شكراً مكيافيللي نازع الأوهام عن السياسة
د. منى فياض
لا يهدف فن السياسة إلى الوصول للمثال المكتمل، بل إلى رَوْز مختلف الاحتمالات المتعلقة بكل وضعية بطريقة واعية. إنه تغليب تحليل الأفعال على الركون إلى المبادئ. هذا هو الانقلاب الذي أحدثه مكيافيللي.
والغريب أن أكثر ما يُعرف عن المفكر نفسه، هو الاسم الشائع الذي أوجده: المكيافيللية؛ وبخاصة النعوت التي تنتج عنه، سواء استخدمت لفعل أم لشخص. جميعنا يعرف ما تحمله هذه التعابير من افتتان ومن نفور تجاه الممارسة السياسية، التي لا يمكن أن تكون سوى واقعية ومتضمنة لاستخدام جميع الوسائل، بما فيها التلاعب، التي تجدها صالحة للوصول إلى غاية ما.
خصصت مجلة «نوفيل ابسرفاتور» الفرنسية عددا خاصا حول «مكيافيللي الحقيقي». ذلك أن السكرتير الفلورنسي الذي كتب «الأمير» وظل موضع اهتمام وجدال طوال قرون عدة، نجده غير معروف جيدا في الوقت نفسه.
يمكن اعتبار مكيافيللي كالمنشور الذي يسمح بقراءات متعددة وموضعة متفاوتة للجدل السياسي للحقب السياسية على اختلافها. وعند تتبع تاريخ مختلف التأويلات التي حصلت لمكيافيللي يمكن تحقيق خارطة للفكر السياسي الأوروبي، ذلك أن أحداً من المفكرين السياسيين الأوروبيين لم يَنجُ من مواجهته في مرحلة ما من مراحل حياته. ولقد تعرض لاستخدامات سياسية شتى وللتحوير وللتزوير، وكان موضع تناقض كبير، بخاصة في محطات التاريخ الكبرى؛ ذلك أن حضور مؤلف «الأمير» كان دائما مؤثرا في لحظات التوتر السياسي الكبرى، ما سمح للدكتاتوريات بإعادة قراءته من منظور نيتشوي، وصار قبل كل شيء مفكر القوة والعظمة للدولة «العصرية» الفاشية.
وعندما نشر موسوليني كتابه الشهير «مقدمة لمكيافيللي»، والذي عرّف فيه الامير «ككتاب الجيب لرجل الحكم» مستخدما إياه لكي يبني نقده للنظام التمثيلي ولمفهوم سيادة الشعب. اعتبر البعض حينها أن موسوليني «يخترع» مكيافيللي على قياس حاجته.
وانطلاقا من قراءة مكيافيللي، معه أو ضده، طرحت أسئلة حدود السلطة والأمراء، والانقسام بين السياسة والأخلاق، بين الامتثال لأفعال الحكومات أو لمبادئ الدين. وكانت في معظم الأحيان قراءات شكاكة وسيئة النية ومتحاملة غالبا، خصوصا أن نقاشه لا يحتد إلا في لحظات حروب الأديان.
يعرف عن مكيافيللي اعتقاده بأن الغاية تبرر الوسيلة أو الوسائل. وهذا صحيح اذا لم يحمّل هذا القول بحكم أخلاقي. والإنسان بالنسبة إليه ليس «الحيوان السياسي» الذي وصفه أرسطو فقط. إنه قبل كل شيء إنسان تحركه السلطة التي يرغب بها، أو تلك التي يخضع لها. والقاعدة الوحيدة التي يقدمها مكيافيللي، هي أن يبرهن السياسي عن بطولته، إما بالاحتفاظ بمجده الخاص، أو بهدم مجد أعدائه.
موقف مكيافيللي طابعه لا أخلاقي amoral بمعنى المحايد، وليس immoral بمعنى الفاسد؛ ذلك أنه يهتم باتخاذ موقف علمي يدرس ويصف عبره اضطرابات المدينة. وابتكاريته تكمن في اهتمامه بالمدينة من دون الالتفات إلى ما يرغب به مواطنوها. فهو يزعم انه يفهمهم أكثر مما يفهمون أنفسهم. يعتبر البعض أنه قدم أول فحص، وربما الوحيد، للتعرف إلى قلب الإنسان بطريقة موضوعية، ولدراسة شغفه كما تتم دراسة مسألة في الرياضيات.
كما أن عمله يضيء بشكل مذهل عادات الميديا الراهنة. فميزة مكيافيللي انه وضع حداً لخبث الكلام المعسول، فهو أول من وصف طرق السلطة العارية: إن النضال من أجل الحصول عليها هو نوع من مواجهة طموحات أنانية ليس غير؛ بالمقابل ليس هناك عنده من إشارة لغاية السلطة، وكأن امتلاكها هو الغاية.
هل تحتفظ رسالته بقيمتها حتى الآن؟ مبدأ السلطة ظل هو نفسه، لكن الغاية المعلنة عنه اختلفت. لم يعد ممكنا أن تزعم السلطة أنها هي غاية نفسها الوحيدة ولخدمة مصلحة أنانية. فالشعب الذي هو السيد المطلق، يتطلب أن تمارس السلطة من أجل مصلحته وليس لإشباع غرائز الهيمنة عند من يمتلكها. ولكي يتم قبولها، يجب أن يتغذى طموحها بأسباب نبيلة. لكن كل هذا ليس في الغالب سوى مظاهر، وكما كان الوضع في أيام مكيافللي، لايزال الخبث المتهكم مستحكما. واستدعاء الأخلاق ليس سوى سلاح في خدمة المعركة.
وعلى الرغم من حسن النوايا، لاتزال السياسة والمبادئ الأخلاقية في نزاع دائم. كان هذا صحيحا في الأمس، وهو صحيح الآن، ومهما كان نوع النظام السائد. فأنظمة الاستبداد تحافظ على هيمنتها عن طريق إشاعة الرعب، وكل الوسائل صالحة لذلك: خداع، تزوير، مجازر، اغتصاب الحقوق. في الأمس كانت الشعوب مجرد شاهد يطلب منه الدعم لهذا المنافس أو ذاك. ولم يختلف الوضع في عهد المستبدين العصريين من ستالين إلى هتلر، وموسوليني، وماو، وصدام وفي مختلف البقاع اتبعوا وسائل عصرية فقط: البروباغندا الضرورية للحفاظ على طواعية الشعوب ولإعطائهم وهم المشاركة العفوية؛ وما يجعل استخدام الكذب أكثر انتظاما: الحرمان من الحريات العامة ما يدفن أي احتجاج.
وحدها هذه الحريات تعطي الديمقراطية معناها. فعندما تسود الديمقراطية يكفّ السياسي عن إثارة الخوف، بل يبحث عن إثارة الإعجاب مستخدما كل أسلحة الاغراء. والحريات فقط، هي التي تلزمه باحترام النقاش وتجعله خاضعا للرقابة وللمحاسبة. كما أن السلطة تنتزع منه بواسطة قرار من الشعب، وليس من قبل قوة غاشمة في أيدي قلة. إذن عليه مراعاة الظروف التي تغيرت.
لكن في العمق، تشترك الدكتاتوريات والديمقراطيات بغاية واحدة: رغبة امتلاك السلطة والحصول عليها بكل الوسائل ولأطول فترة ممكنة.
من هنا الانزعاج الذي يستمر مكيافيللي بالتسبب به لقرّائه، وهذا ليس غريبا عن التجاذبات التي تسبب بها اسمه عبر القرون. فهناك نوع من القلق لأن تتعرّض كل فكرة سياسية إلى اختزالها بوضوح ووسمها بـ«المكيافيللية». فهو عندما يعالج قانونا ما أو مؤسسة، يعتبرها، وبشكل مسبق، قابلة لأن تكون فاسدة.. على عكس الفلاسفة الكلاسيكيين الذين يعرضونها كغير قابلة، بحكم طبيعتها، للفساد.
على كل حال تسمح جرأة مكيافيللي التحريضية نفسها بمقاومة المكيافيللية بشكل أفضل مما لو تم الاكتفاء بالتخفي والتهرب اللذين كانا سائدين في الاعتبار السابق للسياسة كشأن نبيل. ولذا يظل مؤلف «الأمير» مفكراً راهناً في أيامنا هذه بالتحول الذي أحدثه للنظرة السياسية، ولا مناص لنا من وراثة هذا التغير المهم للمنظور الذي أوجده لها.
وما يمكننا الاحتفاظ به هو التالي: كل فعل سياسي بعد مكيافيللي، سواء كان فرديا أم جماعيا، مطبوع بانعدام الشفافية، ومحروم من أي ضمانة لجهة نتيجته.
كاتبة من لبنان
أوان