الأقليـات… والحلـول المُـرة
سمير التنير
نفتقد في الوطن العربي أية دراسة علمية عن الأقليات في مراكز البحوث العربية (الا في الجامعة اليسوعية في لبنان). واذا أراد الباحث العربي النظر في تفاصيل جسد امته فعليه ان يقصد مراكز البحوث الأوروبية والاميركية. لقد اعتمدت أوروبا هذه الدراسات في استعمارها العالم العربي. لكن مراكز البحوث الاميركية تقدم اليوم إلى الساسة في واشنطن دراسات اكثر حداثة، وتقضي الامانة العلمية القول ان معظم هذه الدراسات ينطوي على معلومات صحيحة وتفاصيل دقيقة عن الاعراق والأديان والمذاهب والفروق بينها. لكن استخدامها لم يكن لغرض علمي او إنساني بحت. وانما استهدف التمكين للاستعمار قديما، وتأليب الأقليات العرقية والدينية ضد بعضها البعض. وضد الأغلبية، وضد الاستقرار السياسي والاجتماعي، حديثاً.
ان المظلوم لا يستطيع ان يقدم من كيانه وأرضه شيئا للمحروم. فالعرب الذين غدر بحلمهم كأمة ذات كيان واحد، لا يستطيعون ان يقيموا على أشلائهم المبعثرة كيانات مستقلة، لأقليات تعايشت معهم تاريخيا، إلى درجة الاندماج الثقافي في الدين واللغة.
لقد رفض أكراد شمالي العراق أصلا القبول بالعراق العربي الحديث. واستغلوا كل ضعف داخلي او تحريض خارجي للثورة والتمرد على السلطة المركزية. وها هم اليوم يستغلون الاحتلال الاميركي لاقامة كيان كردي شبه مستقل. وربما يعلنون استقلالهم في المستقبل القريب. من هنا يأتي تأكيد الأكراد علناً انهم لا ينوون مرحليا اعلان الاستقلال. فهم يعرفون ان الحياة مستحيلة لدولة كردية برية لا تطل على منفذ بحري او جوي. ومعادية للدول القوية المحيطة.
لقد ذوبت المدينة العربية الفوارق العنصرية على مر التاريخ الطويل، وأعادت تقديمها في اطار عروبة ثقافية صافية. فشاعر العروبة احمد شوقي تركي الاصول وأمين الريحاني ماروني وقسطنطين زريق وميشال عفلق وجورج حبش من الأرثوذكس. وحتى بعض الأسر السورية التي قادت النضال الوطني والقومي، كان بعضها في اصوله البعيدة تركياً (القوتلى) او كرديا (ابراهيم هنانو). وكلهم لم يصدر عنهم صوت واحد فيه تذكير بأصولهم العرقية او الدينية. وكان ولاؤهم الأول والأخير لعروبة متعالية فوق العنصرية.
لقد تضافرت مجموعة مركبة من العوامل لتجعل من قضية النزاعات الإثنية احدى القضايا المزمنة في البلدان العربية. اما العامل الأول فهو يأتي من الخلل في اسلوب ادارة التنوع الإثني واللغوي والديني، وهو خلل يتجسد في اقدام الفئة الحاكمة على تهميش ما عداها من الجماعات الأخرى، والتهميش قد يكون اقتصاديا او ثقافيا او سياسيا او مركبا من عدة عوامل. ثم ان التهميش نسبي يرتبط في وجوده وفي نسبته بتوازنات القوة بين الجماعات المختلفة، أي انه متحرك وليس ثابتا. كما ان رد فعل الجماعات الإثنية على ما تتعرض له من تهميش ليس واحدا وفي أحيان كثيرة يصعب التنبؤ به. فهو قد يكون بالانخراط في العنف (أكراد العراق من العشرينيات وحتى عام 2003) وبالهجرة (يهود البلدان العربية بعد نشأة اسرائيل) او بالمطالبة السياسية، او بالانكفاء على الذات.
تلعب المتغيرات من الناحية التاريخية دورا تكوينيا في توجيه التفاعلات السياسية، ومنها العلاقات الاثنية. ويلعب الدور الدولي نشاطا خطيرا يتجاوز نظيره في أي منطقة اخرى من العالم بسبب الموقع الاستراتيجي للوطن العربي واحتياط النفط ووجود اسرائيل. والأدوار التي لعبتها فرنسا وبريطانيا وأميركا أخيرا في تحريض الأقليات وتشجيعها على بناء كيانات خاصة بها، اكثر من ان تحصى.
يكشف مسار النزاعات الطائفية بعد احتلال العراق عن تبلور ثلاث آليات رئيسية طرحت للتعامل مع النزاعات القائمة، وتلك هي الديموقراطية التوافقية والفدرالية والتقسيم. ان تلك الآليات ليست جديدة فدعاوى تقسيم المنطقة على أسس اثنية لازمت الاستعمار الأوروبي التقليدي، وتعمقت مع انشاء دولة اسرائيل. وقد ظل لبنان يمثل النموذج الوحيد للديموقراطية التوافقية. ومع احتلال العراق أصبح هذا النموذج مرشحاً للتطبيق في اكثر من بلد عربي. وحتى عام 2003 كانت دولة الامارات هي الدولة الفدرالية الوحيدة في المنطقة. وهي في فدراليتها استندت إلى الأساس الجغرافي البحت باتحاد الامارات السبع في كيان اتحادي واحد. اما الآن فتطبق الفدرالية في العراق والسودان على أسس عرقية.
ان الآلية الفضلى هي تلك القائمة على المواطنة والتي تعرف بالديموقراطية التكاملية والتي ترفض استئثار الأغلبية الطائفية والاثنية بكل شيء وحرمان سواها. كما ترفض المحاصصة السياسية على أسس اثنية. وتقوم هذه الآلية على الحياد الإثني في صنع السياسات العامة وايجاد مؤسسات عابرة للطوائف والمساواة امام القانون والالتزام بنصوص شرعة حقوق الإنسان.
ان الالتزام بالانتماء القومي في الوطن العربي يسهل امر معالجة موضوع الأقليات. اذ تدرج بعض الأنظمة العربية الشيعة ضمن الأقليات، وهذا خطأ فادح، لان الانتماء القومي (في رأينا) يعلو على الانتماء المذهبي، الذي يقود إلى الحرب الأهلية.
السفير