الدولة القُطرية: فشل أم استحالة؟
سليمان تقي الدين
يتجدّد النقاش اليوم بين النخب الثقافية حول واقع ومستقبل الدولة القُطرية. يحاول الفكر القومي أن يستعيد شبابه بعد كل الاخفاقات. يستنتج البعض من مشكلات العرب استحالة قيام الدولة القطرية بمهام الاستقلال والتنمية والديمقراطية، وهذا كلام قديم، ويضيفون مهمة الوحدة الوطنية أو المجتمعية. تبدو هذه الوقائع مقنعة في ظاهر الحال. لم يحقق العرب الدولة الأمة (الدولة القومية الوحدة العربية) فهم يفشلون في انجاز سائر المهام الأخرى. لكن سؤال: لماذا لم يحقق العرب الوحدة؟ فالجواب أبسط من البسيط بالقول إن الامبريالية والصهيونية والرجعية منعتهم من ذلك.
تبدو المهمة كما يقول أصحاب هذا الرأي هي “الدعوة” إلى اعتماد سياسات وحدوية. كيف يمكن اعتماد سياسات وحدوية من دول قُطرية ومن قوى اجتماعية وسياسية هي ركيزة القُطرية أو على الأقل هي المولود الشرعي لنظام التجزئة العربية، فلا جواب. نقفز دائماً في التفكير العربي من الواقع البائس إلى “الطوبى” أو المشروع الأمثل. هذا ليس عيباً بل هو أساس كل مشروع. العيب يكمن في تخطيط المسافة بين الواقع والمرتجى، بين المعطى والممكن.
جدد الفكر القومي تحت ضغط الحياة والتجارب بعض طروحاته كأَن اضاف إليها لمسة ديمقراطية أو نزعة اشتراكية. كأن عقد صلحاً بين الاتجاهات الثقافية والفكرية ومزاوجة بين القومية واليسارية والقوى الدينية أو ذات التوجه الديني. كأن أنشأ مؤتمراً دائماً وتحالفاً تحت عنوان “المؤتمر القومي والاسلامي”. كأن انتبه بعد طول غياب لمسألة الأقليات الاتنية أو الدينية أو اللغوية. كأن تبنى مسألة الديمقراطية في الدولة أو الحزب.
لكن اضافة الصفات وزيادة أبعاد المشروع السياسي ومجاورة الشعارات وقبول الحوار مع الآخر، وخفض المنسوب الايديولوجي في رسم الحدود، ليست كافية لبلورة مشروع نهضوي. في الساحة السياسية العربية “كوكتيل معارضات” و”كشكول أفكار”. ما لا يتوافر بعد هو البرنامج السياسي العملي الذي يجعل من الأفكار والشعارات قوة سياسية مادية فاعلة مؤثرة في المجريات العربية. في العلاقة بين العروبة والاسلام مكون أساسي فيها، وبين حركات الاسلام السياسي اليوم علاقة غير سوية. الاسلام السياسي الفاعل لم يتقدم خطوات مهمة باتجاه الليبرالية فكراً وممارسة إلا في بعض طروحات مفكرين محدودين ليسوا هم قادة الحركات الحزبية. الاسلام الحزبي فئوي ومذهبي بالمعنى الواسع للكلمة.
لا شك بأزمة الدولة القُطرية أو بفشلها من منظور المهام الوطنية (الاستقلال والسيادة والتحرر من التبعية) ومن منظور المهام التنموية وحقوق الانسان والمشاركة وبناء المجتمعات القوية اقتصادياً (التصنيع مثلاً). ولا شك أكثر أن المدى الحيوي لنمو الدول وتطورها في النطاق الاوسع (القومي) يوفر مقومات هائلة لا توفرها الدولة القطرية.
بديهي أن نتصور العرب متجمعين وما يمكن أن يعنيه ذلك من تنوع وغنى في الثروات الطبيعية البشرية والمادية وما تؤمنه من قوة، لكن هذا الكلام وحده تعبوي تحريضي تبشيري قديم مستهلك. لقد كان العرب جزءاً من امبراطورية (العثمانية وما قبلها) تفككت الامبراطورية بسبب نظامها السياسي أو منظومتها الدولتية والاقتصادية ولم يستطع العرب أن يكوّنوا متحداً بديلاً لتخلف القوى التي قادت المشروع العربي. كانت لدى المجتمعات العربية “قابليات” للتفكك وللتجزئة وما تزال وهي تتعمق بأكثر مما يتخيّل البعض لتخلف مشروعهم النهضوي.
لم يعد علينا اليوم أن نسأل لماذا تخلف العرب والمسلمون وتقدم غيرهم، أي الغرب، بل لماذا تخلف العرب أو حتى بعض العرب كمصر مثلاً وتقدمت تركيا وايران أو اندونيسيا، أو الهند أو الصين والبرازيل الخ.
وما الذي ينقص الدولة “الفرعونية” التي كان بعض الفكر يعتبرها أمة مستقلة متماسكة ذات حضارة مميزة عن الآخرين؟ وما الذي قاد العراق بحضارته وطاقات شعبه وثروته إلى المزالق والمهالك، ولماذا ظهر دولة هشّة ومجتمعاً مشرذماً لمجرد انهيار السلطة فيه؟ ولماذا ينتج الشعب الفلسطيني الموضوع في مرجل يغلي فوق نار الاحتلال ظاهرات قبلية انقسامية لم يعرفها في تاريخه من قبل؟ ولماذا يشكل وجود تيار مذهبي مستحدث في اليمن (الحوثيون) في صلب المذهب “الزيدي” حالة انشطارية؟ ولماذا ننشغل من الطائفة الاسلامية المسيحية إلى المذهبية السنية الشيعية في لبنان ونحن نواجه “اسرائيل” ويهودية الدولة المتنامية في شرعيتها الدولية والعربية؟
هذه الأسئلة وكثير غيرها هي التي يجب أن تحظى بالتفكير والتأمل، لأن الاجابة عنها هي المدخل إلى ولوج المشروع السياسي العربي لبناء الدولة الحديثة التي تتكامل وتشتاق إلى مداها العربي بداعي الفطرة والضرورة عندما تستقيم المجتمعات في مفاهيمها وقيمها المعاصرة.
إن المشروع العربي يتجدد من تجديد مفاهيم الأمن العسكري والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ومن وعي الحاجات الانسانية المعاصرة ومن التركيز على مفهوم المجال العام والمصلحة العامة وحقوق المواطن في وجه أنظمة تقوم على عصبيات محتكرة للفعل البشري ومسيطرة على مناخ الحرية وسالبة للعقل والوجدان وضاربة للجذور في بنية الاستبداد.
الخليج