطية التجمع أولا منذ حوالى خمسمئة سنة قبل الميلاد وامتدت إلى العصور الوسطى رغم سيطرة الملوك والأمراء على معظم هذه الأزمنة. ومن ثم نشأت ديموقراطية التمثيل منذ حوالى أربعمئة سنة في أوروبا وأميركا إلى أن ولدت اليوم ديموقراطية الرقابة. تتجسد ديموقراطية التمثيل في أن الشعب حر في اختيار من يمثله. وبذلك الحكم فيها هو حكم ممثلي الشعب. وهؤلاء النواب الذين يختارهم الشعب يناقشون المسائل العالقة ويصنعون القوانين ويقررون من سيحكم وكيف سيحكم من أجل مصلحة الشعب. كما تعتمد ديموقراطية التمثيل على دساتير مكتوبة ومحاكم قضائية مستقلة وقوانين تضمن ازدهار الحريات المدنية ونمو المجتمع المدني (المرجع السابق).
الديموقراطية المعاصرة
أما الديموقراطية المعاصرة فهي ديموقراطية الرقابة. منذ أكثر من خمسين سنة تطورت التكنولوجيا فأنتجت آلات مراقبة دقيقة ما جعل من الممكن توثيق حركة الحكم والحاكم. فمثلا، الثورة الإعلامية المتمثلة في التلفزيون وفضائياته والانترنت أفسحت في المجال أمام التدقيق المباشر في ما يحدث في عوالم السياسة والساسة. فأصبح الحقل السياسي والاجتماعي مراقباً بعناية. كما أن المحاكم المحلية وبرلمانات الأقليات، ومحاكم المواطنين، والأبحاث الاجتماعية المستقلة، واقتراحات الخبراء ونصائحهم إلخ هي آليات مراقبة أساسية للحكم والحكام. هذه الآليات تستطيع فضح الحكم وحكامه أو تصويب أحكام الحاكم، وبذلك آليات المراقبة تحد من السلطة ما يعزز أفق الحريات المدنية. على هذا الأساس، يستنتج جون كين أن ديموقراطية الرقابة هي السلاح البراغماتي ضد التفرد بالسلطة وتمركزها. هكذا تكمن ديموقراطية الرقابة في حكم المواطنين ورقابتـهم لأصحاب القرار (المرجع السابق).
لكن هل سوف تنتصر الديموقراطية وتسيطر على العالم أم ستنهزم؟ يؤكد جون كين على أن التاريخ ما زال مفتوحاً أمام إما انتصار الديموقراطية وإما انهزامها، فقد تبني البشرية نظاماً أفضل منها وقد لا تتمكن من ذلك. التاريخ له الكلمة النهائية والحاسمة. فمثلا، يقول كين إن ديموقراطية الرقابة لن تخلق الجنة على الأرض. فالديموقراطية اليوم تعاني من انهيار الأسواق الاقتصادية وعدم المساواة الاجتماعية. هل سوف تتمكن من حل مشاكلها أم لا؟ يجيب كين قائلا: لا نعلم فالديموقراطية مشروع لم ينته بعد. رغم ذلك، بالنسبة إليه، الديموقراطية اليوم هي الأفضل لأنه من الممكن أن تصحح ذاتها ولأنها قادرة على إدراك نقاط ضعفها وتحاول باستمرار علاج أمراضها بفضل الحريات المتاحة فيها (المرجع السابق). لكن ما زال علينا ان نجيب على السؤال التالي: لماذا نحن العرب نرفض أي نوع من أنواع الديموقراطية؟
السوبر تخلف
نحن نرفض الديموقراطية لأننا نرفض العلم، فالعلم أساس الديموقراطية. وجوهر سوبر تخلفنا يكمن في معاداتنا للديموقراطية والعلم. أما الدليل على أن العلم أساس الديموقراطية فهو التالي: العلم عملية تصحيح مستمرة بحيث تُستبدل النظريات العلمية بنظريات علمية أخرى عبر التاريخ، وبذلك لا يؤمن العلم باليقينيات بل يقاتلها. على هذا الأساس، إذا قبلنا العلم وشاركنا في إنتاجه سوف تزول يقينياتنا عما هو صادق وكاذب وعما هو خير أو شر ما يتضمن قبول الآخر المختلف عنا في معتقداته وسلوكياته. وقبول الآخر أساس الديموقراطية لأن الديموقراطية لا تحدد ما هي المعتقدات الصادقة وما هي السلوكيات الفاضلة بل تدع لكل جماعة أو فرد حرية اختيار معتقداته وسلوكياته. من هنا، العلم أصل الديموقراطية وأساسها.
الآن، الديموقراطية هي حكم الحقوق كحق أن نكون أحراراً وأن نحيا حياة كريمة. فلو أن الديموقراطية هي حكم الأكثرية وقراراتها لتم خرق حقوق الأقلية وقراراتها. ولو أن الديموقراطية هي حكم الأقلية وقراراتها، لتم خرق حقوق الأكثرية وقراراتها. من هنا، لا بد أن تكون الديموقراطية حكم الحقوق الإنسانية. لكننا نرفض الحقوق الإنسانية ما يتضمن رفضنا للديموقراطية، فكل أنظمتنا العربية دكتاتورية ومن ضمنها النظام اللبناني الدكتاتوري في طائفيته. ونحن نرفض الحقوق الانسانية لأننا نرفض الإنسان أصلا، فالإنسان مجموعة حقوق. ونحن نرفض الإنسان لأننا نرفض العلم وما يحتوي من منطق ومعرفة، فالعلم أيضا ميزة الإنسان الأساسية. لكن ما الذي يجعلنا اليوم نرفض العلم؟ يكمن الجواب في أننا نؤمن باليقينيات. فالعلم عملية تصحيح مستمرة، ولذا لا يقينيات في العلم. من هنا، اعتقادنا باليقينيات جعلنا أعداء العلم والمنطق. على أساس كل هذا أمسينا سوبر متخلفين. نحن اليوم سوبر متخلفين. نحن اليوم سوبر متخلفون لأننا نرفض العلم والمنطق ونستخدم العلوم من أجل التجهيل.
ثمة فرق أساسي بين التخلف والسوبر تخلف. الشعب المتخلف هو الشعب الذي لا ينتج ما هو مفيد للعالم والبشرية، بينما الشعب السوبر متخلف فهو الشعب الذي يطوّر التخلف من خلال استعمال العلم من أجل نشر الجهل. وهذا ما نقوم به. فمعظم مدارسنا وجامعاتنا ووسائل إعلامنا لها وظيفة واحدة هي ترويج الجهل والعداوة بين القبائل المذهبية والطائفية المختلفة. وكل قبيلة طائفية لها مدارسها وجامعاتها ووسائل إعلامها الخاصة التي تسعى إلى تحقير سلوكيات ومعتقدات القبائل الطائفية الأخرى وتدعيم العداوة معها. لسنا سوبر متخلفين فقط، بل نحن أيضا سوبر إرهابيين. والفرق شاسع بين الارهاب والسوبر إرهاب. الإرهاب قتل أجساد الأبرياء، بينما السوبر إرهاب هو قتل إنسانية الإنسان. وهذا ما نجيد فعله. يتجسد سوبر إرهابنا في أنه لا يوجد إنسان في عالمنا العربي، لقد خسرنا إنسانيتنا لأننا رفضنا حقوق الانسان فالإنسان مجموعة حقوق. ومن معالم سوبر إرهابنا أيضا أننا خصخصنا الثقافة فخصخصنا «الإنسان». فالفرد لدينا أمسى خاصة هذا الطاغية الكبير أو الصغير. وحين يغدو الإنسان خاصة هذا الطاغية أو خاصة تلك المؤسسة الثقافية او الاقتصادية إلخ يفقد إنسانيته. من هنا، يتجلى السوبر إرهاب أيضا في خصخصة الثقافة والإنسان، فمثقفونا عبيد سيد المال والسلطة كما باقي فئات مجتمعنا الكاذب.
السوبر إرهاب أصل السوبر تخلف. فبما أن السوبر إرهاب قتل إنسانية الإنسان، والسوبر تخلف هو استخدام العلم من أجل التجهيل، وفقط الفاقد لإنسانيته يستخدم العلم من أجل التجهيل، إذن السوبر إرهاب أصل السوبر تخلف ومصدره. في زمن السوبر إرهاب والسوبر تخلف ليس من المستغرب أن نرفض الديموقراطية وحقوق الإنسان. والطريق الوحيد نحو قبول الحقوق الإنسانية والتحوّل إلى الديموقراطية كامن في قبول العلم والمشاركة في إنتاجه لأن العلم أساس الديموقراطية.